العدد 4933 - الأربعاء 09 مارس 2016م الموافق 30 جمادى الأولى 1437هـ

مقاعد الذاكرة وطائرة النسيان

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في كل سنة يموت 56 مليون إنسان. هكذا تقول منظمة الصحة العالمية. ولو استحضرنا التطور العلمي الذي نعيشه اليوم، والذي جعل من أعمار البشر أطول وحَدَّ من حالات الوفاة الزائدة وقارناه بالسابق، فإن ذلك يعني أن عدد الوفيات في الأزمنة الغابرة التي كانت تفتقر إلى التطور الطبي كان أزيد بكثير طبقاً لتعداد سكان تلك الأزمنة. فحين تكون نسبة الوفيات اليوم 0.8 في المئة من عدد سكان الأرض فإنها في السابق حتماً مضاعفة. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأمراض الفتاكة.

السؤال الآن: كيف يمكن لواحد (أو أكثر) من الـ 56 مليوناً من البشر الذين يُتوفّونَ كل سنة أن يجعل اسمه حاضراً؟! بمعنى: كيف له أن يحفظ اسمه مِنْ ألاّ يُدفَن مع جثته تحت التراب، فيكون نسياً منسيّاً؟! إنه في الواقع لأمر صعب، وخصوصاً أننا نتحدث عن وجود بشر أحياء على هذه الأرض يصل تعدادهم إلى سبعة مليارات و290 مليون إنسان (حتى يناير/ كانون الثاني 2016م) وكما يقال: الحيّ أبقى من الميت، الأمر الذي يجعل الموتى في وضع لا يُحسدون عليه إن هم أرادوا أن يُذكَروا. وأيضاً هناك أزيد من 490 ألف طفل وطفلة يُولدون يوميّاً في العالم، وهو ما يزيد من نسيان الموتى كذلك!

مثل هذا الطلب يزداد تحدياً أيضاً كلما مضت السنين. فمن ذا الذي يُمكنه أن يتذكر أحداً مات منذ ثلاثين عاماً بشكل دائم حتى ولو كان من عظام رقبته، فضلاً عن الأبعدين الذين يُنسَون بمجرّد ذهاب الأقدام عن القبور. لكن الحقيقة، أن هذه القاعدة لا تستقيم دائماً مع ما نقوله، حين يتعلق الأمر بإرث الناس. بالتأكيد، نحن لا نتحدث عن إرث المال الذي لا يستطيع هو الآخر حماية اسم صاحبه من النسيان (ما خلا عمل الخير) بل حديثنا هو عن إرث العلم الذي يُخلّد صاحبه حتى بعد مماته.

ولا بأس هنا أن أعيد التذكير أن الولد ليس دائماً هو الأقدر على تخليد اسم أبيه حتى ولو حَمَلَه وورّثه لأبنائه، ومُهِرَ اسمه في الوثائق الرسمية. فأبو عبدالرحمن البصري وأبو علي الجعفي وهَنَّاد بن السَّرِيّ وبِشْر الحافي وأبو جعفر الطبري، وابن القاسم الأنباري وأبو علي الفارسي وإسحاق نيوتن وكونسبرغ عمانويل كنت وبول إيردوس كلهم لم يُخلّفوا أبناءً لكنهم ظلوا خالدين، بينما نُسِيَ مئات الملايين من الناس مِمّن كان لهم أبناء وبنات والفرق بين النموذجين هو العلم الذي ورّثه الخالدون للبشرية.

من هنا أستحضر أحد الذين لم تستطع السنين أن تُمحِي ذكرهم على رغم مُضِيّ أزيد من 2400 سنة على رحيله. إنه الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو، الذي صادفت ذكرى وفاته (07 شهر مارس/ آذار). فهذا الرجل المقدوني العظيم قد حفر اسمه بعلمه الوفير على مر العصور التي تلت نشأته وشهرته كعالِم ومُربٍّ وحكيم. بل وتأثر به علماء الأديان السماوية، وتحديداً المسيحيين والمسلمين في مسائل المنطق والفلسفة والأخلاق والسياسة والاجتماع.

ليس المسيحيون والمسلمون فقط بل حتى اليهود وتحديداً جيبهم الذي كان موجوداً في الأندلس وأوروبا ثم انتقل إلى مصر، حين قام موسى بن ميمون (وكذلك موسى وصموئيل بن طيبون في فرنسا) بمقاربة كتابات أرسطو اليونانية مع كتابات ابن رشد الفلسفية كما يذكر الرافعي. وهذه مناسبة جيدة لأن نتحدث عن هذا الرجل ولو بشكل مقتَضَب كي نعرف مكانته ونتدبر أمره.

تذكر مصادر التاريخ أن أرسطو (أو كما يُنطَق: أرسطوطاليس) وُلِدَ في سنة ثلاثمئة وخمسة وثمانين قبل الميلاد في إحدى المدن المقدونية جنوب شرق أوروبا. ولأن أباه كان طبيباً حاذقاً فقد اختاره البلاط كي يكون معالجاً للمَلِك، لذلك نشأ أرسطو نشأة أبناء الذوات في القصور. لكن هذا القول خالفه البعض كـ ابن أبي أصيبعة الذي يقول إن أرسطو كان يتيماً فقيراً. لكن في كل الأحوال لا يمنع يُتمه من أن يكون قد عاش أيام أبيه حياة ميسورة، ثم جارَت عليه السنين وأصبح في عَوز.

ومما يُذكر في نشأته أن المَلِك روفسطانس كان محبّاً للعلم والفلسفة. وقد استجلب أفلاطون كي يُعلِّم ابنه نطافورس، لكن الأخير لم يكن مؤهلاً لذلك بسبب ضعف ذهنه وقلة تحصيله. وكان أرسطو وَلَداً نبيهاً نشيط الذهن، يتحيّن فرصة درس أفلاطون لنطافورس في الفلسفة والحكمة كي يسمعها. وهذه الرواية التي يذكرها المؤرخون تؤكد أن أرسطو كان قريباً من بيت الحكم أو على الأقل مقيماً في رَدَهَات القصور ومُجازاً فيها، إلى الحدّ الذي يجعله قريباً من نجل المَلِك.

وعندما أراد المَلِك أن يتباهى بعلم ولده في حفلٍ جماهيري صُدِمَ بإخفاقه ونبوغ أرسطو، فما كان منه إلاّ أن قدّر الأخير وأكْبَر مكانته. ومنذ ذلك الحين لَمع نجمه في الأرجاء، وأصبح لاحقاً معلّماً للاسكندر الأكبر الذي مَلَك الأرجاء. وكان أرسطو بحق بارعاً في العلوم الطبيعية وفيلسوفاً، وسُمّي بالمعلم الأول، حيث لمع في مجالات عِدَّة، فأسس المنطق الأرسطي، وتبحّر (طبقاً لإمكانيات عصره) في الطب حتى كان أول من بحث علم الأجنّة والتخلق الذاتي، واستمرّت البشرية على هَدْيِه حتى الحقبة الباستيرية العام 1864 حين عُدِّلت أسُسُها.

أختم المقال بحكمة جميلة كَتَبَها أرسطو إلى تلميذه الاسكندر قائلاً له: «املِك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإنّ طلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك. واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب بالمحبة».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4933 - الأربعاء 09 مارس 2016م الموافق 30 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:47 ص

      مقال رائع أبو عبدالله

      ما أجمل الحكمة التي ختمت بها المقال
      وما أقل من أخذ بها

    • زائر 4 | 2:40 ص

      بوركتم... مقال موفق

    • زائر 3 | 2:18 ص

      خاتمه جميله

      ختمت بحكمه جميله ، ولكن أتعجّب أن تكون هذه الحكمه التي مازالت حاضرة بعد أكثر من ألفي عام تغيب عن البعض...

    • زائر 2 | 12:14 ص

      الخلود لا يصل له إلا العظماء، وهناك من يخلد اسمه في لائحة الشرف التاريخية إما (بعلم أو عمل أو مواقف أو أخلاق أو بدمه)..
      وكذلك هناك من ينقش اسمه في لائحة العار.. كقاتل أو مستبد أو ظالم ( قابيل/ قارون / نمرود /فرعون / نيرون...)
      وأشرف من خلد اسمه في التاريخ.. وذكره يعلو مع كل أذان وصلاة وإن كره الكارهون.. وهو نبينا الأعظم محمد بن عبدالله "ص"..
      وهذا الوسام السامي أقره الله في كتابه "ورفعنا لك ذكرك".. في تأكيد مؤبد على تخليد اسمه الأعظم في التاريخ

    • زائر 1 | 11:24 م

      بوركت أبو عبدالله
      التميز مستمر

اقرأ ايضاً