العدد 4937 - الأحد 13 مارس 2016م الموافق 04 جمادى الآخرة 1437هـ

غاري غتنغ يُجسِّر الفجوة بين الفلسفة التحليلية والأخرى القارية

مقال مُطوَّل، كتبه أستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام، ومحرر «Notre Dame Philosophical Reviews» غاري غتنغ، قبل 4 سنوات من الآن، وتحديداً في 19 فبراير/ شباط 2012، في صحيفة «نيويورك تايمز»، حمل عنوان «تجسير الفجوة بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القاريِّة»، وهو فضاء الاشتغال الأثير لغتنغ، إذا ما تذكَّرنا كتابه الشهير «التفكير في المستحيل... الفلسفة الفرنسية منذ العام 1960»، والذي يسلِّط فيه الضوء على أفكار وتنظيرات التفكيكيين، وفي مقدِّمتهم ميشيل فوكو وجاك دريدا. في الكتاب نفسه، يؤرِّخ غتنغ للتفكيكية الفرنسية، مُستدعياً الأفكار والفلسفات في نصف القرن العشرين.

الفلسفة التحليلية موضعها أو محط تركيزها اللغة وتحليلاتها؛ سعياً وراء استبعاد ما يشوب التعبيرات اللغوية من غموض أو خلط أو زيف. بذلك، هي المدرسة الفلسفية الأكثر حضوراً بين فلاسفة البلدان الناطقة بالإنجليزية. وتتميَّز عن الفلسفة القارية الشائعة في غرب أوروبا لغير الناطقين بالإنجليزية، باستنادها على أفكار مؤسيسها: جورج .إي مور وبرتراند راسل.

وتتضمن الفلسفة القارية مجموعة من الآراء والتوجهات التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا القارية. من بين التوجهات والمدارس التي تتضمنها: المثالية الألمانية والظاهراتية والوجودية والتأويلية والبنيوية وما بعد البنيوية؛ علاوة على آراء فرويد في التحليل النفسي، والنظرية النقدية في مدرسة فرانكفورت والآراء المتعلقة بالماركسية الغربية.

يبدأ غتنغ مقاله بالإشارة إلى أن كثيراً من الفلاسفة في الدوائر الأميركية الرائدة هم من المتخصصين في الميتافيزيقيا: دراسة الجوانب الأكثر عمومية للواقع مثل دراسة الوجود والزمن. منطلقاً من كتاب «الوجود والزمان» لمارتن هيدغر، الذي يعتبره أهم عمل لواحد من أكثر الفلاسفة البارزين في القرن العشرين، والذي يتضمن دراسة عميقة لهذين الموضوعين. واقفاً على المفارقة في شأن هذا الحضور والأهمية لهيدغر، والتي تتحدَّد في أن أياً من أولئك الميتافيزيقيين الأميركيين لم يبْدِ اهتماماً جدياً لكتاب هيدغر.

النتائج القبيحة والمشوَّهة

ويقدِّم غتنتغ تفسيراً لتلك المفارقة، أو ما أسماها «الغرابة» يختصره في أن الميتافيزيقيين فلاسفة تحليليون، في حين أن هيدغر فيلسوف قاريٌّ. على رغم أنه من النادر أن يقرأ نوعان من الفلاسفة عمل الآخر، وعندما يفعلان ذلك، فإن النتائج يمكن أن تكون قبيحة ومُشوّهة. مستشهداً بالنقاش الشهير الذي دار بين جاك دريدا (القاري) وجون سيرل (التحليلي)؛ حيث انتهى مع سيرل مُندداً بدريدا، ومتهماً إياه بـ «الظلامية» وانتهى مع دريدا ساخراً من سيرل واصفاً إياه بـ «بالسطحية».

التمييز بين الفلاسفة التحليليين والفلاسفة القاريين يبدو فيه شيء من الغرابة، أولاً وقبل كل شيء، لأنه يتناقض مع التوصيف الجغرافي (الفلسفة التي تحققت في القارة الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا) مع المنهجية الواحدة (فلسفة أنجزت من خلال تحليل المفاهيم). إنها كما أشار برنارد وليامز، تقسيم السيارات إلى ذات الدفع الرباعي وتمت صناعتها في اليابان. يصبح الأمر أكثر غرابة عندما ندرك أن بعضاً من مؤسسي الفلسفة التحليلية (مثل جوتلوب فريغه وكارناب) كانوا أوروبيين؛ حيث العديد من المراكز الرائدة في مجال الفلسفة «القارية» هي في الجامعات الأميركية، وأن العديد من الفلاسفة «التحليليين» لا اهتمام لديهم في تحليل المفاهيم.

يساعد بعض الانتباه إلى التاريخ على توليد شعور بالأصالة. في مطلع القرن العشرين، طوَّر الفلاسفة في انجلترا (راسل، مور، فيتجنشتاين) وفي ألمانيا والنمسا (كارناب، رايشنباخ، همبل كل منهم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية مع صعود النازيين) ما اعتبروه نهجاً جديداً وجذرياً للفلسفة، استناداً إلى تقنيات جديدة في المنطق الرمزي وضعها كل من فريغه وراسل. (فريدريك لودفيج غوتلوب فريغه ولد في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1848 في ويسمار وتوفي في 26 يوليو/ تموز 1925 في باد كلينن بألمانيا، رياضياتي ومنطقي وفيلسوف ألماني. يُعدّ أشهر من اهتم بمنطق الرياضيات الحديثة والفلسفة التحليلية. كان لعمله تأثير كبير في تأسيس فلسفة القرن العشرين وفي الدلاليات. هو أحد أكبر المناطقة بعد أرسطو، أوكام وليبنتس. فهو الذي أنشأ المنطق الحديث).

حل المشكلات الفلسفية

يشير غتنتغ في مقاله إلى أن الفكرة الأساسية كانت تتحدّد في أن المشكلات الفلسفية يمكن حلها (أو تذويبها) عن طريق تحليل منطقي للمصطلحات الأساسية، المفاهيم أو الافتراضات. (تحليل راسل لأوصاف مُحدّدة لما لا وجود له - على سبيل المثال «الملك الحالي لفرنسا» - لا يزال نموذجاً لمثل هذا النهج).

على مرِّ السنوات، كانت هناك أشكال مختلفة من التحليل المنطقي واللغوي والمفاهيمي، وكلها مُوجّهة نحو إزالة الالتباس والغموض والزيف في الفكر الفلسفي السابق وقُدمت كأمثلة على الفلسفة التحليلية. في نهاية المطاف، شكّك بعض الفلاسفة، وخاصة كواين، في فكرة «التحليل» كأسلوب فلسفي مميز. لكن أهداف الوضوح، والدقة، والصرامة المنطقية بقيت، واستمرّت في تحديد معايير لنوع من الفلسفة أطلقت على نفسها التحليلية، هيمنت في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية.

في الوقت نفسه تقريباً الذي بدأت فيه الفلسفة التحليلية بالظهور، كان إدموند هوسرل يطوِّر نهجه «الظاهراتي» اقتراباً من الفلسفة. كما أكد هوسرل نفسه مستويات عالية من الوضوح والدقة، وكانت له صِلات مثمرة مع عدد من الفلاسفة التحليليين مثل فريغه. ومع ذلك، سعت قضيتا الوضوح والدقة أكثر في وصف تجربتنا وخبراتنا الفورية (الظاهرة) مما كانت عليه في التحليل المنطقي للمفاهيم أو اللغة.

هوسرل رأى الظواهر بوصفها اشتغالاً على المستوى الأساسي للمعرفة والتي سيتم انطلاقاً منها تحديد أية حقائق ترتبط بالتحليل المفاهيمي أو اللغوي. في «الوجود والزمان» حوّل تلميذ هوسرل (هايدغر)، الظواهر في اتجاه الأسئلة «الوجودية» المرتبطة بالحرية والألم والموت. وفي وقت لاحق، طوّر المفكرون الفرنسيون الذين تأثروا بهوسرل وهايدغر، وخاصة سارتر وميرلو - بونتي النسخ «الظاهراتية» الخاصة بهم استناداً إلى «الوجودية».

الظاهراتية... الوجودية

كان مصطلح «الفلسفة القارية»، كما أكد كل من سيمون كريتشلي وسيمون غليندننغ، على درجة مهمة، اختراع الفلاسفة التحليليين في منتصف القرن العشرين، والذين أرادوا أن يُميزوا أنفسهم عن ظاهراتيي ووجوديي قارة أوروبا. أخذ اولئك «التحليليون» (كان جيلبرت رايل القيادي البارز من بينهم) في الاعتبار اجتذاب القارة للتجربة المباشرة كمصدر للذاتية والغموض الذي كان يتعارض مع مثلهم العليا المتعلقة بالموضوعية المنطقية والوضوح. تم إضفاء الطابع المؤسسي على تقسيم التحليلية القارية في العام 1962، عندما قام الأنصار الأميركيون للفلسفة القارية بتأسيس تجمّعهم المهني الخاص، جمعية الظواهر والفلسفة الوجودية (SPEP)، كبديل - أول ومهيمن - عن الجمعية الفلسفية الأميركية (APA).

ويوضح غتنتغ بأنه على مدى السنوات الخمسين الماضية، تم توسيع مصطلح «الفلسفة القارية» ليطال العديد من الفعاليات الحركية الأوروبية الأخرى، مثل المثالية الهيغلية، والماركسية، التأويلية، وخاصة البنيوية والتفكيكية. كل تلك الاتجاهات غالباً ما تكون في حال من التضاد والمعارضة للظواهر والوجودية، ولكن الفلاسفة التحليليين لا يزالون يرون تلك الفعاليات عاجزة وقاصرة بمراحل عن الوفاء بالمعايير أو الوضوح والصرامة. نتيجة لذلك، كما أكد برايان ليتر، فإن «الفلسفة القارية» اليوم تومئ إلى «سلسلة من التقاليد المتداخلة جزئياً في الفلسفة، بعض منها لا يملك شيئاً من القواسم المشتركة مع الأسماء الأخرى في هذا الحقل».

نطاق «الفلسفة التحليلية» توسّع أيضاً على امتداد السنين. في خمسينات القرن الماضي، وسمت تطابقاً إما في شكل الوضعية المنطقية أو فلسفة اللغة البسيطة، كل منها كان ينطوي على التزام بوضع معيّن من التحليل (تتبعاً إما لكارناب أو فيتجنشتاين)، كما كان ينطوي على وجهات النظر الموضوعية الفلسفية. انطوت هذه الآراء على رفض كبير للفلسفة التقليدية (وخاصة الميتافيزيقا والأخلاق)، باعتبارها عقيمة أساساً.

تطوير الموقف الفلسفي

لم يكن هنالك، على وجه الخصوص، مجال للمعتقد الديني أو المعايير الأخلاقية الموضوعية. يستخدم الفلاسفة التحليليون اليوم مجموعة من الطرق أوسع بكثير (بما في ذلك الاستدلال شبه العلمي من أجل تفسيرٍ أفضل، ويتجلّى ذلك في إصداراتهم التي تُعنى بوصف الظواهر). كما أن هناك حالات تحليلية تحققت لمجموعة كاملة من المواقف الفلسفية التقليدية، بما في ذلك وجود الله، ثنائية العقل والجسم، والمعايير الأخلاقية الهادفة.

أشكال مختلفة من التجريبية والطبيعية لا تزال وجهات نظر غالبة، ولكن أي موقف فلسفي يمكن تطويره استفادة من استخدام أدوات الفلسفة التحليلية.

هناك التوماوون (مدرسة فلسفية نشأت باعتبارها إرثاً من عمل وفكر القديس توما الأكويني (1225-1274)، الفيلسوف، اللاهوتي)، والهيغليون والذين هم فلاسفة تحليليون، حتى أن هناك أدباً كبيراً مكرساً لإبراز أطروحات الفلاسفة القاريين الكبار في الحقل التحليلي. الادّعاء بأن العمل بالأسلوب التحليلي يقيّد نطاق البحث الفلسفي لدينا لم يعد لديه أي أساس.

يدحض هذا التطوُّر الادِّعاء بأن الفلاسفة التحليليين - كما عبَّر عنه سانتياغو زابالا في الآونة الأخيرة - لا يناقشون «المسائل الأساسية التي أقلقت الفلاسفة لآلاف السنين» كان هذا صحيحاً في أيام «الوضعية»، ولكنه لم يتجاوز ذلك. ادِّعاء زابالا بأن الفلاسفة التحليليين لم ينتجوا «بحثاً تاريخياً عميقاً» هو باطل على نحو مماثل. كان ذلك صحيحاً سابقاً عندما ذاع صيت كتاب راسل «تاريخ الفلسفة الغربية»، الذي أشار فيه إلى ازدراء المنهج «التحليلي» للتاريخ الحادّ والمعقَّد.

الآن، وعلى رغم أن العديد من الفلاسفة التحليليين مازال لديهم القليل من الاهتمام بالتاريخ، فإن العديد من أفضل المؤرّخين الحاليين للفلسفة يوظّفون الأساليب النظرية، وجدلية الفلسفة التحليلية في الحقل الذي يشتغلون عليه.

الاختلاف في النمط

بسبب هذه التطوُّرات، فقد جادل الفيلسوف الأميركي براين ليتر بأنه لم تعد هناك اختلافات فلسفية جوهرية بين الفلسفة التحليلية والقارية، وإن كانت هناك اختلافات مهمة في بعض الأحيان فهي ترتبط بـ «النمط». ورأى في هذا الصدد بأن الفجوة الوحيدة من حيث المبدأ بين الاتجاهين (المعسكرين) تتحدد في جانب سوسيولوجي، ذلك أن فلاسفة في معسكر يجتزئون عمل الذين في الاتجاه (المعسكر) الآخر، والسبب ببساطة هو نفورهم الشخصي من المنطق الرمزي، أو لإجراء مناقشات أدبية وتاريخية معقّدة.

غتنتغ يتفق مع الكثير مما يقوله ليتر، لكنه يستدرك مُعتقِداً بأن هناك اختلافات فلسفية عامة لا تزال مهمّة بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، في جميع الأصناف الحالية.

هذه الاختلافات تتعلَّق بتصوراتهم عن التجربة والباعث، ومعايير التقييم. يُفهم لجوء الفلسفة التحليلية إلى التجربة - عادة - على أنه بديهيات الفطرة السليمة (فضلاً عن التطوّرات والتحوّلات الناتجة عن العلوم) وبسبب تفهّم يتحدد في أنها قواعد قياسية للاستدلال المنطقي.

إصدارات أخرى من الفكر القاري تأخذ في الاعتبار النشاط الأساسي للإدراك وليس باعتباره نظاماً منطقياً صارماً للتفكير، بل باعتباره ممارسة إبداعية من التصور الذهني.

هذا الرأي هو من سمات معظم الفلاسفة الفرنسيين المهمّين منذ ستينات القرن الماضي، بدءاً من فوكو، دريدا ودولوز. وهم يؤكدون أن اعتماد فلاسفة تحليل المنطق القياسي يمكن أن يفسِّر ما هو ضمني في المفاهيم التي يحدث أن نشرع فيها. هذا المنطق لا طائل منه للقيام بهذه المهمّة الفلسفية الأساسية، والتي تحافظ على تعلّم التفكير فيما وراء هذه المفاهيم.

الفلسفات القارية للتجربة تحاول سبْر ما وراء مفاهيم التجربة اليومية لاكتشاف المعاني التي تكمن وراءها، للتفكير في ظروف إمكانات مفاهيمنا. على النقيض من ذلك، تحاول الفلسفات القارية للتصور التفكير في ما وراء تلك المفاهيم، بمعنى ما، التفكير في ما هو مستحيل.

في ضوء الاختلافات الفلسفية الموضوعية، من الواضح أن الفلاسفة التحليليين والقاريين سيستفيدون بقدر أعظم بتآلفهم مع الأعمال الأخرى، والمناقشات التي تذهب باتجاه الوقوف على الفجوة، كل ذلك سيسهم في عالم فلسفي أفضل. ومع ذلك، هنالك نقص فادح في التماثل بين الفكر التحليلي والقاري، ويرجع ذلك إلى وضوح نسبي في معظم الكتابة التحليلية، على النقيض من الغموض الذي يكتنف الكثير من أعمال الفلاسفة القاريين.

«التفكير في المستحيل...»
«التفكير في المستحيل...»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً