العدد 4935 - الجمعة 11 مارس 2016م الموافق 02 جمادى الآخرة 1437هـ

السياسيون ومواعين الأمانة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل بضع سنوات، أجرت إحدى القنوات الفضائية في أوروبا حواراً مع الأمين العام (السابق) لحزب المؤتمر الشعبي بالسودان حسن الترابي الذي غادر الدنيا قبل بضعة أيام. كانت إحدى محاور النقاش في ذلك الحوار تدور حول قضية الفساد المستشري في الأنظمة السياسية وطبيعة موقف الأفراد فيها من المال (وكان يخص حينها الحال في السودان وبالتحديد تجربة الإسلاميين).

قال الترابي تعليقاً على ذلك: «كنا دائماً (أيام المعارضة) نضرب للناس الأمثال، بأننا نتجرّد ونتزهّد. ولا أريد أن أضرب مثالاً على واحدٍ بعينه، لكنني أريد أن أتحدث كيفما سُمّي: حسن بن عبدالله أو عبدالله بن حسن، وَوُلِّي السلطة وليس حوله ضابط (أو مراقب) قد يغفل عن ضَبْطِ الله سبحانه ورقابته، ثم يبدأ قليلاً ثم قليلاً حتى يأكله السرطان وشهوة الفساد، فيأكل بغير حدود».

وعندما سأله مُحاوره: «ألَم يكن كثير من هؤلاء من أبناء الحركة الإسلامية وتتلمذوا على يديك؟ فردّ الترابي: نعم... نعم، لكن لم يكن في دراستنا مقاومة الفساد ومال السلطة. المنهج التربوي الذي تربينا عليه لم يكن فيه شيء عن ذلك، لأننا لم نكن في السلطة ولم نكن نعلم بها! هؤلاء الآن كانوا إخواناً لنا وكانوا مثالاً في الأمانة، ولكن كانوا لا يُبتَلَوْن إلاّ في القليل من المال، فطاقتهم تَسَع هذا المال، أما الآن وقعت عليهم أطنان من الأموال فكسرت مواعين الأمانة». انتهى.

الحقيقة أن هذا الكلام جدير بالتأمل. وحسناً قال الرجل عندما نَقَدَ نفسه وتيار الإسلام السياسي (الأعَم) على رغم أن هذا الكلام «ربما يكون» قد جاء في سياق المناكفة التي حَكَمَت علاقة الراحل «المتوترة» مع السلطة في السودان منذ العام 1999، إلاَّ أنه قال ذلك، وهو على هذا السَّمت منذ فترة حتى وفاته. ففي أحيانٍ كثيرة قال أشياء أحرجت الجميع بما فيهم حزبه.

إن مسألة علاقة السياسيين عامة وليس الإسلاميين حصراً (وتحديداً المعارضين منهم) والسلطة لا يجب أن تأخذ جانباً واحداً فقط، يقوم على مسألة الصراع والخطاب التعبوي، أو تكسير العظام، بل إن فضاء تلك العلاقة واسع ومتعدد الجوانب، والتهيؤ فيه يجب أن يكون بمستوى تلك السِّعة وذلك التعدد، وإلاّ كان الفشل مصير مَنْ يلجها.

لذلك لا يجب أن تكون تلك العلاقة قائمة (وليس هي الحجَّة بالتأكيد) على تقديم كوادر من التكنوقراط الذين قد يستطيعون ملء الفراغ حين يُعطَون حصة من كعكة السلطة، بل إن الضرورة تقتضي أن يتدرّبوا على صناعة كوادر لديها نفوس قادرة على استشعار الضابط الداخلي لديها تجاه المغريات كي لا يمدُّوا يداً على مالٍ عام، ولا تسري إليهم الرغبة الجامحة تجاهه، فيكون هو همّهم الأول فلا يتوقفون عن جمعه وسرقته مهما استطال بهم الوجود في السلطة.

ويكاد يكون هذا الأمر (الموقف من المال) من أصعب الأشياء تعلماً كونه مرتبطٌاً بشيء يعادل مرتبة النفس ذاتها إلى الحد الذي وصف فيه البيضاوي تلك العلاقة كعلاقة الشقيق بشقيقه، لذلك أصبح الصراع مع المال صراعاً وجودياً بالنسبة لأغلب البشر، ووجهاً لصراع النفس الشَهَوِية أمام النفس العاقلة. وربما كان هذا الأمر هو مدار أكثر الصراعات التي سجّلها التاريخ بلا منازع.

أتذكر نصاً جميلاً للغزالي يقول فيه: «يتشعب من شهوة المال شهوة الجاه. ثم عند حصول المال والجاه وطلبهما، تزدحم الآفات كلها، كالكبر والرياء والحسد والحقد والعداوة وغيرها». لذلك أصل المال هو سلطانه الطاغي على النفس وغَلَبَته على القلب لأنه بلا حد ولا نهاية، وبالتالي لا مقياس ولا رضا هنا لشَبَع، بل يصبح جمعه بالنسبة للإنسان «همّه وغايته، فلا يبغى المال لتحقيق رغبة، أو إشباع شهوة؛ وإنما رغبته هو المال نفسه، وشهوته هو المال» كما قال الخطيب وهنا المشكلة.

وبطبيعة الحال، تتدرَّج تلك الشهوة وتتفاصل وتتمقيس على ما تلاقيه من ثروات، لأنها لا ترى من شيء سوى استيلائها على كل ما هو موجود. لذلك، فحين تصبح أمام السياسي المسئول الذي لا رقيب عليه ثروة بمليون دينار أو أخرى بمليار دولار تكون تلك الشهوة بالسعي والنَّهَم ذاتهما، بل هي تتعاظم كلما غابت حدود الثروة وأصبحت كالسَّديم. وهو أمر يُلاحظ في تباين ثراء الدول وقلة الرقابة فيها.

أمام كل هذا أصبح تدريب الساسة على مثل هذا الشيء أمراً في غاية الأهمية وذلك لضبط الأولويات أثناء وجودهم في السلطة. فحين تختلف نظرة المرء للمال وتكون في مرتبة أدنى فهذا يعني أنه قد تعلّق بشيء أسمى من المال وهو خدمة أمته وشعبه، وهو ما يُفسِّر تحوّل الخدمة للوطن والناس إلى شيء لا يعادله حتى المال المساوي للنفس حين يرى المسئول نفسه أكبر من «مادية» المنصب الذي أسنِد إليه. وهذا في حقيقته من أرقى المنازل التي يُمكن للمرء أن يصل إليها.

أختم بقول يناسب هذه الفكرة ذكره ابن عبدربه في «العقد الفريد». فقد سُئِلَ عبدالله بن الحسن: «إنّ فلانا غيّرته الولاية. قال: من وُلِّي ولايةً يراها أكبر منه تغيّر لها، ومن وُلِّي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4935 - الجمعة 11 مارس 2016م الموافق 02 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:36 م

      حب الدنيا رأس كل خطيئة. ..الدنيا كماء البحر كلما إزددت شربا منه إزددت عطشا.

    • زائر 3 | 1:59 ص

      ومن كتاب الامام علي(ع) إلى بعض عماله متوعداً:

      (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّنّ عليك شدة تدعك قليل الوفر (المال) ثقيل الظهر ضئيل الأمر (ضعيف) والسلام...)
       
      وعن حق الفرد في الرعاية الاجتماعية لصحية يأمر قُثَم بن العباس وهو عامله على مكة: (وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاحزمه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيم قبلنا...)

    • زائر 2 | 1:34 ص

      هذه الزبدة ، من وُلِّي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها».

      أختم بقول يناسب هذه الفكرة ذكره ابن عبدربه في «العقد الفريد». فقد سُئِلَ عبدالله بن الحسن: «إنّ فلانا غيّرته الولاية. قال: من وُلِّي ولايةً يراها أكبر منه تغيّر لها، ومن وُلِّي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها».

    • زائر 1 | 12:42 ص

      الكلام بالمثاليات سهل جداً

      يقول الشهيد الصدر أن "هارون (الرشيد) كان يخاطب السحاب: أينما تمطرين يأتيني خراجك .. هل جربنا أن تقبل علينا دنيا هارون ثم لا نسجن موسى بن جعفر؟" .. والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال صعبة..

اقرأ ايضاً