العدد 5075 - الجمعة 29 يوليو 2016م الموافق 24 شوال 1437هـ

رؤية في «تفرُّغ المبدعين»... ما تفتَّق عن مزاج سيتلاشى بالمزاج

سرْد ما يشبه النوم... ما يشبه النسيان...

منى الصفار
منى الصفار

قبل سنوات تمَّت المبادرة بمشروع «التفرُّغ» لعدد جدّ محدود من المثقفين والأدباء. كان المشروع مُرتجلاً. المشاريع المُرتجلة لا تكشف بالضرورة عن عناية وحرص، من جهة، وسيُكتب لتلك المشاريع المراوحة والخمود، إن لم نقل الموت، من جهة أخرى، بسبب غياب الرؤية والمحصلات والنتائج المترتبة على مثل تلك المشاريع.

كان يمكن لمشروع التفرُّغ ذاك أن يدفع بالساحة الثقافية إلى مراتب أكثر تقدماً وحيوية، استعادة لدورها الذي حقَّقتْه في ثمانينيات، وحتى سنوات قليلة من تسعينيات القرن الماضي، بالفاعليات التي كان محرُّكها أسرة الأدباء والكتَّاب من جهة، ومجموعة أسماء ظل فعلها ونتاجها وحركتها رديفة لدور «الأسرة»، وهي مجموعة ارتأت العمل خارج فضاء المؤسسة، بحكم أن للمؤسسة - أي مؤسسة - سقفاً، سيرتطم به رأس المنتسب إليها اليوم أو غداً.

رؤية المشروع ذاك كان من المفترض أن تنطلق سابقة مشروعاً سيأتي بعد سنوات في بلد خليجي شقيق، وإن لم يطوِّر رؤية ذلك المشروع فيما بعد، وتم الأخذ ببعض ما تناولناه وقتها في صحف ذلك البلد، بعدم فك الارتباط مع الكاتب أو الأديب، بمجرد أن ينال «شرف التفرُّغ»، من بين الآليات تلك، على رغم أن جهة واحدة هي المعنية بملف المتفرِّغين (وزارة الإعلام، أو الجهة المعنية بالثقافة)، بنقل المعنيِّين بالاستفادة من المشروع من جهات عملهم الأصلية إليها، وفق ضوابط ربما يكون أبرزها، استمرار انتفاعهم بالزيادات السنوية التي تقررها الدولة، وحتى الترقيات وهم في مرحلة تفرغهم. ولعل السمة الأبرز في ضوابط المشروع هو اشتراط إصدار سنوي، تبعاً لاهتمام المتفرغ، وفي حال إنتاج أكثر من إصدار يستفيد المُتفرِّغ من مضاعفة نسبة الزيادة السنوية المُقررة له.

ومن بين ملامح المشروع المذكور، ملء برنامج المُتفرّغ من خلال المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات الخارجية، مع إعطاء الأولوية للمشاركات في الداخل، من دون أن ننسى ما تمخَّض عن ذلك المشروع بعد سنوات، من ترجمة للأعمال التي تصدر إلى أهم اللغات الحية، وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية، وربط المتفرِّغين بشبكة الجهات الأكاديمية، من جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث متخصصة، كي يكونوا على تواصل مع مستجدات اهتماماتهم، في عملية دمْج ذكية وذات مردود على الأطراف جميعها.

لا نحلم بمشروع لـ «التفرغ» بذلك المستوى، لأنه لا نية أساساً للخروج به من دائرة الارتجال التي أشرنا إليها سابقاً؛ علاوة على أن المشروع لم يعد له وجود أساساً اليوم، ولم نسمع عن تفريغ أسماء جديدة ومنذ سنوات، والسبب ببساطة، أن المزاجية نفسها لم يتم تفعيلها! وبعبارة أخرى: كل مشروع يهدف إلى ضخ الحيوية في الكتابة والإبداع، يجب أن يتفتَّق عن رؤية واضحة ومدروسة كي يُكتب له النجاح والاستمرار، وكل مشروع يتفتَّق عن مزاج سيتلاشى بالمزاج نفسه.

الطقس... الانكفاء على النص

تناول أي شأن من شئون العمل الثقافي والإبداعي. الكلام ولو بشكل عابر عن الساحة الثقافية هنا، أو في الجوار، أو حتى عمَّا يبدو أبعد في الساحات الثقافية العربية، على رغم أنها في نهاية المطاف يُنظر إليها باعتبارها ساحة ثقافية عربية واحدة، مع ضرورة وجود تفاصيل هنا وهناك وهنالك، مثل ذلك التناول، ومثل ذلك الكلام لن يخلو من استثارة أطراف من جهة، وانتصار لأطراف من جهة أخرى.

الاستثارة تتأتى من القناعة المسبقة بأن ما تنجزه بعض الجهات هنا، من مشاريع أو ما تقوم به من فعاليات، هو متجاوز للكمال، ولن يتم التصريح بذلك، بسبب متطلبات «التواضع»، والذي هو مفقود أساساً، لأن النظر إلى مجمل ما أنجز أو يتم العمل على إنجازه، هو في حدود المتواضع، وبالتالي نحن أمام «تواضع مركَّب» بالفعل، وبـ «الادِّعاء».

لا تحتاج هذه الساحة إلى هذا الارتفاع غير المسبوق في معدلات درجات الحرارة والرطوبة في الوقت نفسه كي تذهب في سباتها، أو «تسيح»، فثمة مُمهِّدات وركائز تدفع الإنسان عموماً إلى الانشغال بأولويات ما يبقيه على قيد الحياة، بعيداً عن الحاجة والعسرة، على رغم أن معظم المشتغلين والمتفرغين في الحقل، يعانون، ويكاد بعضهم يعيش حد الكفاف. كأن الكتابة هذه تذهب في اتجاه سرد ما يشبه النوم. سرد ما يشبه النسيان. سرد ما يشبه أقل من واقع الحال.

لا ضير في الانكفاء على النص، والانكفاء على النفس أيضاً، إذا لم ينتج عن ذلك الانفتاح في العلاقات، والانفتاح على المكان أي مردود يمكن التعويل عليه. كثيراً ما يكون للانكفاء مردود سيتم تلمُّس أثره ولو بعد حين. هذا الاحتلاب للزمن. كل هذا التسكُّع لن يجدي أمام مشاريع من المفترض أن يكون المثقف والمبدع منشغلاً ومشغولاً بها. لا نهاية لمثل تلك المشاريع، من دون أن ننسى أيضاً أهمية الانفتاح في تلك العلاقات، ضمن حدود وضوابط ومردود في الوقت نفسه.

«قواعد اللعبة والعمل والتوجيه»

في الصمت الطويل على هذا «النسيان»، وهو أبعد من ذلك - واقعاً - يجعل منه واحداً من الحواس التي لا غنى لأي ساحة ثقافية تملك أطراف فيها «قواعد اللعبة والعمل والتوجيه»، وكذلك الموارد، مقابل أطراف أخرى عليها أن تكون جزءاً من كل ذلك. هذا الكلام قبل أن نصحو على تحول الساحة الثقافية إلى معسكرات، بفعل الظلال التي ألقتها السياسة والدِّين (اللعب بورقة الطوائف)، والاصطفاف والتحشيد، والاستقطاب والاستبعاد، والدفع بمجموعة في صدارة المشهد، وتغييب آخرين. كل تلك حقائق إما يراد لها أن تُنسى، وإما يُراد لها أن تؤجِّل. في التناسي، أو النسيان لا ضمان بأنه سينتصر على الذاكرة على المدى الطويل. وفي التأجيل، تسويف لإشكالات وضمور وموات أيضاً، ولن يقترح مثل ذلك التأجيل حلحلة لواقع الصورة تلك.

كل نظر بعين فاحصة، ومتجرِّدة من التورط في تلك اللعبة، سترى المشهد على حقيقته. سترى قيام جوائز - في جانبها المادي السمين - تذهب قيمتها في نهاية المطاف إلى أسماء من خارج هذه الساحة، وخارج المنطقة القريبة أيضاً، في الوقت الذي يتم فيه تجميد؛ بل إيقاف جوائز، وحتى مشروعات للنشر، كان لها دور في استئناف هذه الساحة لحيويتها التي كثيراً ما تصاب بتوعُّك وترهُّل وانزواء.

ربما لا يريد البعض نبش أو استرجاع مثل تلك المحطات، أو الوقوف على واقع تم تثبيته، ولا يُراد أن يُصار إلى سواه؛ لكن مثل ذلك الابتغاء، لا يعفي الساحة هنا من حالات تردٍّ ونكوص بين فترة وأخرى، وهو تردٍّ ونكوص مبعثه الجهات التي تمسك بعصب التمويل والدفع بهذه الساحة نحو آفاق تستحق أن تسترجع فيه على أقل تقدير، ريادتها التي كانت محط اهتمام وإعجاب ونظر مثقفين عرب بيننا وبينهم فارق كبير في عمق التجربة، وامتدادها، لكن الساحة وقتها، بما قدمت، وبأسمائها، استرعت كل انتباهها واهتمامها، والاشتغال عليها، قراءة ونقداً وتقديماً.

ذلك لا يعني أنها تلاشت، لكنها لم تعد كما كانت بحيويتها، يوم أن كان الدور للمثقفين لا المؤسسات التابعة إلى الدولة، دون أن يعني ذلك إمكانية الاستغناء عن الدور الذي تلعبه مثل تلك المؤسسات، في حدود تدشين وتمويل ما يقدم المشاريع التي تصدر عن تلك الأسماء والأصوات الإبداعية، وتستقطب تجارب من خارج الدائرة في حركة تفاعل لا تستغني عنه أي حركة إبداعية في العالم مهما علا شأنها، وتميَّز ما يصدر عنها.

الأسماء التي تحوَّلت، ومازالت إلى ما يشبه العلامات التجارية بالنسبة إلى بلادها من خلال فعاليات ومؤتمرات ومهرجانات خارج البلاد أكثر من داخلها، تم العمل على تقسيمها أيضاً، بحيث صار لتلك العلامات شروط في تمثيلها، وأهمية تطابقها مع المشاريع التي أُعدَّت قبل 5 سنوات أو تزيد؛ حتى ولو بـ «الإيهام»، فربما يتحقق ذلك مع مرور الوقت.

جزء كبير من تلك الأسماء تتنازعه اليوم مسألة مهمة تتحدد في «كيف يمكن للوطن باعتباره أكبر من النص» أن يتجاوز «قواعد اللعبة والعمل والتوجيه»، اشتغالاً على إخراجه من دائرة الاصطفاف الذي صنعته السياسة والدِّين أحياناً، إلى فضاء أرحب، نظراً إليه باعتباره نصاً جامعاً، يظل اتفاقنا حوله أكثر من اختلافنا بشأنه، ولنا حظنا من خلافاتنا في الحياة التي لا تعود حياة من دونها.

مثل تلك الأسماء، بعض منها بحاجة إلى رد اعتبارها، وبعض بحاجة إلى أن تعيد هي الاعتبار إلى نفسها بالخروج من دائرة ذلك الاصطفاف الفادح. الاصطفاف الذي لا علاقة له بنص أو وطن.

الأصدقاء... وكلهم أصدقاء

أخذت على نفسي، سابقاً، أن أبعث برسائل مع نهاية كل عام، لأصدقاء. رسائل هي شبيهة بالبرقيات السريعة التي تحمل تصريحاً أو رمزاً، لكنها طريقة اكتشف غيري أنها تعيد الاعتبار لبعض الذين مسَّهم الضر جراء التهميش، وجرَّاء نسيان مفتوح على كل شيء، والحديث عن النسيان الذي بدأت به هذه الكتابة. أو مسهم الغياب الاختياري نتيجة عدم الاكتراث بما يصدر عنهم من أعمال هي محط تقدير وإعجاب خارج دائرتهم، فيما هي في حدود الاحتفاء «المزاجي» بها أيضاً»، وتبعاً للارتهان لـ «قواعد اللعبة والعمل والتوجيه»، تلك التي أشرنا إليها في ثنايا هذه الكتابة.

أسماء لها الصدارة والفعل والتأثير والأثر. أخاطب الواحد منهم، وكأنني أخاطب مجموعهم، ولن أعفي نفسي من النسيان هذه المرة، حين يرتفع اسم أحدهم سهواً. أسماء من جيل مؤسس مازال قادراً على الاحتفاظ بحيويته الملفتة، وكذلك أسماء من جيل مازال تفاؤلي وتعويلي عليه من الجنسين قائماً، تلك التي تنتمي إلى جيل التسعينيات وما بعده بقليل، ويعزز مثل ذلك التفاؤل والتعويل، مثابرة ومحاولات وحضور متعدد، ومشاكسات جميلة، وجرأة في بعض المشاريع، واقتناص فرص الحضور، وانطلاق في الحياة، وذلك أهم ما يقود إلى ما سبق. أسماء مثل: قاسم حداد، أمين صالح، البروفيسور إبراهيم غلوم، عبدالحميد القائد، إبراهيم بوهندي، نعيم عاشور، منيرة الفاضل، حمدة خميس، فوزية السندي، يوسف حسن، عقيل سوار، علي عبدالله خليفة، أحمد الشملان، خلف أحمد خلف، سالم النويديري، علي الشرقاوي، إيمان أسيري، عبدالله السعداوي، مي آل خليفة، حسن مدن، يوسف مكي، عباس يوسف، عبدالجبار الغضبان، إبراهيم بوسعد، باقر النجار، محمد الخزاعي، خليفة العريفي، جعفر حسن، منصور سرحان من دون أن ننسى الأثر الذي تركه الراحلون عنا، جنباً إلى جنب أسماء حفرت حضورها بعدهم من أمثال: فريد رمضان، أحمد العجمي، كريم رضي، حسين السماهيجي، علي الديري، حسين المحروس، نادر كاظم، فهد حسين، منصورة عبدالأمير، ضياء الكعبي، ليلى السيد، فاطمة محسن، محمد القفاص، أحمد المقلة، بسام الذوادي، جمعان الرويعي، فضيلة الموسوي ومن بعْدُ: أحمد الستراوي، أحمد رضي، حسين فخر، حسين مرهون، عادل مرزوق، زكريا رضي، عباس المرشد، وسام السبع، محمد عبدالله محمد، سوسن دهنيم، منيرة سوار، عبدالعزيز الموسوي، رسول درويش، علي الجلاوي، أحمد المؤذن، مهدي سلمان، خالد الرويعي، منى الصفار، وغيرها من الأسماء. وكأنني هنا مرتهن إلى النسيان الذي قمت بسرده، ليطولني هذه المرة بنسيان بعض الأسماء؛ لذا ألتمس مغفرة أصحابها.

أمين صالح
أمين صالح




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً