العدد 5009 - الثلثاء 24 مايو 2016م الموافق 17 شعبان 1437هـ

الباحث العراقي عبدالحسين شعبان: انهارت الدولة الوطنيّة بسبب موقفها من قضايا المواطنة والحريّات

الوسط - المحرر السياسي 

تحديث: 12 مايو 2017

نشرت مجلة كولان العراقية باللغة الكردية في الطبعة الورقية وباللغة العربية على موقعها حواراً مع الباحث العراقي عبدالحسين شعبان يوم الأحد الماضي (22 مايو/ أيار 2016)، وهذا نص المقدمة والحوار الذي أجراه الصحافي العراقي بهاء الدين جلال:

اسم كبير وتاريخ طويل وفكر عميق، ماركسي ولا يختفي خلف أسماء أخرى، لكنه في الوقت نفسه ليس تقليدياً أو أرثوذوكسياً، إنه مجدّد وناقد، للفكر والممارسة والأدوات، صريح في التّعبير عن آرائه ومواقفه. ومثل المثقفين العضويين البارزين، فالنّقد وسيلته. وقد شهدت له الساحات الفكريّة والثقافيّة العربية والدولية حضوراً واجتهاداً، إضافة إلى دفاعه عن حقوق الإنسان، ولعلّه المناضل الأبرز عربياً على هذا الصعيد، حين حاز على جائزة عربية ووسام، مثلما نال جائزة ووسام الحقوقيين العرب، لدفاعه عن الحقوق والحريّات وجائزة التسامح، لأنه داعية للاّعنف، وهو الآن أستاذ فلسفة اللاّعنف والقانون الدولي.

العراق دولة غنائمية بامتياز وتقوم على نظام الزبائنية

ومن أصدقاء الشعب الكردي الكبار، ومن المؤمنين بحق تقرير المصير، وله مساهمات فكريّة وعملية على هذا الصعيد في المؤتمرات العراقية والعربية والدولية، وهو حائز على وسام الصداقة العربية - الكردية باستحقاق، لثباته بالدفاع بإخلاص عن الحقوق المشروعة للشعب الكردي، في إطار ما هو مبدأي واستراتيجي، وإن تمايز أحياناً عن بعض السياسات السائدة للقوى الكردية، وقد وقف ضد الاقتتال الكردي – الكردي، وناشد الفريقين في حينها برسائل منشورة عن ضرورة وقف القتال واللجوء إلى الحوار للتوصل إلى الحلول السلمية المقبولة من جميع الأطراف.

لم يخف تعاطفه مع طموح الشعب الكردي وتطلعاته في حكم نفسه بنفسه وفي التعبير عن هويّته وخصوصيته، ومثلما هو مؤمن بوحدة عربية ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون أو بالاشتراكية، فهو مؤمن بوحدة الشعب الكردي وتطلّعاته إلى دولة مؤحّدة له.

إنه الوفي والتاريخي، الأكاديمي والباحث والمفكّر عبد الحسين شعبان الذي التقيناه على هامش زيارة له ومحاضرة ألقاها عن: جيوبوليتيك  المسألة الكردية، من منظور مستقبلي، وأجرينا معه هذا الحوار الجريء، وبغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه، فإنك لا تستطيع إلا أن تحترم وجهات نظره وآرائه التي لا يصدرها إلا بعد تمحيص وتدقيق، مستخدماً أدواته المعرفية في التحليل سواءً أخطأ أم أصاب، لكنه مجتهد ويعرف قيمة ما يقوله.

 بعد انتهاء هذا الشهر يكون قد مرّ قرن واحد على اتفاقية سايكس - بيكو المشؤومة، ولقد ظهرت خلال تلك السنة تلك الحقيقة، وهي أنّ الدول التي نشأت بموجب تلك الاتفاقية، هي عبارة عن مجموعة من الدول الفاشلة والتي لا تستطيع بعد من المحافظة على سيادتها الدولية، وبالأخصّ العراق وسوريا، وكمفكّر عربي كيف تنظر إلى الدول التي أوجدتها الاتفاقية المذكورة، وبرأيكم هل بإمكان العراق وسوريا أنْ تعودا كدولتين تتمتّعان بسيادتهما ووحدة أراضيهما مرّة أخرى؟

إن اتفاقية سايكس - بيكو التي تم توقيعها في عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا وانضمّت إليها أيضاً الإمبراطورية الروسية، ثم قامت بكشفها والانسحاب منها بعد الثورة البلشفية عام 1917 انتهت، ولم يعد لها وجود، ولن تنفع معها محاولات الترقيع، لأنها تآكلت، لهذا لا بد من التفكير بما بعد انتهاء اتفاقية سايكس -بيكو، هذه الاتفاقية جاءت في مرحلة الكولونيالية، ونحن الآن في مرحلة ما بعد الكولونيالية، خصوصاً منذ عام 1960 بصدور القرار رقم 1415 من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقاضي بتصفية الكولونيالية. لقد كان هدف الاتفاقية السريّة تقسيم بلدان المنطقة، وهو ما حصل بالفعل، بالرغم من انكشاف خطط القائمين عليها.

سايكس ـ بيكو كانت في مرحلة الكولونيالية ونحن الآن في مرحلة ما بعد الكولونيالية

ومن المفارقات أن اتفاقية سايكس – بيكو التي رفضناها في السابق، جئنا لنتحسر على ذيولها وبعض بقاياها، لأن الدولة الوطنية انهارت، بسبب موقفها من قضايا المواطنة  والحرّيات وحقوق الإنسان والتعامل مع المسائل القومية والدينية، وأقصد مع المجاميع الثقافية، لأنني شخصيا لا أحبّذ ولا أُفضّل ولا أستخدم كلمة (الأقلّيات) لأنها تستبّطن التسيّد والهيّمنة، لذلك ومنذ وقت مبكر، بل منذ عام 1992 انتقدتُ قرار الأمم المتحدة الخاص بإعلان حقوق الأقليات، وكان ينبغي أن يُقال إعلان حقوق المجاميع الثقافية واللّغوية والسلالية والإثنية والدينية وغير ذلك، لأنه يحمل معنى المساواة.

ولو عُدنا إلى موضوع العراق وسوريا، فأعتقد أن العراق كدولة فاشلة، أصبحت واضحة، حيث تدهورت مكانتها بشكل خاص ما بعد الاحتلال على نحو مباشر، علماً بأنه لم يكن دولة ناجحة في السابق، ولكنها كانت دولة مؤسّساتية، فيها مركزية صارمة، وفيها استبداد وبيروقراطية حكومية تسيّر وتدير أمور الدولة.

لإيران مشروع سياسي مثلما لتركيا، فأين المشروع العربي أو العراقي أو الكردي؟

وما بعد الاحتلال انهارت الدولة العراقية، حيث حلّت الفوضى محل مؤسسات الدولة، وحتى التشكيلات التي تم تأسيسها أعقبت ما بعد الاحتلال، فقد كانت هشّة ورخوة، لهذا سرعان ما تفتّت، واتّضح الأمر من مجلس الحكم الانتقالي وما بعده وإلى الآن، والسبب الأساسي هو نظام المحاصصة الطائفية ـ الإثنية.

أطلقتُ على دولة العراق (الدولة الغنائمية)، أي هي غنيمة يراد توزيعها بقسمة طائفية إثنية بين المجاميع التي تصدرت المشهد السياسي، والانقسام ليس مذهبياً، لأن المذاهب اجتهادات فقهية، أما الطوائف وانعكاساتها الطائفية السياسية والتي يراد لها أن تكون طوائفية مجتمعية، فهي مسألة أخرى، وهناك من يزعم أنه يمثل هذه الطائفة أو تلك، هذا هو الأمر الذي يجري الاختلاف عليه.

وقلتُ عنها أيضاً إنها دولة غنائمية تقوم على نظام الزبائنية أو الزبائن، وهذا النظام له علاقة بالأنظمة القديمة، حيث كان هناك راعي وهناك زبائن، وهؤلاء الزبائن من طبقة معينة يتقاسمون الوظائف والمناصب على حساب عامة الناس والشعب، نحن الآن في دولة فاشلة غنائمية وزبائنية وصلت إلى طريق مسدود، ولا أظن أن استمرار الحال على ما هو عليه أصبح ممكناً. وحصل الأمر أيضاً في سوريا على هذا النحو، حيث انهار جزء من الدولة الوطنية، وخرجت مناطق واسعة من سيطرة الحكومة التي كانت تبسط نفوذها عليها.

دخل داعش كقوة إرهابية غاشمة، سواء في العراق أو في سوريا، وأسقط الحدود التي أقامتها سايكس – بيكو بين العراق وسوريا بإقامة ولاية الفرات خصوصاً بين الرقة ودير الزور، وصولاً إلى الموصل وما بعدها. وعبر ألبوكمال إلى القائم مع الأخذ بنظر الاعتبار كل غرب العراق وصولاً إلى الرمادي، هذا الأمر يعيد الآن ترتيب الأوراق، خصوصاً إذا ما انتهت هذه البلدان بطريقة أو أخرى إلى إعادة التشكيل والترتيب والتوليف لكيانية أو ربما لكيانيات قد لا تتوقف لحدود الأطروحات السائدة.

ويقال إن العراق سيتحوّل إلى ثلاث كيانيات كما نعلم (شيعية، سنية، كردية)، علماً أن الوجود الكردي كإقليم قائم منذ عام 1991، أما في سوريا هناك احتمال أن تقام خمس أو ست كيانيات (دولة للدروز، دولة للعلويين في الساحل والجبل، دولة كوردية في عفرين وقامشلي ودولتان سنيتان واحدة في دمشق والأخرى في حلب) وهذا هو نفس التقسيم الذي حاول الفرنسيون أن يفرضونه بخصوص سوريا آنذاك. (أي بعد اتفاقية سايكس – بيكو).

لقد توصل جميع الأطراف إلى قناعة تامّة بأنه لا يمكن حلّ مشكلات الشرق الأوسط في إطار الحدود القديمة، حيث تحولّت المنطقة إلى ساحة للصراعات المذهبية بين الشيعة والسنة، وتلعب إيران دوراَ شريراً في تعميق تلك الصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة، إلى أي مدى يمكن أن تخدم هذه الاضطرابات والصراعات المذهبية الهدف التوسعي والمد الشيعي الإيراني؟

شكل الدولة القديم لم يعد موجوداً، المركزية الصارمة انتهت إلى تفتّت وتآكل للدولة القديمة، لذلك لا بدّ من التفكير بصياغات وبأُطر جديدة، واحد من هذه الصياغات هو المشاريع الفيدرالية لدول المنطقة، خصوصاً العراق وسوريا.

بالنسبة للعراق هناك فيدرالية قائمة ولكنها لا تزال تعاني من إشكاليات عميقة ربما توصلها هي أيضاً إلى طريق مسدود، الأمر الذي قد يحتاج إلى التفكير بصياغات أخرى جديدة، وهناك في الدراسات المستقبلية احتمالات كثيرة.

وأقول، بالنسبة للوضع في المنطقة والدولة العراقية هناك ثلاثة احتمالات، الاحتمال الأول هو أن يبقى الحال على ما هو عليه لخمس أو عشر سنوات أخرى، وهذا الاحتمال يعني المراوحة.

لا أحد يستطيع الادعاء بتمثيل الشيعة أو السنّة

الاحتمال الثاني هو أن يتم التراجع أي العودة إلى الماضي، كدولة مركزية شديدة تحاول أنْ تبسط سيطرتها بأشكال مختلفة، وقد يكون هذا غير ممكن أو صعب جداً، ولكنه احتمال مطروح، وهناك أطراف تفكر فيه، والصراع الذي جرى في الدورتين الماضيتين بين الإقليم وبغداد كان هو صراع حول موضوع الاختصاصات وتحديد الصلاحيات التي وردت في الدستور، ومحاولة تقليصها باتجاه أكثر مركزية للدولة، ولو نجح ذلك الاتجاه لربما تمدّدت إلى حدود معينة.

الاحتمال الثالث أنْ تتم عملية التغيير الشامل، أولاً بالنسبة للإقليم على سبيل المثال قد ينتقل من طور إلى طور آخر، الآن يتعايش في إطار النظام الفيدرالي الذي يقرره الدستور بغض النظر إلى الألغام الكثيرة الموجودة في الدستور والنواقص والثغرات والعيوب. وقد ينتقل إلى النظام الكونفدرالي، وهناك اتجاه يقول إنّ هذه الفيدرالية لم تعد صالحة، ولا بد أن ننتقل إلى طور أرقى أكثر استقلالية بإعلان الكونفدرالية، ويطرح هذا المشروع على بساط البحث.

وقد يتطوّر الأمر أكثر ليعلن كيانية مستقلة أي شكل من أشكال الدولة، بالمعنى القانوني والسياسي، وربما هذا يعتمد على عدّة عوامل، ومنها قراءة الوضع السياسي الداخلي والإقليمي والدولي، وهذا يعني اختيار اللحظة الثورية كما تسمّى في العلوم السياسية، واللحظة الثورية هي أنْ تحسب الحساب لكي لا تحرق المراحل من جهة، فتقع ضحية الاستعجال والتسرّع، ولكي لا تتردّد وتمتنع عن أخذ زمام المبادرة، فتنتحر وأنت في مكانك، وبالتالي تضيع الفرصة.

وعلى المعنيين اختيار اللحظة والوقت المناسب باتحاد الظرف الذاتي مع الموضوعي، لكي يتم الإعلان من هذا القبيل، أخذين بنظر الاعتبار تطوّر الوضع في دول الإقليم وما حوالينا من دول أساساً هي تعاني من مشكلة كوردية، ولديها تحفظات من الوضع الكردي، وحتى لو قبلت ما هو قائم في كردستان العراق، فإن هذا القبول هو من قبيل الأمر الواقع، وليس رضا أو رغبة أو تأييداً، لأنه ليس بالإمكان تغيير هذا الأمر الواقع، لأسباب دولية وإقليمية ومحلية، وغير ذلك.

نأتي إلى إيران، فإيران لديها مشروع في المنطقة، مشروع سياسي مثلما لدى تركيا أيضاً مشروع سياسي، مشروع إيران هو مشروع فارسي بالدرجة الرئيس ويتغلف بغلاف مذهبي، يحاول التمدّد على حساب دول الإقليم والمنطقة مستغلاً النّفوذ الإيراني من جهة والعلاقات الطائفية والمذهبية من جهة ثانية، العلاقات السياسية الخاصة بمجاميع شيعية من جهة ثالثة، وتحت هذه العناوين بما فيها أحياناً مزاودات العداء للإمبريالية وغير ذلك، تتوجه إيران لقطف ثمار عملها السياسي والهادىء طويل الأمد، ولإيران دبلوماسية فيها كثير من الدهاء والحيلة والمكر والذكاء وطول النفس، على ضد من دبلوماسيتنا أحياناً.

لتركيا أيضاً مشروع سياسي طوراني مغلّف بطلاء مذهبي أيضاً، تحت عناوين دينية إسلامية ودفاعية عن السنّة وحركة الإخوان المسلمين وإلى آخره، وهذا مشروع توسعي مثل المشروع الإيراني، تحت مزاعم مختلفة تارة حماية التركمان، والأخرى إعادة الخلافة، علماً بأن السيف التركي غمده من حلف الناتو "الأطلسي"، وهكذا العازف التركي يعزف بآلة عثمانية إذا جاز التعبير، ولكن بألحان جديدة، مثلما يحاول عازف الناي الإيراني أنْ ينغّم بألحان مختلفة، ولكنها في نهاية الأمر تصب في مشروعه السياسي الأيديولوجي مثل المشروع التركي.

للأسف الشديد أقول نحن أبناء هذه المنطقة الآخرين من العرب والكرد ليست لدينا مشاريع واضحة المعالم أو محددة، وهناك غياب لمشروع عربي ناهيك عن غياب لمشروع عراقي موحد، وحتى المشروع الكردي مازال يقدّم خطوة ويؤخّر خطوتين، بسبب أولاً الصراعات الكردية - الكردية، وعدم وجود وحدة وطنية كوردية، ثم هناك تردّد في تبني الشعار الأساسي الذي يقوم على أساس حق تقرير المصير، وهذا الحق ليس منّة أو هبة أو هديّة للشعب الكردي، وانما هو حق مشروع قانوني وسياسي يقرّ به المجتمع الدولي، وطريقة التعبير عن هذا الحق متنوعة ومختلفة.

هنا نعود إلى اللّحظة التأريخية التي ينبغي أن يختارها الكرد للتعبير عن هذا الحق. ربما نجحوا نجاحاً باهراً في تبنّي مشروع الحكم الذاتي في السابق، واضطرت سلطة مثل سلطة البعث أنْ تقر بالحكم الذاتي حتى لو كانت فيه نواقص أو ثغرات في بيان 11 آذار عام 1970، ثم بإعلان قانون الحكم الذاتي عام 1974.

وبلحظة تأريخية مناسبة استطاع الكرد أن يتبنّوا مشروع الفيدرالية بعد انتفاضة عام 1991، وحتى في إطار المعارضة لم تكن المعارضة مقتنعة بحقوق الشعب الكردي، ربما أقولها هنا لأول مرة بأن الذي صاغ مشروع حق تقرير المصير للشعب الكردي في اول اجتماع عام للمعارضة هو المتحدث أمامك، وكان لي الشرف في صياغة مشروع حق تقرير المصير للشعب الكردي عام 1992 في مؤتمر فيينا في حزيران عام 1992، ثم هنا أيضاً في كردستان (شقلاوة) في 1992 وضعت إطاراً لمشروع الفيدرالية للمعارضة، التي وافقت عليه بعد أنْ تبنى برلمان كردستان "قانون الاتحاد الفيدرالي" من طرف واحد حتى وإن كانت الموافقة على مضض، فإنه كانت خطوة مهمّة للاعتراف بحقوق الشعب الكردي.

والآن يتحدث الكثيرون عن دورهم في كذا، ودورهم في كذا، واستطيع أنْ أقول بتواضع وعن معرفة أنّ غالبية هذه القوى كانت متحفّظة، بل إن بعضها عاتبني لأنني كتبتُ صيغة إعلان حق تقرير المصير وصيغة الفيدرالية، ودفعت أثماناً باهظة بسبب ذلك، لا أريد الحديث عنها الآن، ولكنني أقول بثقة وصراحة ودون مجاملة لأحد، إنّني مؤمن بحق تقرير المصير وبالفيدرالية كنظام يصلح للعراق، ولكن وفقاً لقواعد الفيدرالية المعروفة، وقد أختلف مع هذا التوجّه أو ذاك في السياسة الراهنة، وفي المواقف الآنية، ولكن المهم لديّ أنني مع ما هو استراتيجي وليس مع ما هو طارىء وظرفي ومؤقت.

ما يجري الآن في بغداد، يعني انعدام المؤسسات الشرعية للدولة، وأن مجلس النواب قد تعطّل والحكومة أصيبت بالشلل، كما لم يبق أي وجود للعملية السياسية، تُرى هذا الانفلات السياسي إلى أين يقود العراق؟

أعتقد نحن الآن في حالة استعصاء وانسداد أفق، لا مجال لإعادة لحمة هذه الأوضاع، حتى لو جرت تسويات، ولكن ستكون تسويات صمغية، ما أنْ تتعرض إلى الشمس سرعان تتفكّك، أو يتفكّك الشمع إذا جاز لي التعبير أنْ أقول لأن هيبة الدولة العراقية منهارة، وهناك تحدّيات أساسية تواجه الدولة العراقية ما تزال قائمة حتى الآن، وهي خمسة تحديات رئيسية:

التحدي الأول هو الطائفية ونظام المحاصصة الطائفي الإثني الذي جاء مع بول بريمر أو كُرّس في إطار مجلس الحكم الانتقالي وتبعه فيما بعد التقسيم من المشير إلى الخفير، ومن أعلى المسؤوليات إلى الفراش.

قد أختلف وقد أتفق مع السائد من السياسات، لكنني مبدئياً واستراتيجياً أنا مع حق تقرير المصير بدون رتوش

التحدي الثاني هو الإرهاب الذي ما زال قوياً ومؤثراً، وداعش ما تزال تحتلّ الموصل وأجزاء أخرى من العراق ولديها قدرة في المداورة والمناورة ونقل نشاطها من هذا القسم إلى ذاك ومن هذه الجهة إلى تلك الجهة، في حين حتى التقدم الذي أحرزته الحكومة العراقية بمساعدة قوات التحالف في تحرير بعض المناطق ما زال يعاني من مشكلات كبيرة، مثل: موضوع إشكالية الحشد الشعبي، وإعمار ما خربته العمليات العسكرية، ولا سيّما عودة النازحين وتعويضهم ومشكلات أخرى. ومع هذه الإشكالية هناك العنف المستمر الذي يضرب في كل مكان، وقد أصبحت ظاهرة العنف مستشرية في كل مكان والى حدود كبيرة، تفجيرات، مفخخات وقتل والى آخره.

التحدي الثالث الوجه الآخر للإرهاب، ونعني به الفساد المالي والإداري، وهو الذي ضرب أطنابه في جسم الدولة العراقية من القمة حتى القاعدة، الكل يقولون إن هناك فساداً، ولكن من هم المفسدون فلا أحد يشير إلينا من هو المفسد؟ والقضاء ما زال عاطلاً وعاجزاً عن كشف المفسدين لأسباب تتعلّق بالوضع السياسي، ولا يمكن للقضاء أن يعمل إلاّ ضمن بيئة سليمة تساعده على أداء واجباته، فما بالك إذا كانت السياسة قد لعبت دوراً سلبياً في التأثير على القضاء؟

التحدي الرابع هو وجود ميليشيات، فلا يمكن أنْ تتحدث عن دور الدولة مع وجود ميليشيات تستخدم السلاح خارج إطار الدولة والقضاء، لا يمكن أن يكون هناك استخدام إلاّ من قبل جهة واحدة وهي الدولة بغض النظر عن الموقف من جهاز الدولة، وهذا خللٌ كبير ينخر في جسم الدولة العراقية مثلما تنخر الطائفية فيه. إن وجود مسلحين خارج سيطرة الحكومة غير مقبول أصلا في دولة تدّعي أنها تريد السير نحو الدولة المدنية، لأن من مواصفات هذه الدولة، هو سيادة القانون والانتقال السلمي للحكم عبر الانتخابات، وفصل السلطات واستقلال القضاء وغير ذلك.

اليسار والحركة الشيوعية هما الحليف للحركة الكردية

التحدي الخامس هو التحدي الإقليمي والدولي، فالعراق مفكّك وموزّع ومتشظّي وفريسةٌ يسيل لها اللعاب، حيث إيران من جهة وتركيا من جهة ودول الخليج والمجتمع الدولي من جهة أخرى، إضافة إلى القوى الدولية المتنفّذة، كل هذا يواجه العراق، لذا لا يمكن بقاؤه واستمراره على وضعه الحالي الذي نحن فيه. إنه وصل إلى طريق مسدود لا بدّ أنْ يفكر بعملية التغيير ولكنها كيف تتم، فهذه بحاجة إلى إعادة قراءة الوضع السياسي، لكي نصل إلى ما نريد الوصول إليه إذا ما قررنا عملية التغيير، وهذا موضوع آخر.

عندما اقتحم أنصار التيار الصدري مبنى مجلس النواب العراقي، كانوا يردّدون عبارة (إيران برة برة)، ولكن رأينا بعد يومين من هذا الحدث أنّ مقتدى الصدر توجّه إلى إيران لتقديم الاعتذار إلى المسؤولين الإيرانيين، ألا يعني هذا أنّ إيران توجّه العملية السياسية في العراق بشكل غير مباشر؟

إيران لديها دور كبير في التأثير على العملية السياسية. العراق نصفان: نصف للولايات المتحدة الأمريكية والنصف الثاني لإيران، مع أن نفوذ إيران بدأ يزداد ويتّسع منذ عام 2011، أي بعد الانسحاب الأمريكي بدأت إيران تلعب الدور الأساس في العملية السياسية في العراق بحكم هيمنة الجماعات الشيعية على مقاليد الأمور.

ثابتان رئيسيان لمقتدى الصدر، وعدا ذلك كل شيء مفتوح والشيء ينقلب إلى ضده لديه بحركات بندولية. والثابتان لديه هما معاداته للولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية إلى الآن، والشيء الثاني عداؤه لعودة النظام السابق. مقتدى الصدر هو وغيره لا يمكن أن يتحدثون عن عبورهم الطائفية، لأن كل هذه الأحزاب والجماعات هي مؤسسة على أساس الطائفية، وهو وكل مجموعته ينتمون إلى طائفة، ويزعمون أنهم يمثلون هذه الطائفة. وحزب الدعوة والمجلس الأعلى  والفضيلة وكتائب حزب الله  وعصائب أهل الحق كذلك.

وهكذا، بالمقابل الحزب الإسلامي والمجاميع الأخرى حتى وإنْ أخذت تسميات غير إسلامية، لكنها تزعم أو تدّعي أنها تنطق باسم الطائفة، والطائفة غير الطائفية، ولا أحد يستطيع أنْ يقول هو يمثّل السنة، مثل لا أحد يستطيع أنْ يقول إنه يمثّل الشيعة.

دعني أقول لك، وقلتها لأكثر من مرة حتى السيد علي السيستاني لا يستطيع أن يزعم أو يدّعي أنه يمثّل شيعة العراق أو الشيعة بالعالم، حتى لو روّج إلى ذلك بعض أتباعه أو ممن يجهلون حقيقة المرجعية لدى الشيعة، والمرجعية لدى الشيعة أممية وهي تعدّدية، ولا يوجد مرجع واحد أو مرجع أعلى، وهناك أكثر من مرجع، فأنت مرجعك فلان مثلاً، وأنا مرجعي فلان، وفلان مرجعه فلان، فلا يوجد مرجع واحد، وليس هناك كهنوت ولا توجد كنيسة لدى الشيعة، بل لديهم المرجعية التعددية.

لقد جرى توظيف هذه المسألة سياسياً أحياناً، في حوار لي مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين ومع السيد محمد بحر العلوم، قلتُ لهما: من أين جئتم بتسمية آية الله العظمى؟ لم أسمع قبل ذلك وجود شيء اسمه آية الله العظمى، قالا لي لقد هيمنتم (يقصد أنتم الشيوعيون) على الشارع آنذاك، وبدأ القوميون بالتآمر عليكم ويستطيعون استخدام القوة والجيش والسلاح، أما نحن فقد أردنا أنْ نتصدى للنفوذ الشيوعي وللمدّ الأحمر عام 1959 بالوسائل الدينية والثقافية فابتدعنا موضوع آية الله العظمى في رسالة كتبناها باسم السيد محسن الحكيم وذيلناها بتوقيع آية الله العظمى، لذلك الآن الحديث عن المرجعية العليا والمرجع الأعلى وقضية المرجعية الرشيدة والمرجعية المقدسة، فإن أهدافه سياسية وأبعادها سياسية كذلك.

ثلاثة احتمالات أمام مستقبل المنطقة

لا أظن ولا أعتقد أن السيد علي السيستاني أو غيره يوافقون على مثل هذه التسميات، ربما يرتضونها أو يسكتون عنها، لأنها تمنحهم قوة ونفوذ، لكنهم لو سألتهم في واقع الأمر، سيجيبونك أنها غير موجودة في الفقه الشيعي، لأنهم يدركون أن لا أساس واقعي تقوم عليه، وهي مصادرة لفكرة التعدّدية وحق الاختيار بفرض متسيّد باعتباره الأعلى.

يمكن أنْ تكون مرجعاً للذين يقلدونك، يمكن 500، يمكن 1000 يمكن عشرة آلاف أو يمكن 100 ألف، أنت مرجع لهؤلاء، أما الذين لا يقلدونك فأنت لست مرجعاً عليهم. سأزيد أكثر في توضيح هذه المسألة، الشيعة طائفة تأريخية لها طقوس ولها عادات وتقاليد ولها تأريخ ممتد قبل وجود الأحزاب الإسلامية، هم موزعون على أحزاب، غالبية أعضاء الحزب الشيوعي من الشيعة، أين تضعهم في أي خانة؟ من يمثّلهم من هؤلاء المراجع؟ و68% من أعضاء حزب البعث السابق كانوا شيعة فمنْ يمثلهم؟ القوميون والناصريون وغير ذلك، كانت قياداتهم الرئيسية وبالدرجة الأساسية جمهورهم من الشيعة.

لهذا أقول: لا أحد يمثّل الشيعة، كما لا أحد يمثل السّنة، ويستطيع هذا الفريق السياسي أنْ يعبّر عن نفسه ومن يمثله، وكذلك ذلك الفريق السياسي أيضاً، مثلا أين تدرج عامر عبدالله  وثابت حبيب العاني وعزيز شريف وعبد الرحيم شريف وتوفيق منير وعشرات غيرهم ممن ينتسبون إلى عوائل من السنة، وهم قياديون في الحزب الشيوعي، هل نضعهم في إطار تمثيل السنة وغير ذلك؟ الأمر سيكون مريباً إلى حدود كبيرة أو الغوص فيه سيأخذك إلى ضفة أخرى.

المسألة الثانية والخطيرة جداً، والتي تشكّل تهديداَ للدولة العراقية، هي وجود ميليشيات الحشد الشعبي، على غرار ميليشيات حزب الله في جنوب لبنان، ومن الواضح أن هذه الميليشيات تقاتل بالوكالة عن إيران أكثر مما تقاتل من أجل سيادة العراق، برأيكم ما مدى خطورة هذه الميليشيات على العراق مستقبلاً؟

دعني أفرّق أولاً بين حزب الله اللبناني والمجاميع المسلّحة في العراق، الأمر مختلف، فإسرائيل محتلّة جزء من الأراضي اللبنانية، وقد انبرى فريق سياسي للدفاع عن الأرض اللبنانية وكرامتها وسيادتها، وهو حزب الله وقاد المقاومة.

لو تسألني هل إن السلاح لا بد أن يبقى بيد قوى لا تأتمر بأوامر الدولة إلى ما لا نهاية؟ سأقول لك لا. لو تحقق في لبنان وجود دولة حقيقية، فإن عليها أن تنزع سلاح الجميع واحتكاره لها وحدها، أما الآن فإن الدولة متشظية، بدليل أن لبنان بدون رئيس منذ حوالي سنتين، والعدوان الإسرائيلي ما زال يفعل فعله، والدولة غير قادرة على مواجهة العدوان الإسرائيلي، فهو من موقعه تصدى للدفاع عن الأراضي اللبنانية وعن الحقوق اللبنانية، ولكن على المدى البعيد لا بدّ أن يخضع الجميع للدولة، والدولة هي الوحيدة التي لها حق استخدام السلاح وامتلاكه.

خمسة تحديّات تواجه العراق

الأمر بالنسبة للعراق مختلف، لأن هذه المجاميع أولاً غير مدرّبة التدريب الكافي، وجاءت في فورة وفي إطار الشحن الطائفي والمذهبي بزعم وجود داعش، وأن الخليج وتركيا ستمتد للسيطرة على العراق، وأن بقايا حزب البعث سيعودون إلى مواقعهم، أما فتوى السيستاني "الجهاد الكفائي"، فهي غطاء تم استخدامه سياسياً، وفي الواقع فإن المسلحين موجودون قبل ذلك، مثلاً: لواء بدر لديهم مسلحون وجيش المهدي ومجاميع الحكيم لديهم مسلحون، وهناك مسلحون باسم كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، هذه كلها فصائل سياسية مسلحة موجودة، لذلك إذا أردت أن تعيد بناء العراق لا بدّ من منع وتحريم حمل السلاح، وهناك أسباب أخرى لانخراط بعض الشباب في هذه الميليشيات منها اجتماعية واقتصادية وثقافية، مثل وجود البطالة، والتخلف والشحن الطائفي، فضلاً عن ذلك أن بعضهم حصلوا على امتيازات. صحيح أن بعضهم ضحّوا بأرواحهم وشاركوا في معارك لم يكونوا مؤهلين لها، لا من حيث السنّ ولا من حيث التدريب والتأهيل أو اختيار الموقع.

ولبناء الدولة لا بدّ من حلّ جميع الميليشيات وتحريم حمل السلاح، وأي نزاع أو خلاف نعود للدولة المدنية الدستورية القانونية، ونحتكم إليها وهي التي ينبغي أن تعاد لها هيبتها بعيداً عن نظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والمذهبي والإثني الذي تكرس منذ عام 2003 إلى اليوم.

لقد بذل السيد رئيس إقليم كردستان جهوداً حثيثة خلال الأوضاع الراهنة في العراق من أجل إعادة بناء العراق الجديد على أسس الفيدرالية والبرلمانية والتعددية والتعايش السلمي الاختياري، ولكن يبدو أن العملية قد باءت بالفشل،  وسيادته الآن يستعد لإجراء الاستفتاء، وأنك كمثقف عربي عراقي، كيف تنظر إلى إجراء عملية الاستفتاء وحق تقرير المصير لإقليم كردستان؟

شخصياً كنتُ منذ أكثر من خمسة عقود مع ضمان حق تقرير المصير للشعب الكردي ولا أزال ودعوت لذلك طيلة حياتي إلى اختيار اللحظة المناسبة، اللحظة الثورية وهذا أمر مهم لبلورة الأهداف واختيار الوسائل المحددة، للوصول إلى هذه الأهداف ودائماً هناك علاقة مهمة بين الوسيلة والغاية، كلما كانت الغاية شريفة فعليك أن تختار الوسائل الشريفة للوصول إلى الغاية.

في السابق كان الاتجاه العنفي هو السائد بسبب تعنّت السلطات وعدم استجابتها وعدم الإمكانية للتوصل إلى حلول سلمية حقيقية، أما الآن ومنذ سنوات فقد أخذ الحوار يحلّ محل العنف، والجدل بدلاً من الصراع العنفي، الأمر يحتاج إلى المزيد من الحوار لكسب العقول أولاً بعد كسب القلوب وبناء جبهة عربية مساندة لمبدأ حق تقرير المصير، وبالمقابل بل جبهة كردية لدعم الحقوق العربية، بما يؤدي إلى تعزيز شعار الاخوة العربية - الكردية.

بعضهم يبدي دعمه لحق تقرير المصير شفهياً، أما من حيث التنفيذ العملي سيقف عند منتصف الطريق وقد ينقلب انقلاباً عكسياً، كما أن هناك قوى لم تصوّت للدستور بسبب مبدأ الفيدرالية، والآن هذه القوى هي أشد تأييداً للفيدرالية، ليس للفيدرالية الكردية وإنما للفيدرالية بمعناها تقسيم البلاد إلى مناطق وأقاليم، لاعتقادها أن هذا يخفّف من هيمنة القوى الشيعية على سلطة الدولة وعلى المناطق الغربية والموصل وغيرها.

الأمر ليس لاعتبارات مبدئية، بل لاعتبارات مصلحية وأنانية ضيّقة، فقد تستدير هذه القوى مرة أخرى بشكل أو بآخر لتغيير مواقفها. الفيدرالية وحق تقرير المصير لا تتم بصفقات أيضاً حتى وإنْ كانت الصفقة في العمل السياسي ممكنة والمساومة مقبولة ولكن ينبغي أن تكون صفقة ومساومة تأريخية بعيدة المدى، ليس لاعتبارات مصلحية ضيقة.

المجموعة الشيعية توقّع مع قيادة الإقليم أو مع قيادة الحركة الكردية أو مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بأنها تؤيّد حق تقرير المصير أو الفيدرالية أو غير ذلك، ألم يوقّع صدام حسين والنظام السابق على الحكم الذاتي، وكان يمثّل الدولة العراقية، لكن كل هذه الوعود تبخّرت وعادت إلى مواقعها لضرب الحركة الكردية.

ولنتذكر بما جرى بالأنفال وقصف حلبجة والى آخره، وهذه القوى أيضاً الإسلامية من الطرفين، قوى قلقة وغير مستقرّة بشأن حقوق الشعب الكردي، ولا نعتقد أنها تثبت في برنامجها السياسي شيء اسمه حق تقرير المصير، إنْ كان لها برنامج سياسي، الأمر بحاجة إلى قراءة معمّقة، وأنّ حق تقرير المصير فيه جانب مبدئي أساسي، وجانب تنفيذي ينبغي أنْ نحسب القوى التي تقف معنا أو مع الحركة الكردية في تأييد حق تقرير المصير، من هي؟

لنسمّيها، أنا شخصياً أقول باستثناء اليسار والحركة الشيوعية لا توجد قوى حيّة في المجتمع العراقي لديها مواقف تأريخية تؤيد حقوق الشعب الكردي، ربما كانت هناك إرهاصات لتيار ديمقراطي سابق مثلاً، كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد، تبنّوا حقوق الشعب الكردي، وكانت هناك شخصيات تاريخية أخذت مواقف إيجابية مثلًا، الشخصية الوطنية عزيز شريف على سبيل المثال وهو صديق الشعب الكردي، وعبد الفتاح إبراهيم، والجواهري، هادي العلوي وآخرون، الآن لا توجد هكذا زعامات مؤثرة في المجتمع العراقي، والقوى الإسلامية أحياناً تعلن غير ما تضمر، وكذلك تتأثّر بالمحاور الإقليمية.

السنية السياسية لديها محور والشيعية السياسية لديها محور إقليمي آخر، لذلك الأمر يحتاج إلى تدرّج ووضوح وإلى وحدة كردستانية لإعلان موقف واضح وصريح، وتنظيم البيت الكردي هو جزء أساسي ومهمّ في تبني خطوة الاستفتاء، وكما يمكن استدراج الأمم المتحدة إلى خانة الاستفتاء بحيث يأتي الاستفتاء مصحوباً بشيء دولي.

لا بديل عن حق تقرير المصير

دعني أقول لك إنّ ثلاث تجارب مهمّة برزت خلال العقد الماضي ونيّف لموضوع حق تقرير المصير وفق الصيغة التي يطرحها السيد مسعود البارزاني، لا بدّ من الدراسة والتفكر بالوسائل التي اعتمدت في تطبيقاتها.

الأولى إعلان تيمور الشرقية حق تقرير المصير، جاء بعد استفتاء قررته الأمم المتحدة وأعلن عن استقلالها عام 2002، وكانت محتلة من البرتغال وبعد استقلالها وخروج البرتغاليين، جاءت أندونيسيا ووضعت يدها على تيمور الشرقية، وهي أرخبيل من الجزر في البحر تابع لأندونيسيا آنذاك.

التّجربة الثّانية كوسوفو كانت جزءًا من صربيا وقررت الاستقلال عام 2008 وقد أحيل الخلاف إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لتقديم رأي استشاري بخصوص هذا الانفصال الذي حدث بين صربيا وبين كوسوفو، وحكمت محكمة العدل الدولية أن هذا الاستقلال (الانفصال) لا يتعارض مع القانون الدولي.

التّجربة الثّالثة جنوب السودان وقرّرت الاستفتاء وحصلت على نسبة 98% لصالح الاستقلال في عام 2011 وانضمّت إلى الأمم المتحدة، لا أحد يستطيع أن يقف أمام طموح الشعوب في حصولها على استقلالها وانعتاقها، ربما يفكر الكرد أن من مصلحتهم البقاء مع العراق، ولكن إذا وصل الأمر إلى طريق مسدود سوف يفكرون بطريقة أخرى، ليكون طلاقاً، ونتمنّى لو حصل مثل هذا الأمر باعتباره آخر الحلول أن يكون طلاقاً سلمياً، أي لاعنفي وبالتراضي، بعد أن يصبح العيش المشترك مستحيلاً.

أشرتُ في محاضرة لي (في رابطة كاوة – جمعية الصداقة العربية الكردية) إلى أن أحد المفكرين الهنود الأمريكان اسمه (براج خانا)، يقول إن خلال العقود الثلاثة المقبلة سيبلغ عدد الدول في العالم 300 دولة، يعني أن العالم سيزداد 100 دولة، والآن عدد أعضاء الأمم المتحدة 193، وعندما تأسّست منظمة الأمم المتحدة عام 1945 كان عدد الأعضاء 51 عضواً، من أين ستأتي هذه الـ(100) دولة؟ لا بد من انقاسمات وإعلان انفصال واستقلال عن دول أخرى، حصل هذا بعد انبعاث الهويّات بانهيار أنظمة أوروبا الشرقية، فانقسمت يوغسلافيا إلى ستّة أقسام والاتحاد السوفيتي إلى 15 قسم، وشيكوسلوفاكيا إلى قسمين الشيك والسلوفاك، وسبق للعديد من الدول التي أحرزت الاستقلال أنْ انفكت من الدول الاستعمارية السابقة وأسّست دول لها في أفريقيا وفي آسيا.

الأمر الذي يعني أن دولاً أخرى ستتفكّك وستنشأ كيانات أخرى، ربما هذه مرحلة جديدة إذا كان القرن التاسع عشر هو نشوء الدول القومية، والقرن العشرين كان نشوء كيانات ذات أبعاد آيديولوجية، الصراع كان قومياً ثم أصبحت الصراع آيديولوجيا، والآن الصراع حول انبعاث الهويّات، ربما سيأخذ نصف قرن قادم وستقوم كيانات على أساس هوّيات.

صحيح أننا في عالم كبير يحتاج إلى كيانات كبرى أو مجاميع دولية كبيرة، لكن ربما هذه الكيانات التي ستنقسم ستتلاقى مرة أخرى في كيانات إقليمية كبيرة مثلما حصل للكومنويلث الروسي، وكأنه الآن طبعة أخرى من طبعة الاتحاد السوفيتي السابق لمواجهة الاتحاد الأوروبي ولمواجهة الغرب وإلى آخره.

هذا الأمر بحاجة إلى المزيد من التفكّر والدراسة، وبحاجة إلى المزيد من دعم الأصدقاء وكسب الأصدقاء، وتحييد ما يمكن تحييده لإنجاح هذه الخطوة التأريخيّة في حياة الشعب الكردي، لأنه ما زال مجزّءًا إلى أربعة أقسام ومن حقه أنْ يعمل من أجل وحدته القومية، مثلما هو حق للشعوب العربية لتحقيق وحدتها، ومن حقه أن يكون له علم يرفرف في الأمم المتحدة مثل باقي الشعوب والأمم بإقامة دولة أو ربما أكثر من دولة فيما إذا جرى أي تطور على هذا الصعيد، هذه قد تكون قراءة من منظور مستقبلي، قد يحصل وقد لا يحصل.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً