العدد 5051 - الثلثاء 05 يوليو 2016م الموافق 30 رمضان 1437هـ

الأزمة العراقية وضعف الشعور العام بالمواطنة (2)

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟.

لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما أن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت «المرجعية» الدينية المذهبية، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية.

إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين أن جميع المرجعيات سواءً كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية، ينبغي أن تخضع إلى الدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار واستخدام السلاح والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، وبدون إخضاع المرجعيات الأخرى إليها فلا تصبح والحالة هذه دولة.

وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، لكن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوافر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.

الأزمة وسياقاتها

ثلاث دوائر تتحرك في إطارها الأزمة العراقية الراهنة، فالدائرة الأولى تتمثّل في حركة الاحتجاج الأخيرة ومطالبها، سواءً الآنية العاجلة أو المستقبلية الآجلة والتي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقق أهدافها، لاسيّما البعيدة.

وإذا كانت حركة الاحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة بحسب المفكر الماركسي غرامشي، فإن الواقع مازال يشي بالتشاؤم، على رغم ان التململ أخذ يكبر وهاجس التغيير ازداد عمقاً، وخصوصاً أن كتلاً بشرية ضخمة أخذت تنضم إلى المتظاهرين من شتى الفئات والتوجّهات اليسارية واليمينية، الدينية والعلمانية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن جميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذين تجمعهم أهداف ومطالب مشتركة، لاسيّما حياة الناس وحاجتهم الماسّة والضرورية إلى الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، فلم يعد السكوت عنها ممكناً.

نقول ذلك، مع أن الواقع مازال يشي بالتشاؤم بفعل عقبات كبرى وكوابح كثيرة قد تؤدي إلى احتواء حركة الاحتجاج أو إجهاضها أو شقّها وبالتالي تشتّتها، وخصوصاً أن بعض الأطراف تريد الانفراد في قيادتها كما حصل في مرّات سابقة، بغض النظر عن استجابة رئيس الوزراء لمطالب الإصلاح، لكنها ظلّت حتى الآن فوقية ولم تمس جوهر المشكلة، لاسيّما إعادة الخدمات على جناح السرعة ومحاسبة الفاسدين والمفسدين وردّ الاعتبار للدولة ومؤسساتها ووضع حدّ للطائفية والتقاسم الوظيفي، علماً بأن حيدر العبادي بلا حلفاء أو أصدقاء، حتى وإن كان جمهوراً واسعاً يؤيد عملية الإصلاح، لكن أعداء الإصلاح والفاسدين يشكلون جبهة قويّة، حتى وإنْ اختلفت مصالحهم.

أولاً - حركة الاحتجاج ومآلاتها

إذا راجعنا شعارات التظاهرات العارمة والمندلعة في مختلف أنحاء العراق، سنلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وهذه تتلخص في :

-1 تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولاسيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة، وإيجاد فرص عمل متكافئة، وتلك أمور آنية ومستعجلة. وقد عانى العراقيون من تفاقمها، وشبعوا من الوعود بتحسينها، الأمر الذي دفعهم إلى النزول إلى الشوارع التي لم يبارحوها، مطالبين بتحسين الخدمات وبالإصلاحن حتى بعد إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي عن تبنيه خطة للاصلاح.

والوجه الآخر لحركة الاحتجاج الواسعة هو الدعوة إلى مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وتقديم هؤلاء إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، بمن فيهم المقصّرين وعديمي الشعور بالمسئولية والمستهترين بالمال العام، وقد تفشّت ظاهرة الفساد ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، بعيداً عن الكفاءة والخبرة والنزاهة، وقد أثّر ذلك على نحو شديد في فاعلية وأداء أجهزة الدولة وكفاءتها ودورها، حتى إن إحدى الجماعات السياسية، وأعني بها «جماعة السيد مقتدى الصدر» احتجزت أحد أعضائها خلافاً للقانون، والمقصود به هو بهاء الأعرجي نائب رئيس الوزراء السابق، لمدة 3 أشهر كما أعلنت.

ودعت المواطنين، الذين يتهمونه بالفساد، التقدّم إلى جماعته السياسية للتحقيق فيها، ولعلّ ذلك أحد مظاهر تدهور مقوّمات الدولة وانحلال مؤسساتها، وخصوصاً القضائية.

-2 مواجهة مظاهر تفكّك الدولة، وخصوصاً تحديد المسئوليات لسقوط الموصل بيد داعش في 10 يونيو/ حزيران 2014 واستمرار الأمر حتى الوقت الحاضر، بل وتمدّدها إلى مناطق أخرى من العراق بلغت نحو ثلث الأراضي العراقية وتهديدها العاصمة بغداد.

صحيح أن نفوذها تقلّص إلى حدود معيّنة ونسبياً، لكن استمرارها يمثل فضيحة للدولة العراقية أو لما تبقّى منها، وهي مهدّدة بالتقسيم الفعلي بفعل غياب إرادة سياسية للوحدة الوطنية وانعدام الثقة بين القوى والجماعات السياسية المختلفة – المؤتلفة، الأعداء- الأصدقاء «الأعدقاء»، إضافة إلى فهم مغلوط وناقص لفكرة الفيدرالية التي جاء بها الدستور، وخصوصاً محاولات تفسيره وتأويله، ناهيك عن الألغام التي احتواها والتي يمكن أن تنفجر عند كل منعطف، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف السياسية وتربّصها الواحد بالآخر، بما فيها الكتل المؤتلفة.

-3 نبذ الطائفية وردّ الاعتبار لمرجعية الدولة وهيبتها ومكانتها، واعتماد مبادئ المواطنة التامة والمساواة الكاملة أساساً، للحصول على الوظائف العليا وإلغاء التمييز الطائفي والإثني والديني والعشائري والمناطقي وغير ذلك. وبسبب فشل محاولات تديين الدولة أو تطييفها أو مذهبتها، انطلقت بعض الدعوات لقيام الدولة المدنية.

قد تكون الدعوة إلى قيام دولة مدنية (الآن)، من باب التعبئة السياسية، إذْ يعتقد الباحث من موقعه كمراقب ومحلل للأحداث، أنها غير ممكنة التحقيق في الوقت الحاضر؛ بسبب اختلال موازين القوى، أي أنه ليس مطلباً راهنياً، أي قابلاً للتطبيق، بل هو طموح بعيد المنال، حتى وإن كان هدفاً منشوداً، لكن مفرداته تبقى مهمة، لاسيّما بفكّ الارتباط بين الدين والدولة وبين السياسة والدين، وعدم إخضاع الأخيرة لرجال الدين وتفسيراتهم وتأويلاتهم، ولاسيّما الطائفية والمذهبية التي هي عامل تفريق وتنافر وحساسية.

وقد ألقى مثل هذا الاشتباك والاندغام بين الدين والسياسة بثقله على المجتمع، لدرجة أصبحت الحياة الشخصية مهدّدة ويتم انتهاكها كل يوم تحت حجج ومزاعم شتى، ناهيكم عن تجييش الكثير من أبناء الطوائف وشحنهم بالكراهية والانتقام من الآخر. ولذلك ارتفعت بعض الشعارات التي تعبّر عن أمنيتها لقيام دولة مدنية، ولاسيّما الشعار الذي ظلّ الصوت فيه مرفوعاً وعالياً «سلمية... سلمية... دولة دولة مدنية».

إن أهمية تلك الشعارات والدعوات تكمن في نزع القدسية عن رجال الدين، والتعامل معهم كبشر يخطئون ويصيبون، وإذا ما أرادوا تقديم أنفسهم «كمرجعية» لطائفة أو مجموعة منها، فعليهم أن يكفّوا عن التعاطي بالسياسة ويتصرفوا خارج نطاق اللعبة السياسية، باعتبارهم وعاظ أو مرشدين جامعين وغير مفرّقين، لاسيّما بعدم الانحياز لهذا الفريق أو ذاك وتحت عناوين مصلحة المذهب أو الطائفة، فالمصلحة الوطنية والولاء للوطن هي التي ينبغي أن تتقدّم على جميع الولاءات الدينية والإثنية والمذهبية والسلالية واللغوية والعشائرية والمناطقية، مثلما يكون الاحتكام إلى القانون والخضوع لسيادته هو الأساس، باعتباره المرجعية التي تفصل علاقات الناس ببعضهم ومع الدولة، وليس لأي قواعد أو أنظمة أخرى دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية أو غيرها.

لا يمنع الدستور أو قانون الانتخابات من انخراط رجل الدين في السياسة، ولكن السياسة كما نعلم تحتمل الكثير من المراوغة والتدليس والتجاوز على الحقيقة وتقديم المصالح الأنانية الضيقة على حساب القضايا الوطنية والإنسانية العامة، ومثل ذلك لا يليق برجال الدين، الذين عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن ذلك؛ لأن وظيفتهم تفترض العكس، أو أن عليهم أن يكفّوا عن كونهم رجال دين، وبالتالي لا اعتراض على حقهم في مزاولة العمل السياسي.

المهم أيضاً التقدّم بخطوات على طريق بناء الدولة العصرية الدستورية، بغضّ النظر عن تسميتها، وهذه الخطوات مهما كانت بسيطة لكنها تراكمية وتدرّجية وطويلة الأمد، وخصوصاً بإعلاء شأن المواطنة والمساواة وعدم التمييز وتحريم الطائفية وإعلاء سيادة القانون واستقلال القضاء وتأكيد حق المشاركة والتداولية والانتخابات الدورية، وحرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتلك كلها تؤدي إلى فضاء يستطيع فيه المواطن الفرد والجماعة التعبير عن ذاتهما بشكل حر ومستقل، بما فيها الدعوة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن دولة الحماية التي نفتقر إليها لم تعد كافية على النطاق العالمي، وخصوصاً أن دولة الرعاية، بل والرفاهية، أخذت تشمل الميادين المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية وكل ما يتعلّق بالقضايا التنموية، فما بالك حين نعجز عن الوصول إلى دولة الحماية، لتأمين الحد الأدنى للمواطن في أمنه وحياته وممتلكاته، فضلاً عن ضبط النظام والأمن العام.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 5051 - الثلثاء 05 يوليو 2016م الموافق 30 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:40 ص

      كل من حكم أو حكموا العراق بعد استقلاله عن بريطانيا لم يضعوا اللبنة و لم يعملوا لأجل بناء كيان يحتوي الوطن و الأمة. هذا هو واقع كل الدول النامية. منذ وزارة عبدالمحسن السعدون و الكلية الحربية خاصة لطائفة معينة. التغيير حصل قليلا في عهد عبدالكريم قاسم. و هكذا تقريبا كل الوظائف و المناصب طوال تاريخ العراق. ما حصل بعد الاحتلال الأخير هو وصول طائفة مبعدة الي الحكم. أفرادها جهلة. لم يسبق لهم ان اداروا حتي حانوتا بموظفين اثنين. كل مقدرتهم كانت تتلخص في التحدث وسفسطة الأمور.

اقرأ ايضاً