العدد 4919 - الأربعاء 24 فبراير 2016م الموافق 16 جمادى الأولى 1437هـ

اقلبوا الصفحة!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سأبدأ مقالي بقصة ذكرها أكثر من كتاب من كتب السِّيَر. تقول: «أسَرَ مُسلم بن عُقبة رجلاً (العباس بن سهل الساعدي) من أهل المدينة بعد اجتياحها يوم الحرّة، وأمرَ بقتلِه، فأتاهُ قومُ الأسير وقد أحضِرَ غذاؤه. فقال الأسير: أصلحَ الله الأمير، والله لكأنها جَفْنَة (الكرم والطعام) أبيك عُقبة، حينَ يخرجُ وعليه مُطْرَفٌ خَزٌّ (ثوب أو رداء) حتى يجلس بفنائه، ثم توضَعُ جَفْنتهُ بين يَدَيْ مَنْ حَضَر.

فقال مُسلم بن عُقبة: أوَقَد رأيتَه؟! قال: نعم. قال: صَدَقت... كان كذلك، وعفا عنه. وبعد أن خَرَجَ منه سُئِل ذلك الرجل: هل كان أبوهُ كذلك؟ قال: لا والله .. لقد رأيته في عباءَةٍ يجرُّها على الشَّوك، وما كنا نخاف على رَكائِبها ومتاعنا إلاَّ منه (أو أن يسرقها غيره كما في لفظ ابن عساكر في تاريخ دمشق). وكان هذا الكلام من العباس الساعدي خدعة كي يفلت من قتلٍ مُحقق من ابن عقبة.

بدأتُ هذه القصة كي أقف على أمرٍ مهمًّ في التاريخ وهو أن عدداً من الشخصيات قد بُنِيَت سمعتها وصِيْغَت في ظروف خاصة لا نعلم صحيحها من فاسدها، صِدْقها من كَذِبها. فقد خلّفت الأحداث السياسية على مر التاريخ أجواءً من الانقسامات وبالتالي الحروب الدعائية (ضد أو مع) الأفراد والجماعات التي تم توارثها حتى ثبَتَت على أنها حقائق، وأعان عليها في ذلك مَنْ هم غير ثقات.

وهي في كل الأحوال تعكس حالة الهَوَس بالآباء والأجداد والتباهي بهم أمام الآخرين. وهو أمر لا ينسحب على الأفراد فقط بل تحوَّل الأمر إلى اعتداد بالدَّم والحيلولة دون اختلاطه بدماءٍ أخرى عبر النسب والتصاهر، تطوّرت لتأخذ أشكالاً من الموانع القبلية والعِرقية والدينية والطائفية كما نجد اليوم في أكثر من تجربة في أجزاء كثيرة من العالميْن العربي والإسلامي. وهذا في الحقيقة داءٌ عضال.

قبل أسبوع تقريباً نشر ويل دانام تقريراً مهمّاً حول إنسان النياندرتال. وقبل أن نتحدث عن التقرير يجب أن نفسر ماهية هذا الإنسان. تشير الدراسات الأنثروبولوجية أن إنسان النياندرتال تميَّز بضخامة الجثة والبناء الجسمي المتين، وحاجبيْن كثيفَيْ الشعر، وأنه عاش في قارَّتَيْ أوروبا وآسيا منذ ما يقرب من 400 ألف عام، لكن بدأ انقراضه بعد ظهور الإنسان العاقل في العالم بقليل.

وعلى رغم صفاته الجسمية الغربية تلك (أي إنسان النياندرتال) فإنها لم تجعل منه كائناً ضعيف العقل أو أن قدراته الذهنية ضعيفة بل على العكس، فقد كان ذكيّاً جدّاً ويمتلك قدرات هائلة في الحركة ومهارة في الصيد وفي إيقاد النار لا نظير لها. وكانت لديه لغة تخاطب بأصوات معينة ومجموعة إشارات جعلته ينسج أواصر اجتماعية ممتدة ولغة تواصل نشطة مع الآخر.

أرجع إلى ما قاله ويل دانام. يقول إن الأبحاث الجديدة تتحدث عن «حدوث تزاوج داخلي بين الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال منذ نحو 100 ألف عام» بعد هجرة واسعة قادت الإنسان العاقل (الذي كان يسكن إفريقيا) صوب آسيا وأوروبا. وكان دليلهم في ذلك أن تحليلاً لجينوم أنثى من النياندرتال وُجِدَ في كهف بجنوب سيبيريا بيَّن بقايا حمض نووي لإنسان عاقل، الأمر الذي يؤكد حدوث تزاوج.

الأهم في الموضوع هو أن العديد من السِّمات التي في البشر اليوم «مثل الاكتئاب وإدمان النيكوتين وتجلط الدم وحدوث تلف في البشرة» مَردّها إلى ذلك التزاوج بين إنسان النياندرتال والإنسان العاقل، بحسب الدراسات المعمّقة لبقايا الحمض النووي في جينوم الإنسان الحديث الذي هو سليل الجنس البشري الذي نشأ منذ 200 ألف عام في إفريقيا قبل أن يرتحل إلى أماكن متعددة في العالم القديم.

من بين ذلك كله نفهم أن الإنسان الأول كان إفريقيّاً (والذي مع الأسف بات في صورة بشرته الغامقة محل استهجان وتمييز في هذا العصر). وأن النقاء في السلالات البشرية لا وجود له بالمرة، بعد الهجرات الواسعة التي قادت الإنسان العاقل «الإفريقي» لأن يتّجه صوب أوروبا وآسيا الوسطى ويهيمن عليها، ويقيم عملية تزاوج مع الأقوام الموجودة هناك ومنها النياندرتال.

أيضاً، لو قُدِّر لأحد أن يُحلِّل بقايا عظام جدّ من أجداده داخل أحد الأغشية الأكسيدية المتلوّنة بكربون من الكالسيوم البلوري ثم سلّط عليها اليورانيوم المشع فماذا سيجد في أصوله الحقيقة الغائرة من الزمن البعيد؟! لا أحد يعلم إلى أين سيصل نَسَبه وإلى أيّ عرق وسلالة بشرية سينتمي؟! وهو أمر بالتأكيد قد لا يَسرّ البعض؛ كون نهايته لن تكون مثلما يعتقد أو يتصوّر.

قبل ثمانية أشهر وأسبوعين من الآن أشرتُ في إحدى مقالاتي إلى كتاب ثمين لـ كريستين كينيلي أسْمَتهُ: (The Invisible History of the Human Race)، أي «التاريخ الخفي للجنس البشري» والذي يتحدث عن تأثير التاريخ والصفات الوراثية على هوية ومستقبل الإنسان. وقد جرَّبت هذه المرأة الاسترالية أن ترى أصلها الحقيقي فتبيَّن أن أحد أجدادها كان مجرماً من أيرلندا، وأنه وبسبب إجرامه في بلده تمّ اعتقاله ونفيه إلى إحدى المستعمرات الانجليزية المخصصة لسكن المجرمين منذ قرون!

خلاصة القول هو أن يعي المرء أن مُنجَزه هو معيار قيمته. وأن مستقبله سيُقرأ من خلاله. لذلك فالاعتداد بالنسب بصورته السلبية القائمة على التفاخر والاستعلاء على الآخرين ليس أمراً حسناً. وهو أمر لا تُشجّع عليه سوى العقول المريضة التي تشعر بنقص في نفسها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4919 - الأربعاء 24 فبراير 2016م الموافق 16 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:45 ص

      كلكم لآدم وادم من تراب ..قال تعالي {ان اكرمكم عند الله اتقاكم] ولكن تعصب الجاهلية واتباع التقاليد والاعراف هو الجهل بعينه لنا نراه هذه الايام من التشدق بالاصل والنسب والنهاية تلقي في حفرة من التراب ولا حول ولا قوة الا بالله

    • زائر 3 | 8:18 ص

      .. فأيما أو كيفما نظرت إلى الحياة الفانية فإنك لا بد أن ترجع إلى القراء العكسيه وليس الطوليه ولا العرضيه!!؟

    • زائر 2 | 12:52 ص

      وأين هو الانسان العاقل مع الادمان والنيكوتين ؟!

    • زائر 1 | 12:31 ص

      A useful artical and has new information u artical are always nice

    • زائر 4 زائر 1 | 11:13 ص

      حضرتك

      هندي ؟

اقرأ ايضاً