العدد 4976 - الخميس 21 أبريل 2016م الموافق 14 رجب 1437هـ

"كتاب محمد".. استعادة للذكريات أم محاولة لبعث الموتى بالكلمات؟

نحن كثيرا حين يرحل عنا من نحب. ونتوسل لحظة لقاء إضافية ولو بدون كلام... لكن الكاتب اليمني جمال جبران يحاول إعادة شقيقه الراحل محمد للحياة في مجموعته "كتاب محمد".

"محمد الذي مات وتركني وحيدا في غابة" هكذا يصرخ الكاتب في مطلع المجموعة القصصية وأول صفحات الكتاب الذي يجمع بين دفتيه نحو 20 قصة قصيرة أو فصلا وصدر عن دار "أخبار اليوم" المصرية.

في أول نصوص المجموعة وعنوانه "سر العربة التي يعرفها محمد".. ينطلق الكاتب بين سطورها معبرا عن وجعه ورابطا بين كل تفاصيل حياته وبين أخيه حتى ذراعه اليسرى "التي كسرها محمد ما زالت تعاني من آلام موسمية لكنها لا تزال تذكرني بمحمد."

أما سر العربة فهي عربة نقل الموتى في مستشفى صنعاء التي حطمها محمد واضطرت الأم بسبب ذلك لأن تحمل جثة امرأة ضخمة على ظهرها وتبكي كثيرا في منتصف الطريق "هكذا قالت لي.. هناك أسرار ستبقى طويلا في قلبها ولن أجبرها على البوح بها.. لا أقوى على جرحها وتقليب مواجعها.. وأنا من جهتي سأحتفظ بسر واحد في قلبي إلى الأبد .. لن أقول لها إن من كسر عربة نقل الموتى هو شقيقي الراحل محمد."

في القصة الثانية أو في الفصل الثاني "صرت كبير العائلة" ينتقل الكاتب إلى لحظة فارقة.. كيف ينقل الخبر إلى أبيه العجوز؟ هل يقول له لقد مات أقرب الناس إلى قلبك؟ ثم يقارن بين قوة أخيه الراحل وعجزه الذي تفاقم بعد موت أخيه.. "كنت أقول لو مات بابا جبران أو ماما زمزم فسوف يتكفل محمد بترتيب كل شيء.. محمد كان عالما بكل هذه المشاغل وقادرا عليها... على عكسي تماما. لا أدعي أن الله قد أثقل علي عندما قرر اختطاف محمد.. لقد قتلني!"

ثم يجد نفسه في نهاية القصة يخلع ملابسه ويحاول ارتداء ثياب محمد ربما في محاولة يائسة للاستقواء أو ربما لإحياء أخيه بعد أن غيبه الموت.

النص الثالث (في غرام اسم محمد).. فمن لحظة الرحيل وقع الكاتب في غرام اسم شقيقه.. صار يغبط الناس الذين لديهم أشقاء اسمهم محمد "وحدي صرت أتناول العشاء بدون شقيق اسمه محمد.. محمد تثلج نار الحنين والشوق.. تصبح على خير يا حبيب قلبي يا محمد.. أقولها في نهاية كل يوم دافئة وحنونة تليق بشقيقين لن يلتقيا بعد اليوم أبدا.. محمد يُقيم الآن في الجنة وأنا سأذهب إلى النار".. يقولها الكاتب دون أن يشير إلى السبب الذي دفعه ليصدر على نفسه الحكم بهذا المصير.. أو ربما يرى أن جريمته هي البقاء على قيد الحياة بعد موت أخيه محمد.!

في القصة التالية "جبران وقد صارت أصابعه عيونا" يتحدث عن الأب الذي "لم يعد يتكلم معي عن الراحل محمد.. وكأنه اتفاق جماعي بيننا بضرورة إغلاق كتاب محمد".

لكن بالرغم من ذلك تظل كل الأشياء تُذَكِر كاتبنا بشقيقه.. في القصة الخامسة تمرض الأم زمزم فيسرع لزيارتها ليلتقي شقيقاته عندها في المستشفى في (الطابق الرابع الغرفة رقم أربعة).. هي الغرفة نفسها التي مات فيها محمد.

النص السادس عنوانه (تأنيب أمكما) تبدأ باقتباس للشاعر المصري الشهير أمل دنقل. "ذكريات الطفولة بينك وبين أخيك.. حسكما فجأة بالرجولة.. الصمت مبتسمين لتأنيب أمكما". اقتباس ينتقل بعده إلى عالمه الذي اتخذ من محمد محورا له.. حتى صفحة "الفيس بوك" يضع لها نفس الصورة في كل مرة.. شقيقان يسيران متلاصقين ويبدو الأكبر سنا وهو يرفع غطاء فوق رأس أخيه الأصغر ليحميه من المطر "هكذا كان محمد معي".. ثم يمر الكاتب باكيا على فيلم "الهند الأم" أو ماذر إنديا و"المليونير المتشرد" الذي "يحكي قصتنا".

بعدها ينتقل لتمجيد الموت أو مناجاته .. "السيرة الطيبة لمحمد وتلك الشريرة لي..تعلق الناس به ونفورهم مني.. سمة العطاء الساكنة فيه وحالة الأنانية المسيطرة على روحي". ربما يصنع الكاتب من هذه العبارات مقارنة يضفي عن طريقها أجمل الصفات على حالة الموت التي يوجد بها محمد وعكسها على الحياة التي يعيشها هو بعده.

وتمضي مفردات المجموعة الأدبية واحدة تلو الأخرى تتقاطع وتتشابك وتلتقي عند فكرة واحدة.. الموت بقسوته وإطلالة عليه في محاولة لابتعاث روح الأخ الغائب حتى إذا وصل إلى قصة (الأخ الأكبر) يكاد يصرخ في كل من له أخ على قيد الحياة.. استمتع بدفء أخيك .. لا تكرروا ما وقعت فيه "فمبعث ذلك الذنب الذي ما توقف يلاحقني ... تلك المسافة التي وضعتها بيني وبينه في سنواته الأخيرة.. تركته لينتهي ويموت وأنا مشغول بتحقيق أشياء لم يعد لها معنى في غيابه.. هل كان ينبغي أن يحدث موت كي أتعلم؟"

يستخدم الكاتب مفردات بسيطة ولغة سهلة تقترب من العامية في بعض الأحيان.. ومع ذلك فقد تمكن من خلال نبل الفكرة وقوة العاطفة والأسلوب المباشر من أن يدفع القارئ دفعا لأن يحزن معه ويندم معه ويبكي معه.. تتراوح النصوص من جهة بين أدب الرثاء غير المطروق كثيرا هذه الأيام وبين فن السيرة الذاتية والسرد القصصي.. يطرحه بأسلوب جديد نسبيا هو الحكايات القصيرة والقصة القصيرة جدا وهي الأوقع لكسر الرتابة والملل ولتتناسب مع وتيرة الحياة في العصر الحديث.

إن تجربة الكاتب وفكرة الكتاب لا تخلو من إسقاطات دينية بدءا من العنوان ووصولا للإيمان بالموت والحساب والجنة والنار وخوفه من ألا يكون هناك لقاء آخر مع شقيقه الذي تمنى له أن يذهب إلى الجنة أما هو فلا يعرف مصيره.. العذاب ليس عذاب النار وحدها بل عدم لقاء أخيه حتى في الآخرة.

الذكريات عند المؤلف ليست جسدا محنطا بل كيانا متحركا نابضا بالحياة رغم أنها تدور كلها حول الموت والفقد.

يأخذنا الكاتب في رحلة ذكرياته حتى يصدمنا في النهاية بقسوة الحياة التي جعلته -ويا لها من مفارقة- ينسى مكان قبر أخيه في آخر نصوص المجموعة تحت عنوان (وقد ضاع مني قبره).. بل إنه يحاول أن يستدل عليه من شواهد القبور.. ويختتم قائلا "لم أزر محمدا ولم أقرأ شيئا على قبره.. كنت أقول إن زيارة واحدة تجعل موته حقيقيا وأنا الذي لا يريد التصديق على ذلك."!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً