العدد 4954 - الأربعاء 30 مارس 2016م الموافق 21 جمادى الآخرة 1437هـ

جائرة الملايين الستة!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أندرو وايلز، عالِمٌ فذٌ في الرياضيات ونظريات الأرقام. في العام 1994 قدَّم حلاً لمسألة رياضية احتار العلماء في أمرها منذ 350 سنة. ما فعله أندرو هو إثباته أنه لا توجد أعداد صحيحة مُوجَبة (X، و Y، و Z). حيث = Zn +Yn Xn إذا كانت n أكثر من 2. هذا الابتكار دفع الأكاديمية النرويجية للعلوم قبل أسبوعين لأن تمنح أندرو وايلز جائزة «أبل» تقديراً له (قيمتها 6 ملايين كرونر أي 700 ألف دولار).

الذي يبدو، أن إثباته ذاك في تعقيدات نظرية «فيرما» كما يُسمّونها، ظلّ يُدرَس مدة 22 عاماً في مختبرات العلماء وجهابذة الرياضيات في العالم. وفي هذا الشهر سُمِّي هذا الأستاذ بجامعة أكسفورد البريطانية للجائزة كشخصية فريدة استطاعت أن تحلّ لغزاً مُحيّراً، قد لا يعني لنا نحن عوام الناس الكثير، إلاّ أنه بالنسبة للمتخصصين هو فتحٌ علميٌ خلال الـ 3 قرون ونصف الماضية.

الحقيقة، أن علم الرياضيات هو في جوهره سيدُ العلوم التجريبية بلا منازع، ومهيمن على جُلّ أفرعها. وحسب قول أحد العلماء فهو بمثابة القيِّم على حسابَيْ الجبر والأجسام وكذلك الإحصاء والاحتمالات ثم الهندسة الفراغِيَّة والميكانيكيّة الفضائيّة والفيزيائيّة والكيميائيّة. وبالتالي فإن سيادة هذا العلم هي «فتقٌ وتفصيلٌ وبيانٌ بعد رتقٍ وإجمالٍ وإحكام» كما يصفه بالنص.

عندما كنتُ أدرس البكالوريوس في الجامعة، كان أستاذنا في مادة العَرُوض يُحدّثنا عن شيءٍ من سيرته. يقول أنه كان من المفتَرَض أن يدرس الرياضيات بعد تخرجه من الثانوية العامة، إلا أن مآسي النكبة الفلسطينية، ثم ظروف التهجير لهم كفلسطينيين حالَ دون أن يُكمِل ذلك التخصص فاتجه إلى دراسة اللغة العربية. وكان يقول على هامش ذلك مازحاً إن الطالب الذي لا يُتقِن علم الرياضيات في فلسطين يُسمّونه بالعامية لديهم: خِبِل! وكنا نضحك من ذلك الوصف.

غاية القول من كل ما سردّته هو تساؤل كبير: لماذا يفوز الغربيون من الأوروبيين أو الأميركيين أو الكنديين وخلافهم في هذه العلوم ولا يحظى بذلك الفوز أناسٌ من الشرق؟ هل ناس الغرب أكثر فهماً وعلماً وإدراكاً من أمم الشرق؟ قد يُفسِّر البعض مآل ذلك إلى «الانتقائية» في اختيار الفائزين دون غيرهم لاعتبارات «عنصرية» أو جهوية، وبالتالي يظهر الغربيون على أنهم العباقرة فيما يظهر الشرقيون بشراً عاديين وغير متميّزين. ولنفترض أن هذا التفسير صحيح، إلاّ أن ذلك لا يعفينا من أن نُوسِّع الدائرة لنعرف ما إذا كانت هناك أسباب أكثر حقيقية من هذه.

ونحن كعرب، قد نرى المسألة بها حساسية باعتبارنا الأكثر وضوحاً في ذلك الغياب عن العلوم. فهناك كثيرٌ من الصينيين والهنود والكوريين واليابانيين والإيرانيين والباكستانيين ممّن نالوا حظاً في ذلك، وبَقِيَ العرب! كنتُ في السابق، أُرجِع الأمر إلى مسائل «الاهتمام» بالعلوم، حيث يفتقر جزءٌ كبيرٌ من العالم العربي إلى العناية بالبحث وبالتالي فهو لا يدفع بمُخرَجات مُفكرة موازية للغرب.

هذا التفسير جزءٌ منه صحيح، وقد كتبت عن هذا عِدَّة مرات، لكن هناك أسباب أخرى جوهرية لم يُكتَب عنها كثيراً تتعلق بالطريقة المختلفة للتفكير ما بين الشرق والغرب أساساً، وهو ما كَتَبَ عنه بعمق ريتشارد إي نايسبيت في بحثه القيّم: جغرافية الفكر.

هذا الكاتب المتميز لا يتحدّث عن غَلَبَة هؤلاء في علوم بعينها وغَلَبَة أولئك في علومٍ أخرى، بقدر ما يتحدث عن المباني الفكرية المتباينة في العمليات المعرفية والرؤية للعالم وكامل المنظومة الذهنية للناس كما جاء. وهو بحث رائع يمكن أن يجيب عن استفهاماتنا حول ما كنا نتحدث عنه. فنايسبيت يتطرق للعوامل البيئية (الإيكولوجيا) التي صاغت ثنائية الإنسان والفكر عبر أزمنة طويلة تداخلت فيها علاقات ذلك الإنسان الاجتماعية والثقافية إلى أن أصبح للبشر أوطان ملائمة لهم حصراً. والمكان كما هو معروف عملية معقدة من التكييف المستمر. نعم بإمكان البشر أن ينتقلوا من موطنهم إلى آخر جديد، لكن عليهم أن يتشرّبوا ظروف ذلك المكان الجديد حتى يشعروا بتأثيراته. ربما هذا الأمر لا يقع في جيلين فقط بل قد يستمر لأجيال متعاقبة.

يقول نايسبيت إنه اشترك مع طالبٍ صيني في بحث عن قضايا علم النفس الاجتماعي والاستدلال العقلي. يقول بأن الطالب الصيني قال له: «هل تعرف أن الفارق بيني وبينك هو أنني أرى العالم دائرةً وأنتَ تراهُ خطاً مستقيماً»! سأله كيف؟ قال: «يؤمن الصينيون بأن الأشياء دائماً وأبداً تتحرك مرتدةً إلى حالة ما كانت عليه في البدء. إنهم يُوْلون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، ويبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لا سبيل أمامهم لفهم الجزء دون فهم الكل». في حين أن الغربيين كما يقول ذلك الصيني يعيشون في «عالمٍ أبسط حالاً وأقلّ خضوعاً للحتميّة. إنهم يُركزون انتباههم على موضوعات (أو أناس) لها وجودها الفردي البارز دون الصورة الأكبر، ويظنون أن بوسعهم التحكم في الأحداث؛ لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء».

هذا الوصف من الطالب الصيني للفروق الفردية ما بين الغربيين والشرقيين جعل نايسبيت يُعيد النظر في الكثير من الأفكار حول واقع الناس. والحقيقة، أن ذلك الوصف غايةٌ في الدقة.

منتهى القول، أن هذا الموضوع جدّ مهم لأن يُقرأ بعمق؛ لأن فهمه سيُخلّصنا من العديد من القيود والنظرة إلى الآخر وفي طريقة فهمه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4954 - الأربعاء 30 مارس 2016م الموافق 21 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:59 ص

      سلام عليكم عندما كنت في المدرسة شرح الاستاذ نظريات لمعرفة عمر الارض فقلت له انا يا استاذ لدي نظريه فنظر لي باشمئزاز وقال قلها فقلت له:عندما تكونت الارض لم يكن لها غلاف جوي وثبت علميا ان الغلاف يتمدد كل مئة سنة كدى ملم فلو قسنا الغلاف الجوي وقسمناه على نسبة التمدد وضربناه في مئة لعرفنا عمر الارض فما كان منه الا شتمني امام الطلاب هل تتوقعون النبوغ في وسط الظلام الحنون ahmed

    • زائر 5 | 6:24 ص

      موضوع رائع وقيم. تمنيت لو ان الكاتب اسهب اكثر فيه. ارجو ان يتمم هذا المقال في جزء آخر.

    • زائر 4 | 5:25 ص

      أتصوّر أن تفسير نايسبيت بحاجة إلى التأمل أكثر بدلاً من التسليم بصحته التامة، ذلك لأن الباحثين في الغرب يسعون دائماً إلى التركيز على المسائل البيئية والجغرافية لإثبات تفوّقهم، ويتعمدّون أن يتجاهلوا أثر الاستعمار والقوى العظمى والاستيلاء الملتوي على وسائل الإنتاج (في دول الشرق) في تكريس تخلّف شعوب هذه الدول، وبالتالي فإنهم يوهموننا بأنهم مفكرين وعظماء لآنهم ولدوا في مكان آخر "أكثر ملاءمة" للإبداع، وهذا بالطبع تزييف للحقيقة يريدنا الغربيون أن نقتنع به . . ونصمت!

    • زائر 2 | 11:39 م

      أحسنت أبو عبد الله. عندما كنا متمسكين بالإسلام الصحيح كنا روادا في مختلف العلوم وعندما تركنا ذلك أصبحنا أمة متخلفة

    • زائر 3 زائر 2 | 5:02 ص

      لطيف منك

      لطيف ان نتناول هذه الموضوعات بهذه الحرفية. بارك الله فيك

اقرأ ايضاً