العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ

شيرين دعيبس: سينما البساطة تقول الحياة في أعماقها

«أمريكا» يضم اسمها إلى سجل السينمائيات الفلسطينيات المدهش

«بدأ اهتمامي بوسائل الاتصال، وبالسينما تحديدا، إبان حرب الخليج الثانية (1991)، وذلك انطلاقا من أنني فتاة أميركية من أصل فلسطيني، أعيش في بلدة صغيرة في ولاية اوهايو. في ذلك الحين راح والدي، وهو طبيب في تلك البلدة، يفقد زبائنه واحدا بعد الآخر، لأن المرضى الأميركيين لم يعودوا راغبين في أن يداويهم طبيب عربي... بل إننا رحنا في ذلك الحين نتلقى تهديدات يومية بالقتل».

من ناحية مبدئية، كانت تلك هي التجربة التي أرادت شيرين دعيبس أن تعبّر عنها في فيلمها الروائي الطويل الأول «أمريكا»، ولكن من خلال حكاية تصبح معها حكاية الأب ومهنته الطبية حكاية جانبية. ومن هنا يبدو هذا الفيلم فيلم سيرة ذاتية وإنما بشكل محدود. ذلك أنه لا يعود يدور من حول الفتاة المراهقة التي صارت مخرجة وكاتبة سيناريو لتروي الحكاية بعد ذلك بنحو عقدين من الزمن، وإنما من حول أنثى أخرى هي خالتها منى فرح، الفلسطينية المسيحية التي إذا اشتد الضغط السياسي والاجتماعي عليها في مدينة تعيش فيها في فلسطين (رام الله)، لا تجد أمامها إلا أن تهاجر إلى أميركا، مع ابنها المراهق، هربا - من ناحية - من وضعها الخاص كمطلقة فضل زوجها عليها امرأة أكثر جمالا، وبحثا - من ناحية أخرى - عن مستقبل ما لابنها، بعد أن كف هذا المستقبل عن أن يكون واضحا في فلسطين الممزقة، معنويا وجغرافيا. هكذا تأخذ منى ابنها وتهاجر إلى أميركا، حيث تقيم اختها وعائلة هذه الأخيرة، ورب العائلة، نبيل، الطبيب الذي يمكننا أن نكتشف بسهولة أنه والد المخرجة، في الفيلم طبعا. ومن تلك اللحظة، ولأن منى وابنها وصلا أميركا في الوقت الخطأ (أي وقت اندلاع المواقف العنصرية ضد العرب والمسلمين أوائل التسعينيات من القرن العشرين) ولأنها - أي منى - وصلت خالية الوفاض معتمدة على بضع دولارات كانت معها - ثم ضاعت في المطار -، وجدت نفسها غير مرحب بها. وهكذا، بين لحظات الأمل القليلة ولحظات القنوط الكثيرة، كان على منى أن تحارب، وأن تكذب، وأن تبكي، بل إن تجد نفسها مهددة بالعودة والطرد، وتجد ابنها مهددا بالفساد، كان لابد لهذه السيدة منى أن تقاتل وبشكل مزدوج بل مثلث، حتى تجد لنفسها مكانا هي الفلسطينية، المنتمية إلى اللامكان.


لغة البساطة المعاصرة

ذلك هو موضوع «أمريكا» لشيرين دعيبس، بكل اختصار. موضوع بسيط في ظاهره ويكاد - مبدئيا - لا يبدو قادرا على أن يحمل فيلما سينمائيا في ساعة ونصف الساعة. غير أن هذا ليس سوى في الظاهر فقط. ذلك أن شيرين دعيبس تمكنت هنا، وفي لغة متقشفة، من دون نجوم، من دون بهرجة أسلوبية، من دون مؤثرات، وحتى من دون لحظات درامية كبرى، تمكنت من أن تقدم فيلما ينتمي بكل وضوح إلى السينما المستقلة... المستقلة الحديثة، ولكن المستقلة الكلاسيكية أيضا. فالحال أن «أمريكا» بقدر ما يذكّر بنمط من سينما معاصرة، يسير على درب سينما الكسندر باين وأفلام مثل «مس سانشاين»، يذكر كذلك - أكثر بكثير - بأفلام مثل «مقهى بغداد» للألماني بيرسي آدلون (بل إنه يمت بقرابة وثيقة إلى هذا الفيلم الذي يبدو أنه كان، بعد السيرة الذاتية، مصدر إلهام أساسي لفيلم «أمريكا»)... وحتى ببدايات جيم جارموش (في «أغرب من الجنة»). والحقيقة أننا، هنا، لم نورد كل هذه المرجعيات السينمائية على سبيل الترف، بل لتحديد الخط السينمائي الذي إليه ينتمي هذا الفيلم ما يعطيه شرعية الانتماء إلى سينما يزداد حضورها في العالم منذ زمن: سينما تقوم على قوة العواطف - من دون ميلودراما - وعلى تصوير الحالة - من دون أية محاولة لبرهنة أي شيء -، والنهل من الحياة مباشرة من دون المرور بأية ايديولوجيا.

ففي «أمريكا» جل ما يحدث أمام أعيننا على الشاشة، هو تلك الشريحة من الحياة التي ترينا كفاح منى للحصول على حقها في العيش. وهو كفاح تفرضه، وتفرض صعوبته عوامل عديدة أولها أن منى وابنها لا يعود أمامهما منذ مغادرة فلسطين أي خيار آخر - وهذا ما يجعلهما مهاجرين غير عاديين وخصوصا أن دروب فلسطين نفسها صارت شبه مسدودة في وجهيهما، بسبب اختلاف دينهما عن ديني القوتين المتناحرتين: الإسرائيليين والفلسطينيين المسلمين، وهذا أمر بات لابد لأية نظرة إلى فلسطين أن تأخذه في الحسبان، حتى وإن كان الغرب لن يعترف بهذا العنصر! ثم هناك أن منى لا تتقن اللغة وليس من السهل عليها التأقلم مع الذهنية العامة في أميركا. وهي إضافة إلى هذا، ليست في وضع يؤهلها للحصول على وظيفة في بنك - كما كانت حالها في فلسطين -، بل ولا على أية وظيفة أخرى. فإذا أضفنا إلى هذا توقيت وصولها، يصبح لدينا من تراكم العناصر ما يبدو أنه يلفظ منى وابنها لفظا...

غير أن منى لا تأبه لهذا... بل تشق طريقها وتجد عملا متواضعا، واصلة حتى فرض ذهنيتها المكافحة والمحبة للحياة على الذين حولها. وهكذا، حتى من دون نهاية سعيدة واضحة، يقف «أمريكا» عند لحظة أمل... قد تكون وهمية. لكنها لحظة أمل على أية حال.


هذه السينما الناهضة

وللوصول إلى هنا، كتبت شيرين دعيبس هذا الفيلم الذي أضاءت فيه «بطلته» مشاهده كلها، على رغم أن وزنها يكاد يكون مئة كيلوغرام، ويقف ضدها في كل حركتها، وعلى رغم أن شعورها بأنها تفقد ابنها، لصالح التأمرك المتزايد كان لا يكف عن إحباطها... وكانت النتيجة فيلما أضاءه نور حياة غير متوقع. وهذا ما لاحظه جمهور «صاندانس» - مهرجان السينما الأميركية المستقلة - قبل شهور، ثم لاحظه بشكل أوسع جمهور «أسبوعي المخرجين» - وهي واحدة من تظاهرات مهرجان «كان» الثانوية، فمنح الفيلم تصفيقا استثنائيا مكرما مخرجته الشابة شيرين دعيبس، اسما جديدا في السينما الفلسطينية الناهضة.

صحيح أن اسم شيرين دعيبس كان معروفا منذ زمن، إنما بفضل أفلام قصيرة نال بعضها جوائز لا بأس بها. أما هنا فإنها تقدم عملها الروائي الطويل الأول، لتضم اسمها إلى أسماء فلسطينيين سبقوها في وضع اسم فلسطين - بشكل جدي - على خريطة السينما العالمية، من ميشيل خليفي، إلى إيليا سليمان (الذي قدم في المسابقة الرسمية لدورة «كان» الأخيرة، عمله الجديد «الزمن الباقي») إلى مي مصري (صاحبة التجربة التسجيلية الاستثنائية، والتي تستعد الآن لخوض تجربتها الروائية الطويلة الأولى) وهؤلاء طبعا، إلى هاني أبو أسعد ورشيد مشهراوي.

والحقيقة أن ما يبدو لافتا في هذا كله هو الظهور «المباغت» خلال السنوات القليلة الفائتة لسينما «نسائية» فلسطينية، تبدو واضحة لدى شيرين دعيبس في فيلم «أمريكا» الذي يحمله كله دور امرأة فلسطينية، تماما كما بدت واضحة خلال العام الماضي 2008، من خلال ما لا يقل عن فيلمين كبيرين هما «ملح هذا البحر» لآن - ماري جاسر، و«المر والرمان» لنجوى نجار.

العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً