العدد 5010 - الأربعاء 25 مايو 2016م الموافق 18 شعبان 1437هـ

الشهيق الأول والزفير الأخير

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نهاية الشهر الماضي أعلنت الحكومة الأميركية اكتشافاً جديداً يخصّ تاريخ أرضها. لقد توصلوا إلى أن بقايا العظام التي عثروا عليها في منطقة كينويك بالعاصمة واشنطن وبالقرب من نهر كولومبيا قبل عشرين سنة هي لرجل من سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) ويعود تاريخه إلى 8 آلاف و500 سنة، أي إلى إنسان ما قبل التاريخ! وهو اكتشاف سيعيد النظر في الكثير مما كان يُنظَر لها على أنها «حقائق».

أول تلك الأشياء أنه يُجذِّر شعوب الهنود الحمر في الأراضي الأميركية أكثر مما كان يُعتقد. وإذا ما كانت الاستمرارية التاريخية لتلك الشعوب بهذا العمق في التاريخ فهذا يعني أن تراكماً من الخبرات والتجارب كان بيدها أكثر مما كان يُقال عنها، وأن تطوراً ما قد صاحب مشوارها، لكنها أُبِيْدَت تماماً بعد أن قُضِيَ على 112 مليون هندي أحمر تحت خَبَبِ خيول القادمين من أوروبا. كان يُعتقد أن أقصى ما اكتشفه الهندي الأحمر هو نبات الكوراري؛ كي يُرْخي عضلات طرائده، لكن هذا الأمر يبدو افتئاتاً، وأن هناك كذباً عظيماً سطَّره المنتصر في تلك الحرب «القذرة».

عندما كنت أقرأ خبر اكتشاف «عظام كينويك» وجدتُّ أن المعنيين قرروا أن يحفظوا تلك العِظام في متحف سياتل! تذكرت هذا اللفظ: سياتل. إنه أبعد من متحف قائم اليوم ونحن في العام 2016م من الميلاد! هو مسمّى لشعوب عاشت في الأرض الأميركية منذ ما قبل مجيء الأوروبي بمئات السنين، قبل أن تكنسها آلتهم المدمّرة. كانت هذه الشعوب من الهنود الحمر تعمر الأرض وتجعلها قابلة للحياة بطريقة جميلة وليست وحشية كما صُوِّر لنا في التاريخ وبعض تدوينات الدراما.

سياتل! يا له من اسم تطرب له الأذن، لأنه مرتبط بخطاب «عاطفي عظيم» كتبه زعيم تلك الشعوب في ظرف حساس، لو أعدنا قراءته 100 مرة لم نمل منه. هل تعلمون بماذا أوصى زعيم سياتل الأحمر الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين بيرس (1853م - 1857م) ومندوبه إسحق ستيفنز عندما أراد الأخير أخذ أرضهم؟ قال له: «إذا قررنا قبول الصلح فلن يكون لنا سوى شرط واحد: يجب عليكم علاج الحيوانات في هذه الأرض. لقد رأيتُ جثث ألف جاموس وهي متعفنة على المرج».

لله درك يا سياتل. كان يفكر في مصير الجواميس التي كانت تخدمهم في حراثة الأرض والنقل؛ لأنه وفِي. لقد اعتَقَدَ أن هؤلاء (الطامعين في أرضه) مثلهم مثل قبائل الهنود الحمر حين كانوا يتعاملون مع بعضهم بعضاً في السهوب الأميركية من الشمال حتى الجنوب كقومية واحدة. لكن الذي ظهر أن الغزاة مختلفون جدّاً. بل لنقل أنه فكَّر بما لا يجب؛ لأن تجارب آبائه كانت مفعمة بالدَّم مع هؤلاء.

لا نعلم إنْ كان سياتل قد أدرك مُصاب الأفارقة أم لا، عندما شُحِنَ، وعلى مدى ثلاثة قرون، 40 مليون إنسان من ذوي البشرة السوداء من إفريقيا للعمل كرقيق لخدمة البِيْض في البراري، 90 في المئة منهم شباب! كان كل شيء يتم بالقوة لخدمتهم، وعندما لا يكون ذلك متاحاً يُصبح المال هو الوسيلة للهيمنة. لقد اشتروا ولاية ألاسكا من روسيا، وولاية لويزيانا من فرنسا!

من الأشياء اللافتة في هذا العصر المتمدّن، أننا نرى الأميركيين يُحيُون عيداً قوميّاً اسمه عيد الشُكْر في كل عام. قصته أن جمعاً كبيراً من الانجليز والأوروبيين المهاجرين وصلوا إلى السواحل الشرقية لولاية مساتشوستس في الخميس الأخير من شهر (نوفمبر/ تشرين الثاني 1621م)، حيث كانت الرياح ثلجية وشديدة، والبرد يفترس الأجساد. وقد قَيَّض الله لهم شابَّين من الهنود الحمر، هما «ساموسيت وسكوانتو» حيث كانا بمثابة المنجيين لهم من الموت المحقق، وهم الغرباء الذين لا يعرفون طرق العالم الجديد ولا يملكون فيه شيئاً. لكنهم تحولوا إلى أناس آخرين عندما تمكنوا.

في بداية الأمر عاش الهنود الحُمر «مضيافين» للغرباء ثم تحولوا إلى «ضيوفٍ» في أرضهم إلى أن انتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا «مطرودين» و»مطاردين» وأخيراً تسمّى المتاحف بأسمائهم لا أكثر. السبب أن «الفرد الأوروبي» لم يكن قادراً على العيش مع «الشعب الهندي الأحمر»، بل كان يريد أن يعيش الشعب الهندي «كمجموع» معه «كفرد». هذه عقدة الغزاة دائماً.

من أعظم تساؤلات الهوية والتشبّث بالمكان هو الذي طرحه الهندي الأحمر عندما جاؤوا لانتزاع أرضه: «كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟». كان يقول: «الأرض هي أمنا. وكل ما يُصيب الأرض يُصيب أبناء الأرض». حتى «طنين الحشرات مقدّس لدى شعبي. الأزهار والغزال والنسر العظيم ودفء جسد الحصان، كلهم من هذه الأسرة الواحدة».

ترى، هل كان إسحق ستيفنز حينها يفهم ذلك، وهو الذي ترك أرضه في أوروبا بلا أسف ولا رغبة في رجعة إليها؟ عندما كان يقول له زعيم سياتل: «هذه المياه التي تشعُّ وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياهاً، بل هي دماء أجدادنا. وما تهمس به المياه هو صوت جدي. إنها تطفئ ظمآنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا، إنها إخوتنا» فهل كان يُدرك؟!

أختم بعبارة بليغة قالها زعيم سياتل وهو يخاطب شعبه: «الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه. الحيوانات والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد، أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس. إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5010 - الأربعاء 25 مايو 2016م الموافق 18 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 1:23 م

      الأرض خالدة !
      تحيّة للكاتب المُحترم الأستاذ محمد عبدالله محمد ، و نتمنى لهُ دوام المُوفقيّة ..

    • زائر 13 | 8:43 ص

      مقال رااااااائع
      غني ثري

    • زائر 12 | 5:29 ص

      فعلا...لا يحب الأرض الا أهلها الأصليون....ولا يرى جمالها ويقدر خيراتها الا من عاش أجداده فيها...ولكن سيكتب التاريخ في المستقبل عن إنقراض البحريني الأصيل...ولن يتبقى الا متاحف أو مناطق تسمى بأسمه..

    • زائر 11 | 3:25 ص

      شكرا..فعندما يكون الصحافي مثقفا يتمكن من الكتابة بشكل أعمق. .

    • زائر 10 | 2:44 ص

      بورك قلمك

      مبدع دائما

    • زائر 9 | 1:55 ص

      مبدع

    • زائر 8 | 12:48 ص

      أحسنت! أعتقد هذه رسالة واضحة و مباشرة وقوية للمسؤولين عن اجتثاث النخيل والمزارع و دفن البحر في هذه البلد التي كانت يوما ما طيبة عامرة بأهلها!

    • زائر 7 | 12:46 ص

      ماساة والله مساكين الهنود الحمر المفروض يكون لهم قطعة ارض ملك خاص لهم اانصافا في حقهم

    • زائر 6 | 12:37 ص

      ما قصرت.
      الرسالة واضحة
      أرجو أن يفهما المعنيون...

    • زائر 1 | 10:48 م

      ما فهمنا شي خال

    • زائر 2 زائر 1 | 11:55 م

      الخلاصة واضحة كالشمس: موقف الغزاة من الارض وموقف أصحاب الأرض الأصليين منها وشتان بينهما

    • زائر 4 زائر 2 | 12:28 ص

      رد اقرا مرة ثانية بتشوف عفسة شوي

اقرأ ايضاً