العدد 4930 - الأحد 06 مارس 2016م الموافق 27 جمادى الأولى 1437هـ

حلم أسمنتي

 كعادته استيقظ فجراً بنشاط وجسده مازال مرهقاً يرسل إشاراته الخفية على هيئة آلام متفرقة طمعاً في المزيد من الراحة، لكن كثيراً ما يكون العقل أقوى من القلب، نهض واغتسل سريعاً، ارتدى ملابسه المتسخة الرمادية، حشر قدميه في حذائه الجلدي الصلب، تناول قطعة الخبز الطازجة مع كوب من الشاي الدافىء. هذا هو حال كثير من الوظائف التي تتطلب كدحاٌ مستمراً يصبح الشخص فيها آلة يعمل كل يوم في الوقت وبالمجهود نفسه.

جلس مع زملائه في انتظار قدوم الحافلة، ما لبثوا حتى توجَّه الجميع نحو ميدان الإنجاز، استأنف كل واحد منهم عمله. بدأت أصوات الآلات ترتفع على نغمة واحدة لساعات طوال، حين تتغير سيمفونيه الآلات يعرف أن هناك خللاً ما! لديه حس مرهف لا يخطئ ابداً، حين يغوص في تفاصيل عمله يتجرد من كل حواسه إلا سمعه، يكون حاضراً معه في كل نغمة تنسج من هنا أو هناك.

عند الغروب وقبل قدوم الحافلة يعشق التعمق في تفاصيل إنجازه، يغمض عينه ويمرر يده الخشنة ذات الندوب المتفرقة ليسمع صوت التوازن لا أكثر، لديه العديد من الأبناء، هي تلك الميادين التي يحرص على بلوغ نضجها، يعود إليها كلما دعت الضروره، لكنه واقعاً لم يمتلك زوجة! يعيش وحيداً مغترباً يشاركه وحدته مجموعة من أبناء بلدته الذين يرفعون علامات التحضر والرقي لدول لا ينتمون لها، لا يعرفون منها إلا عملتها ودكاكينها الرخيصة.

ذات يوم طلب منه زيارة لأحد أعماله القديمة، أبدى رغبته ووافق على زيارته مع زملائه، غبطت عينه حين رأى أحد أبنائه مازال شامخاً عصرياً بدأت عيناه تتلقف كل ناحية، وبعد قليل استأنف الجميع عمله في الهدم وأذنه تصغي بدقة للمطارق، قام بعدها بجولة للتأكد من أن كل شيء يسير كما خطط له، وفي زاوية ما رأى آلة بيانو ملقاة على الأرض، جذبته هذه الآله كثيراً على رغم أنه لم يرها إلا مرات معدودة على شاشة التلفاز.

جلس أمامها بوقار، تردّد أن يضع أصابعه على لوحة المفاتيح خجلاً من خشونة يديه ونعومة المفاتيح، مد أصابعه بهدوء واستقرت على البيانو، كانت لحظة عاطفية! بدأ يجرب التناغم وأغمض عينه وابتسم - على غير عادته - أحس أن قلبه يرقص فرحاً وجليد السنوات الأسمنتيه ذاب في هنيهة، عزف موسيقى عشوائية ولكن بالنسبة له كانت من أجمل الألحان التي أطربت أذنه وكانت عينه تمطر من السعادة، عبر خلالها إلى عالم جميل يعتبر الحب والكمال أهم قوانينه، رأى نفسه هناك عازفاً يرتدي بدلة ناصعة البياض مع ربطة عنق سوداء - تماماً مثل ألوان لوحة مفاتيح البيانو! والجمهور يصفق له بحرارة، وإضاءة المسرح تتوجه نحوه في كل ناحية.

استفاق من حلمه على صوت أحد العاملين الذي يطلب استشارته، مسح دموعه واستعاد هيبته وعاد إلى الميدان يهدم ويصرخ ويلقي الأوامر، يطلب جلب أكياس من الأسمنت ويساعد البقية في جلب الطابوق.

هناك دائماً مساحة خالية تبقى في القلب لا تمتلىء أبداً، هذه المساحة تبقى أملاً نتمنى أن نراه واقعاً مهما بلغنا من العمر، يبقى يلاحقنا في أحلامنا.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً