العدد 5092 - الإثنين 15 أغسطس 2016م الموافق 12 ذي القعدة 1437هـ

دفتر السيد عدنان... والرعاية الاجتماعية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

يختلف كل عصر من عصور التاريخ عن الآخر باختلاف نظرة الناس إلى الحياة وإدراكهم لطبيعة الدولة ومهام الحكومة. وإذا كانت العصور الحديثة تتصف بتزايد النزعة العلمانية في إدارة شئون المجتمع واتساع دائرة سلطة الحكومة لتصبح هي المسئول الأول والأخير عن النهوض بكافة مرافق الدولة ورعايتها وضمان الإنفاق عليها وصيانتها بفضل ما تجبيه من ضرائب متنوعة، فإن الأمر لم يكن بهذه الصورة في الماضي.

عُرفت العصور السابقة بصور الإيمان، بمعنى أن الطابع الديني هو الذي غَلَب عليها، وتحكم في أحاسيس الناس ومشاعرهم، وحدّد الإطار العام لسلطة الدولة واختصاصات الحكومة ورسم للناس الخطوط العريضة لما ينبغي أن يكون عليه سلوكهم تجاه الحكام، وتجاه بعضهم البعض، وتجاه المجتمع الذي ينتمون إليه ويعيشون وسطه ويؤثرون فيه ويتأثرون به.

وكان من نتيجة تلك البساطة التي كانت عليها الحياة الاجتماعية، وقلّة الموارد الاقتصادية، أن انحسر نشاط الحكومات في تلك العصور على ما تسمح به حصيلة الضرائب من رعاية لأمن البلاد والعباد، ثم تقدّم ما تيسّر بعد ذلك من خدمات لرعاية مرافق البلاد وشئون العباد. وغالباً ما كان دور الحكام والحكومات في رعاية هذا الجانب الأخير محدوداً، ولا يفي بكل ما ينشده أفراد المجتمع من رعاية اجتماعية وصحية وثقافية ودينية.

وكان أن عالج المجتمع هذا القصور علاجاً ناجحاً مستمداً من الوازع الديني عند الأفراد، فكانت الحقوق الشرعية، من زكاة وخمس، وتعدّت ذلك إلى نطاق الصَدَقات الاختيارية التي يتبرع بها القادرون من الخيرين عن رضا وطيب خاطر تقرّباً وزلفى لله.

ووجدت هذه الرغبة في فعل الخير متنفساً لها في «نظام الأوقاف»، فبادر الخيّرون إلى وقف الأوقاف – من أراضٍ ونخيل وغيرها – على مختلف الأغراض الخيرية التي تعود على المجتمع بالخير العميم، وغالباً ما كان يلجأ القادرون إلى إقامة المؤسسات المتنوعة من مكاتب لتعليم الأيتام ومدارس لتعليم الكبار، ومساجد لإقامة شعائر الدين، وسُبل لتوفير ماء الشرب للناس والدواب، وإطعام الفقراء، وحتى توفير الأكفان لموتى الفقراء من أبناء المجتمع. وكان المحسنون يقفون على كل مؤسسةٍ منها وقفاً يُنفق من ريعه عليها لضمان بقائها واستمرارها في أداء رسالتها، وبذلك صارت الأوقاف الدّعامة الكبرى للنهوض بالمجتمع ورعاية أفراده، وتوفير مختلف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والدينية لهم، بحيث لم تكن هذه الرعاية مسئولية الحكومة والحاكم بقدر ما كانت مسئولية كل قادر من أفراد المجتمع.

البحرين عرفت هذا النظام، وطبّقته على نطاق واسع، ويعود الفضل لشخصية دينية بارزة هي شخصية السيد عدنان بن علوي الموسوي (ت 1928م/ 1347هـ)، الذي شغل منصب القضاء الجعفري في أيامه، ومنصب رئاسة الأوقاف الجعفرية، وأموال القاصرين، وخلال هذه الفترة بذل الموسوي جهداً كبيراً في حفظ الأوقاف المعروفة ضمن فترة توليه الأوقاف (1927– 1928م)، وقام بعملية مسح كاملة وشاملة لجميع الأوقاف في جميع قرى ومدن البحرين، وتحديد حدودها وذكر الواقفين لها، وبيان أوجه الصرف لها، حيث قام بتدوينها في دفتر سُمّي باسمه: «دفتر السيد عدنان»، والذي يعتبر بمثابة وثيقة تاريخية واجتماعية ومرجعاً أساسياً تستند إليه إدارة الأوقاف في تسجيل أراضيها وأملاكها غير الموثقة.

يتضمن «دفتر السيد عدنان» الكثير من المعلومات التاريخية المثيرة عن تلك الفترة الزمنية من تاريخ البحرين، فهو وإن كان يهدف إلى توثيق الأوقاف والمعلومات الرئيسية المرتبطة بها، إلا أنه يقدم صورة اجتماعية غنية بالتفاصيل لمجتمع البحرين في حينه، فيذكر أسماءً لقرى تغيّرت مسمياتها حالياً، ويعطي تفاصيل بالإمكان الإفادة منها في إعادة تركيب تاريخ المساجد والحسينيات في البحرين، وهي مرحلة لا نملك حولها معلومات واضحة وتامة. وما لفت نظري في هذا السجل التاريخي المهم مشاركة المرأة البحرينية في نظام الأوقاف أُسوةً بالرجل، وهو ما يشير إلى وعي مبكر عند المرأة البحرينية وإدراك حقيقي لدورها في الحياة العامة.

وأجمل ما تضمّنه هذا السجل وأكثره إثارةً، عدا الوقفيات الكثيرة جداً على دور العبادة من مساجد ومآتم بالطبع؛ هو الجزء المتعلق بالرعاية الاجتماعية، وقد رصدتُ الكثير من هذه الشواهد، والموضوع يستحق دراسة مستفيضة، فهناك نحو 17 وقفية – أغلبها نخيل- للصرف على العلم والتعليم والعلماء، فمثلاً هناك وقفيات للصرف على خطيب المنبر الذي له أهليّة التصنيف من علماء البحرين، وأخرى لحاكم الشرع في البحرين، وأخرى للمدرّس الذي يدرّس في علم الشريعة من علماء البحرين.

وفي قرية «الجزيرة»، هناك وقفٌ من أجل تعمير وإصلاح «العَبْرَة» لتعبير الناس من غير أجرة (نول) من وإلى القرية المذكورة، وأخرى للإنفاق على إفطار الفقراء في ليالي رمضان المبارك في المساجد، أو سقي العطاشى المارّين في الطرقات. وهناك أوقاف خُصّص ريعها لبناء وتعمير المغتسل في المقابر أو شراء فروش لها، أو إجارة حفر القبور للموتى أو لشراء «أكفان لفقراء المؤمنين»، وأخرى «لمشترا أجزاء القرآن إلى فواتح المؤمنين»، وغيرها. وهناك وقفيات «لمشترا أباريق للوضوء للصلاة».

كما تضمن هذا السجل أوقافاً يُصرف حاصلها لتعمير وإصلاح مسجد صعصعة بن صوحان في قرية عسكر، ومشهد الخميس في سوق الخميس، أو لسرج مقام الشيخ ميثم في الماحوز، إلى غير ذلك.

أعتقد أن هذا السجل التاريخي يمثل واحداً من أهم المصادر التاريخية للبحرين بما يتضمنه من معلومات اجتماعية على قدر كبير من الأهمية. وهو جهد توثيقي عظيم نهض بعبئه رجل واحد في عام واحد فقط، وهو يتنقل من قرية لأخرى على ظهر دابته، لا يعبأ بحرارة صيف البحرين القاسي ولا ببرد شتائها القارس، ولكنها قوة الإرادة التي يتمتع بها الاستثنائيون من البشر فتتحقق على أيديهم جلائل الأعمال.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 5092 - الإثنين 15 أغسطس 2016م الموافق 12 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:18 ص

      وفي اﻷخير أصر بلغريف وبحزم على النقل وبعدها نقلت للمنامة ببيت التاجر وتوفي بعدها السيد عدنان ولكن المرحوم الشيخ محمد علي المدني على أن لايسلم ما دونه في سجلاته للمنامة وبعدها إجتمع معه بعض من شخصيات واعيان المنامة بحسينية الطويل بفريق الصاغة بجدحفص وحينها سلم بقية الملفات والودائع مكرها غير راض بالنقل والتسليم وكان ذلك بعام 1928 .

    • زائر 2 | 4:10 ص

      للعلم أن فكرة تدوين وتوثيق وتسجيل اﻷوقاف الجعفرية بدأت وأسست بمدرسة الشيخ داوود بن أبي شافيز بجدحفص وكان ذلك بعام 1927 وذلك بوصية سابقة منالعلامة الشيخ احمد الحرز وبدأ التنفيد على ايدي العلماء اﻷفاضل السيد عدنان الموسوي و الشيخ محمد علي المدني الذين كانا جارين ملاصقين للمدرسة ولبعضهما وكانا يمتطيان ظهور الحمير ويجولان القرى بدفاترهما لتسجيل اﻷملاك الموقوفة من بساتين وجوابير و ماشابه ويجمعنها ولكن في بداية 1928 اصر المستشار جارليز بلغريف إلا ان ينقل إدارة الملفات للمنامة ولكن لم تقبل فكرته

    • زائر 1 | 10:33 م

      وثيقة مهملة للأسف

      سجل السيد عدنان يعتبر مصدر مهم للكثير من القضايا العالقة بس للاسف إدارة الأوقاف الحالية تمنع المدعين من مثوله أمام القضاء الجعفري ""وهذا ماحصل في قريتنا لطالما طالبنا إدارة الأوقاف باحضاره لحل النزاع واحقاق الحق لكنها تماطل وأعجب منه المحكمة لانستطيع الزامها بذلك والسبب مجهول ""الله يظهر الحق

اقرأ ايضاً