العدد 4941 - الخميس 17 مارس 2016م الموافق 08 جمادى الآخرة 1437هـ

الإرهاب و«ترصين» العلاقات الدولية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

نشر الكثير من الدراسات، عن أسباب انتشار ظاهرة تغوّل الإرهاب، على مستوى عالمي. لكن تلك الدراسات، غفلت عن وضع هذه الظاهرة، في شكلها المعاصر، الذي استفحل منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، في سياقها التاريخي.

نجادل في هذه القراءة، بأن بروز هذه الظاهرة، هو أحد إفرازات سقوط النظام الدولي، الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كانت أبرز سماته الثنائية القطبية، واشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي. ونجادل أيضاً، أن أي تغير في موازين القوى الدولية، وفقاً لرصد الأحداث منذ مطالع القرن الذي انصرم، يؤكد حتمية اشتعال حروب كبرى، تسبق تتويج النظام العالمي الجديد. وأن مرحلة الانتقال من نظام دولي لآخر، تكون مصحوبةً بانتشار الفوضى، وتعطل القانون الدولي، والمواثيق التي ترتبط به.

الكون لا يقبل الفراغ، وغياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية، من شأنه أن يخلق حالة من الانفلات الأمني، واشتغال الصراعات المحلية، وانتشار الحروب الأهلية، وطفوح الهويات الجزئية، على حساب الهويات الكبرى الجامعة.

ترصين العلاقات الدولية، هو رهن بتسويات تاريخية، تعكس مستوى التوازنات الدولية. والحروب الصغرى التي تنشأ بعد التسويات التاريخية، تتحقق إما بفعل خلل في تلك التسويات، أو بسبب سعي أحد الأطراف الدولية، لتعضيد أو توسيع جغرافيا مصالحه الحيوية. فتظل تلك الحروب، محكومةً بشكل دقيق، بإرادة صناع القرار الكبار، بما يخلق معادلة واقعية، مضمونها أن الاتفاق بين القوى الكبرى، والتسليم من قبلهم بموازين القوى من شأنه أن يسهم في ترصين العلاقات الدولية.

تساعد هذه المقدمة النظرية، على فهم انبلاج منظمات الإرهاب، في العقود الثلاثة الأخيرة. فهناك أولاً هزيمة لنظام دولي، تأسس في أعقاب الحرب الكونية الثانية، وقد بدا واضحاً، منذ فشل السوفيات في إدارة حربهم بأفغانستان، وأيضاً بفعل الاستعصاء الواضح لأزمتهم الاقتصادية، أن امبراطوريتهم على طريق الأفول. ولأن النظام الدولي السائد، قد تأسس على قاعدة الثنائية القطبية، فإن سقوط ركن من ركني النظام، يعني انفراطه. ولم يكن بالمقدور تسمية ما أعقبه، بالنظام الدولي الجديد، لأن مفهوم النظام مرتبط بتسويات تاريخية، وبانبثاق نظم ومؤسسات تعبّر عن شكل هذا النظام. ومع ذلك جرى مجازاً استخدام تعبير الأحادية القطبية.

كان تتويج الولايات المتحدة، على عرش الهيمنة الأممية، قد تم بحروب إقليمية محدودة، لعل الأبرز بينها، احتلال بنما، والتدخل في رواندا، ومن ثم حرب الخليج الثانية، وبلغت قمة التدخلات العسكرية الأميركية في العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، باحتلال أفغانستان والعراق، فيما عُرف بحرب أميركا العالمية على الإرهاب.

لم تحدث أية تسويات تاريخية، بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، ولم تبرز قوة متكافئة في القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، لتكون بوابة ترصين للعلاقات بين الأمم. فكانت النتيجة غياب التكافؤ والتنافس في العلاقات الدولية. وذلك نشاز في التاريخ، منذ بدأ الاجتماع الإنساني؛ لأن العلاقات بين الأمم محكومة بالتنافس وصراع الإرادات، وليس بالاستلاب والاستسلام، من قبل العالم بأسره، لقوة متفرد.

ولأن الكون، كما أشرنا لا يقبل الفراغ، برزت الطحالب والطفيليات، في شكل منظمات الإرهاب، من «القاعدة» وأخواتها، لتملأ هذا الفراغ. ذلك لا يعني أن الإرهاب لم يكن موجوداً في العالم، قبل انفراط عقد الثنائية القطبية، فذلك أمر شهده التاريخ، في كل حقبه. ولكنه كان محدوداً، ويمكن قراءة أسباب كل حالة منه، بشكل منفرد. أما ما نشهده الآن فهو أقرب من حيث انتشاره، للحربين العالميتين، اللتين شهدهما العالم في القرن الماضي.

الفارق بين الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، وحرب الإرهاب العالمية، أن تلك الحروب جرت بين جيوش نظامية، وأن هذه الحرب تدار من قبل عصابات القتل. أما العوامل المشتركة بينهما، فهي كثيرة، لعل أهمها، أنها تأتي أفقية ولديها قابلية التمدد إلى بقاع جديدة من المعمورة. وفي كل الحروب الكونية، تستخدم الأسلحة الفتاكة، ولا يستثني من ذلك حروب الإرهاب، أو الحرب العالمية المعلنة الآن عليها. والأهم أن كل الحروب، تسبق التسويات التاريخية، بين صناع القرار الكبار.

في الحروب الكونية، تتشكل ملامح النظام الجديد الذي سيعقبها. وكلما اقتربنا من لحظات النصر، اتضحت أكثر معالم النظام الجديد، الذي سينبثق من تحت رماد تلك الحروب وركامها. وتتحقق لحظة الهزيمة، كلما اقتربت معالم التسويات التاريخية المرتقبة.

رأينا منذ مطالع هذا القرن، بروز استراتيجيات أميركية لمحاربة الإرهاب، تحت شعارها سُحق العراق، وصودر كياناً وهوية، واحتُلت أفغانستان، لكن الخط البياني للإرهاب، استمر في الصعود. ولم يكن لأحد القدرة على لجمه. فقد كان التعويض المباشر، عن غياب التنافس الدولي، وتراجع عنصر صراع الإرادات.

وحتى بعد احتلال المحافظات العراقية الأربع من قبل «داعش»: الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، وإعلان أميركا التصدي الجوي لـ«داعش»، لم يتحقق على الأرض ما يشي بأي تقدم، على طريق إلحاق الهزيمة بالإرهاب. وبرزت الاتهامات المتبادلة بين حكام بغداد والأميركيين، بشأن أسباب الفشل. فقط بعودة روسيا بقوة إلى المسرح الدولي، وتدخلها في سورية للحرب على الإرهاب، تغيّرت المعادلة الدولية في الحرب على «داعش». ليس ذلك لأن روسيا هي الأقوى، بل لأن ذلك عنى، عودة الصراع الدولي، والتنافس على مواقع القوة.

عاود الأميركيون تدخلهم العسكري بقوة في العراق، وتمكّنوا من إلحاق الهزيمة بـ«داعش» في صلاح الدين، وحقّقوا انتصارات باهرة في الأنبار، ويستعد الجيش العراقي لتحرير نينوى. وفي ذات الوقت حقّق الروس انتصارات كثيرة على الجبهة السورية، واتفق الأميركيون والروس، على تحقيق هدنة عسكرية بين قوات النظام والمعارضة، صمدت حتى الآن لعدة أسابيع، رغم ما شابها من خروق.

والخلاصة أن ترصين العلاقات الدولية، وتحقيق تسويات تاريخية بين صناع القرار الكبار، على قاعدة الاعتراف بالموازين الدولية الجديدة، هو وحده الذي يملأ الفراغ، ويتكفل بهزيمة الإرهاب.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4941 - الخميس 17 مارس 2016م الموافق 08 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً