العدد 5032 - الخميس 16 يونيو 2016م الموافق 11 رمضان 1437هـ

مطاع صفدي... تلاقح النضال والأدب والفلسفة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عن عمر ناهز سبعة وثمانين عاماً، رحل فارس الكلمة، وأهم الوجوه الفلسفية العربية، المفكر والروائي مطاع صفدي، إثر أزمة قلبية ألمَّت به. وبرحيله فقدت الساحة الفكرية، فارساً من فرسانها الكبار، لينضم إلى قافلة من رحلوا من المفكرين العرب، الذين أسهموا بشكل كبير في تجديد الوعي العربي، منذ مرحلة الخمسينات من القرن الماضي، حتى لحظة رحيله.

الفقيد الكبير، من مواليد دمشق، وهو المؤسس لمركز الإنماء القومي، ورئيس تحرير مجلة «الفكر العربي المعاصر»، ومجلة «العرب والفكر العلمي».

صدرت له مؤلفات عدة، منها «فلسفة القلق»، و»الثورة في التجربة»، و»استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة العرفية»، و»نقد العقل الغربي الحداثة وما بعد الحداثة». وهو كتاب موسوعي عن التحولات النظرية للفكر الغربي عبر القرون الحديثة. و»نظرية القطيعة الكارثية»، «نقد الشر المحض» من جزءين وفيه يتناول العولمة، والإمبراطورية الأميركية، والتحولات السياسية، ومعاني الحرب، ويناقش هيغل وفاتيمو وفوكوياما حول نهاية التاريخ»، وكتب عدداً من الروايات، منها «جيل القدر»، و»ثائر محترف»، ودراسات في الفلسفة الوجودية، مجموعة قصصية «أشباح أبطال».

وصفه رئيس المنتدى القومي العربي، معن بشور بأنه المفكر والكاتب وعاشق الفلسفة، شبَّ مناضلاً وبرز مفكراً، وانغمس في الفلسفة. عاش قناعاته القومية والفكرية والسياسية والفلسفية، ولم يساوم في حق أو يهادن في مبدأ.

لقد بدأ الفقيد الكبير، مساره الفكري والسياسي بنزعة وجودية قومية. ومن ثم أخذته مسارات المعرفة إلى فلسفة ما بعد الحداثة وبات من روادها وناشريها في الثقافة العربية. وتهيمن على كتاباته أفكار ومصطلحات الفلاسفة الفرنسيين الجدد مثل ميشيل فوكو وجيل دلوز وجاك دريدا.

أسس المفكر الكبير مشروع «مطاع صفدي لترجمة الينابيع»، وامتلك ناصية اللغة العربية متفوقاً بها على كثير من معاصريه، وأسهمت عدته اللغوية في عثور زملائه المترجمين على مترادفات صعبة، كما يتحدث عنه صديقه محمد أركون.

جمعت الفقيد صفدي علاقة متينة بالفيلسوف الفرنسي جيل دلوز وقام بترجمة أهم كتبه «ما هي الفلسفة»، وأشرف على ترجمة أعمال ميشيل فوكو، وقدم أعمالاً ثمينة كتبها بأسلوبه الخاص الجامع بين الشعر والفلسفة على طريقة أساتذته الفرنسيين.

وصفه المفكر اللبناني علي حرب، بأنه أهم مفكر عربي تميز باطلاع محدث باستمرار على الموضوعات والأبحاث الفلسفية المتجددة والمتدفقة بأوروبا، وأشار إلى الاستفادة من بحوثه وهوامشه الثمينة.

في حوار معه، أجراه الأديب العراقي المعروف، ماجد السامرائي، أشار الراحل، إلى أن تفكيره، ولد وهو في حمأة الحدث. فهو مفكر يحاول، قدر الإمكان، أن يسأل عما يجري حوله، وأن يستطلع آفاق القضايا التي طرحت، بعنف شديد، على جيل من الشباب حلم بتغيير العالم من خلال تغيير أفكاره... من خلال ابتكار الأفكار... ومن خلال التطلع إلى ما يشبه أفقاً من الأحلام المغزولة بالمتطلعات الإنسانية المشروعة.

لقد كان الفكر في مرحلة الخمسينات من لهيب المعركة، متلوناً بألوانها، ويتشظى بشظاياها، ويتصاعد بصعودها، ويهبط عندما تهبط نفحاتها وتطلعاتها الكبرى. وكان هاجس الفقيد الأول أن يجعل الحدث محكاً.

«لم نكن نتطلع بصورة عامة إلى ما يتجاوز البرهة الآنية التي تجعلنا مأزومين بمشكلة أن نحقق وجودنا بموازاة وجود الأمة، وأن نجترح شعارات هي لذاتنا كما هي لذات الأمة. فكان التفكير منجبلاً بطينة التكوين. فلا تفكير بدون تكوين... كان هاجس التكوين هو هاجس الفكر. ومن هنا كان لهذا الفكر مزاياه، وكانت له سقطاته؛ لأن التكوين لم يكن دائماً على مستوى الأمل فيه. فكثيراً ما كان هذا التكوين يأتي ناقصاً، قابلاً للتحريف من قبل الأفكار الأخرى التي تخشى من خروج التكوين عن سلطتها».

لقد فتحت هذه الرؤية للفقيد الراحل منذ البداية، آفاق النظر في خطين متوازيين: بين التجربة العربية، والتجربة العالمية. وخلص إلى أنه لا يمكن لتجربتنا أن تأخذ بُعدها المعاصر والمكنون إن لم تتحاور مع ما هو موجود في هذا العالم... مع ما يمكن أن يقدمه لنا العالم من مشروعاته الثقافية الكبرى. وبالطبع كان المشروع الثقافي الغربي أعلى هذه المشروعات، وكنا نعيش في هامشه... مرة نتصدى له بالسياسة، وأخرى نتصدى له بالفكر... وكانت المشكلة هي أن نصل ما بين السياسة والفكر. وكان ذلك ربطاً بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي.

تعرفت على الفقيد الراحل، خلال حضوره دورات المؤتمر القومي العربي، التي تشرفت بالمشاركة فيها، ووجدت فيه مع الغزارة في المعرفة، روح الفنان والشاعر، الممتلئ أملاً وثقة بالمستقبل. ومع ما بلغه من مرتبة علمية وشهرة واسعة، ظل يعمل بروح الثائر، المتواضع والمبشر بفجر جديد لأمته. رحم الله الفقيد الكبير مطاع صفدي، وأسكنه واسع جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر، و»إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 5032 - الخميس 16 يونيو 2016م الموافق 11 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً