العدد 5025 - الخميس 09 يونيو 2016م الموافق 04 رمضان 1437هـ

مقاربات حول مفهوم الدولة الوطنية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

معضلات كثيرة واجهها الفكر العربي، غداة اضطلاعه بمقارعة الهيمنة العثمانية، وما أعقبها من نتائج تمخضت عن هزيمة الأتراك، في الحرب الكونية الأولى. وقد حكمت تلك النتائج، الموقف من الدولة الوطنية العربية، وأدت إلى وجود مقاربات عربية عدة حولها.

ولعل المعضلة البنيوية، هي من أكثر المشكلات إلحاحاً وقوة. وقد تناولناها في أحاديث سابقة عدة. وسنركز على معضلات أخرى، ذات علاقة باختلاف التأثير لمشروع الهيمنة العثماني، في الوطن العربي، من بلد إلى آخر. وأيضاً اختلاف طبيعة المواجهة للاستعمار التقليدي الغربي، بين مشرق الوطن العربي ومغربه. وما يهم في هذا الحديث هو التأثيرات اللاحقة لهذه المقاربة، في مسار الحركة القومية، وإعاقة تطورها، في جناحي الأمة، وكيف أسهمت في ألا يتعزز المشروع القومي، بشكل متوازن ومتكافئ.

أحد هذه المعضلات، أن الهيمنة التركية على المشرق العربي، كانت مباشرة، وأن بلدانه لم تنعم في ظل هذه الهيمنة، بأي شكل من أشكال الاستقلال. وعلى العكس من ذلك، تمتعت بلدان المغرب العربي، بنوع من الاستقلال الذاتي، في ظل تلك الهيمنة.

المعضلة الأخرى، أن الدولة الوطنية بالمغرب العربي، هي من صنع التاريخ. وقد تكونت عبر حقب تاريخية، امتد بعضها لآلاف السنين، في حين أنها في المشرق، جرى تقسيمها وفقاً للقسمة بين المنتصرين في الحرب الكونية الأولى، وخلافاً لحقائق الجغرافيا والتاريخ، وإرادة أبنائها.

كان لذلك تأثيره المباشر، في مسار الحركة الوطنية اللاحق، في شطري الوطن العربي. ففي المغرب، هناك علاقة تكامل ووحدة بين الفكرة الوطنية وبين مناهضة الاستعمار. ولم تكن هناك تناقضات لدى القوميين العرب المغاربة، بين الانتماء الوطني والانتماء القومي، فالأول مقدمة لازمة لبلوغ المستوى الأعلى، المستوى القومي المتجسد في بلوغ فكرة الأمة أوجها بتحقيق الوحدة العربية.

الأمر لم يكن كذلك، في المشرق العربي، فنتائج القسمة التي تمخضت عن تنفيذ اتفاقية سايكس - بيكو، وتأسيس الكيانات الوطنية على المقاسات التي تضمنتها تلك الاتفاقية، خلقت حالة من العداء القومي تجاه تلك الكيانات. وكان من نتائج ذلك أن بات العداء العروبي موجهاً للدولة الوطنية، ولمن رسم حدودها وهويتها. وغدت التجزئة في أدبيات النهضة، سبباً لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي، بما في ذلك النزعات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية... مع أن مقص التجزئة لم يشمل، بشكل واضح سوى المشرق العربي.

ولذلك نرى أن فكرة العروبة، نمت مغربياً في ظل تماه بين الوطني والقومي، منطلقة من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى. وبذلك لم يعف المغاربة أنفسهم من معالجة القضايا المحلية. وكانت النظرة السلبية للدولة الوطنية ولاتزال، من أهم المعضلات التي عاناها الفكر العربي، في الشطر الشرقي من الوطن.

معضلة أخرى، واجهها الفكر العربي، هي الافتراق في النظرة إلى الأمة بين مشرق الوطن العربي ومغربه. وتعود هذه المعضلة إلى تنوع طبيعة المواجهة التي حكمت مفهوم الهوية بالبلدان العربية. ففي المشرق، انبثقت العربية، لغة وثقافة من هذه البيئة، حيث سبقت انفجار حضارة الإسلام بوقت طويل. وقد أدى بروز الدين الحنيف، ونزول القرآن على العرب وبلغتهم إلى تعزيز دور اللغة العربية. وببلوغ الفتح العربي بلاد الشام ومصر، اعتنق معظم السكان الدين الجديد. لكن نسبة كبيرة منهم أبقت على دياناتها الأصلية.

في هذا الواقع، بقيت العربية، عاملاً توحيدياً، وتجسيداً للوحدة الوطنية. بالمشرق العربي، وبقي هذا الوضع قائماً، حتى إبان الحروب الصليبية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، ومواجهة العرب للاستعمار الأوروبي التقليدي. وكان رفع المصريين شعار «يحيا الهلال مع الصليب»، تجسيداً عملياً لبقاء العربية، عاملاً توحيدياً وطنياً أصيلاً لهذا الشعب.

يضاف إلى ذلك، أن تعرض الثقافة العربية، من دون الدين الإسلامي، في الجزء المشرقي من الأمة، أثناء الهيمنة العثمانية، للتخريب والتدمير، لم يوجه النضال الوطني ضد المستعمر وجهة دينية. فكانت النتيجة اتحاد المشارقة بجميع طوائفهم ومعتقداتهم الدينية في مواجهة العثمانيين.

وفي المغرب العربي، تداخلت المعاني القومية والدينية. فقد تجسدت المعاناة وبشكل خاص الجزائر في خضوعها لاستعمار استيطاني عسكري مباشر، قل أن يوجد له نظير في وحشيته وشراسته. وقد تعرض لمقاومات الشعب وتخريب ثقافته، وفي المقدمة منها معتقداته الدينية، فكان أن تداخلت المعاني الدينية والوطنية، في الكفاح من أجل الاستقلال.

بمعنى آخر، العروبة بالمغرب العربي، جاءت ملحقة بالإسلام، الذي احتل مكانة حيوية في بناء التجربة التاريخية المغاربية، وارتبطت به ثقافة المجتمع وطقوسه اليومية. وكانت عملية الصهر بالمجتمع المغاربي، إسلامية بالدرجة الأولى، وعربية في مراحل لاحقة. ونتيجة لذلك، لم يرق الشعور بالعروبة إلى مصاف الشعور بالإسلام. بل نشأ في الوعي أنه لا يمكن إدراك العروبة إلا من خلال الإسلام، وليس بمعزل عنه.

إلى جانب ذلك، خلق التنوع القومي بالمجتمع المغاربي، حاجة ملحة لإيديولوجيا توحيدية، تجمع العرب والأمازيع. فحركة التعريب رغم نجاحها بشكل واسع، إلا أن الازدواجية العرقية والثقافية استمرت قائمة في البلاد. ونظراً لغياب عناصر التوحيد الأخرى؛ بقي الإسلام وحده القادر على ردم الهوة القائمة بين المتكلمين بالعربية والناطقين بالأمازيعية... لقد أدى ذلك لخلق علاقة خاصة بين الإسلام والعروبة، اتسمت بالتداخل والتحاور والتعايش.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 5025 - الخميس 09 يونيو 2016م الموافق 04 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً