العدد 5077 - الأحد 31 يوليو 2016م الموافق 26 شوال 1437هـ

الطفل الحائر في تركيا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لنقرأ هذا التوصيف: «جرى في تركيا زواجٌ بين الإسلام والديمقراطية، وقد أنجَبَ هذان العريسان مولوداً اسمه العلمانية. هذا المولود يتعلَّل ويمرض بين الفينة والأخرى، فتأتي لعلاجه القوات المسلحة التركية كونها الطبيب القادر على رعاية ذلك المولود. وبحسب طبيعة مرضه من حيث الشِّدة أو العادية، تُحدِّد تلك القوات الدواء اللازم لضمان تعافي المولود المريض بشكل كامل».

هذا التعبير المجازي قاله الجنرال شفيق بير نائب رئيس هيئة الأركان التركية الأسبق، وهو أحد الجنرالات الستة الذين قاموا بـ «انقلاب المذكرة» على رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان في الـ 28 من فبراير/ شباط 1997، بمعية كبار ضباط الجيش التركي آنذاك، وهم: إسماعيل حقي قرة داي رئيس هيئة الأركان الأسبق، وإرول أوزكاسناك وتيومان كومان ونجدت تيمور وشتين دوغان.

ولو كان وضع شفيق بير يسمح لأمكَن سؤاله عن جينات ذلك المولود «العلماني». فإن كان قد أخذ جزءًا من جينات أحد أبويه وهو الديمقراطية فأين تكمن جينات أبيه الآخر وهو الإسلام؟ بمعنى إن كانت التعددية السياسية وحكم الشعب وغيرها هي ملامح ديمقراطية في بُنيَة الدولة، فأين الجوانب الروحية وأين العبادات وحرية المعتقد في السلطة الدستور التركي كملامح إسلامية؟

الحقيقة أن ما جرى يَومَيْ الخامس عشر والسادس عشر من يوليو الماضي في تركيا، لهو أمر جدير بالتأمل. فمحاولة الانقلاب الفاشلة أظهرت أن نظرية شفيق بير لم تعد هي الفاعلة في المشهد التركي، أو على الأقل لم تكن الأحداث تسير على هَدْيِها، والسبب أن تغيُّراً جوهرياً بدأ يحدث في قلب تركيا، حيث لم يكن ذلك الزواج «المفترض» قد أفضى إلى إنجاب ولد علماني متعلِّل.

فالذي يبدو أن تلك الزيجة، قد أنجبت ولداً «خِلاسِياً». والخِلاسِيُّ في اللغة العربية هو الولد الذي يكون لونه وهيئته متمازجة نتاج زواج أبيض وسوداء أو بين أسود وبيضاء. وكانت العرب تصف ذلك بقولها: «فجاءت بولد بين لونيهما»، حيث أن الخُلْسَ هو السُّمْر وليس الأسود. وما حصل في تركيا هو أن العلمانية التي أنتجها زواج الإسلام من الديمقراطية (حسب وصف بير) هي «علمانية خِلاسِية» في جوهرها، وليست علمانية نقية «العِرْق».

وكما هي العادة، فإن التربية ومسيرة الحياة، تجعل بعضاً (أو كثيراً) من الأولاد يتأثر بأحد والديه بمثقال أكثر من الآخر. لكن الذي جرى في تركيا أن العلمانية الخِلاسِية كانت قد مالت أو «مُيِّلَت» عنوة خلال عهد مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923 وحتى نهاية الأربعينات إلى الأبوّة الديمقراطية.

إلاّ أنها (أي العلمانية الخِلاسِية) وخلال حقبة عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي الأسبق (1950) مالت أو «مُيِّلَت» مرة أخرى ولكن إلى أبيها الثاني (الإسلام)، ثم أعِيْدَت إلى حضن الأول (الديمقراطية) بقوة الجيش (الطبيب) الذي رأى أن الولد بات مريضاً وَوَجَبَ علاجه. تكرَّر ذات السيناريو في العام 1997 مع نجم الدين أربكان في الصراع عن الولد.

وبعد مجيء حزب العدالة والتنمية في العام 2002، كانت الظروف الإقليمية قد اختلفت فأثرت على «ذلك الزواج التركي» وموقفه من العلمانية. ففي النصف الأول من القرن الماضي كانت الهبَّة القائمة إما ماركسية أو قومية أو بعثية وتالياً ليبرالية ما خلا لحظة الثورة الإسلامية في إيران. لذلك كانت الظروف تسير لصالح إبعاد علمانية تركيا عن الإسلام وبشكل سهل.

لكن وبعد منتصف التسعينيات ومجيء حكم «طالبان» وبروز الحركات الدينية المتطرفة ثم حرب أفغانستان سنة 2001، ثم غزو العراق في العام 2003، وانفجار السعار الطائفي، بدأت المنطقة تسير على وَهَجَ جديد لصالح الإسلام السياسي، الأمر الذي انعكس على الداخل التركي الذي وجدَ لديه مسوغاً لأن يعيد توازنه «العائلي» ليسحب نظامه السياسي تدريجياً نحو الحالة الدينية. وهو ما قام به حزب العدالة والتنمية في تركيا، حيث بدأ في توظيف تلك التطورات لتعديل الميزان بين الديمقراطية والإسلام.

والحقيقة، أن الانقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا مساء الخامس والعشرين من يوليو 2016 أظهر جانباً مهماً من ذلك الميزان. فبعد أن بدا الصراع في (وعلى) ذلك الانقلاب أنه بين إسلاميين أردوغانيين (نسبة إلى رجب طيب أردوغان) وإسلاميين غولنيين (نسبة إلى غريمه فتح الله غولن) تبيّن حجم التمييل الذي جرى للدولة التركية من العلمانية إلى الإسلامية.

فالإقالات التي جرت لعشرات الآلاف لمن هم في الجيش والحرس الرئاسي والأمن والاستخبارات والقضاء (محكمة دستورية ومحاكم مدنية وادعاء عام) والتعليم والهيئات الدينية أظهرت حجم «التسلل والتسكين» الذي قام به الإسلاميون في تلك الأجهزة. فتلك مهمّة كانوا يرونها ضرورة كي يتحقق لهم إنقاذ «الولد الخِلاسي» من تغوُّل أحد أبويه وإعادة موضعته ولكن في دائرة الدِّين.

لهذا بدأ الخوف يدبّ من أن تنعكس الآية فينتقل التغوُّل من أحد الأبويْن إلى الآخر، فيصبح مَنْ كان مظلوماً ظالماً ومَنْ كان ظالماً يبيت مظلوماً وهنا المشكلة. فأتاتورك كان يقول: «إنه لحاكم ضعيف ذلك الذي يحتاج الدِّين ليُقِيْم عليه حكمه»، وأردوغان يُردِّد قول الشاعر التركي ضياء كوك ألب (1876– 1924): «مآذننا حِرابنا، قبابنا خوذاتنا، مساجدنا متاريسنا»، لتبدأ معركة جديدة على ذلك الولد الحائر بين والديه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5077 - الأحد 31 يوليو 2016م الموافق 26 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 10:55 ص

      اطفال حائرين اهون من اطفال تقطع رؤوسهم الله يهلك الدواعش الكفرة

    • زائر 2 | 8:33 ص

      المجتمعات التركية والايرانية والمصرية والمغاربية كلها مجتمعات يغلب علي اهلها التدين وخصوصا الدين الاسلامي لوجود طوائف واثنيات اخري في المجتمع غير اسلامية ..لذلك مهما حاول العسكر او الحاكم الديكتاتوري ان يغير وجهة البوصلة الي اي جهة اخري معاكسة لن ينجح ولن تقبل الجماهير الا التوجه الاسلامي ..وهذا ما حدث في هذه المجتمعات وستنتقل هذه ايضا الي مجتمعات بلاد الشام العلمانية نوعا ما ..لذلك لن يكون هناك اي استثناء

    • زائر 1 | 12:13 ص

      العلمانية منتج أوربي فرنسي استعانت به تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ظننا منها أنه سينتشلها من التخلف و يمحي عار الهزيمة. اليوم لو ذهبت إلى فرنسا لوجدت أن العلمانية التي دائما ما تغنى بها الفرنسيون أثبتت فشلها في بلد المنشأ فرنسيا، فما بالك بالمجتمع التركي الذي لعب الإسلام دورا هاما في تاريخه.

اقرأ ايضاً