العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ

هيرتزوغ: ثمَّة شبَه بين كهوف العصر الحجري القديم والإنترنت

في لقاء أجْرَته «نيويورك تايمز» عبْر الهاتف...

فرنر هيرتزوغ
فرنر هيرتزوغ

لعلَّ اللقاء الذي أجراه مارك سبيتز، عبر الهاتف مع المخرج وكاتب السيناريو الألماني فرنر هيرتزوغ، ونُشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الخميس (18 أغسطس/ آب 18 2016)، يُقدِّم لمحة عن مستجدَّات وثورات معلوماتية تدور من حوله، ولكنه ظل يتعاطى معها بما يخدم العالم الذي يشتغل فيه وعليه، وبحذر شديد. ربما يكون هيرتزوغ المخرج الوحيد في العالم الذي لا يحمل معه هاتفاً جوَّالاً، يرى في ذلك إدماناً، والإدمان بالضرورة يقود إلى شكل من أشكال العبودية. وقف عند ذلك لدى عدد من أصدقائه فتعلَّم الدرس قبل بروز مثل تلك الاعترافات.

قال هيرتزوغ إن لشبكة الإنترنت جانبها البهي، ولم يتخلَّ عن مقارنة العالم الافتراضي بالبرِّية، كما أن الغابة نفسها تضجُّ بالأحلام. كأن العالم الافتراضي بهذا المعنى غابة هو الآخر، ويضج بالأحلام.

في مقدمة اللقاء يكتب سبيتز، إن هيرتزوغ بصدد العمل على فيلم يحمل اسم «تهويمات عالم متداخل» (العنوان هو: المُفسد المُعتدل)؛ حيث يتتبَّع فيه الصعود السريع لشبكة الإنترنت من يوم ظهورها المدهش في أكثر من حرم بجامعات كاليفورنيا في أواخر ستينات القرن الماضي، كما يقدم تأملاته حول مستقبلها، ويلتقط الاحتمالات بشأنها على لسان عدد من الخبراء. بعض تلك الاحتمالات تمتلئ بالرهبة، وأخرى تمتلئ بالأمل. هيرتزوغ، قال إنه يستخدم خرائط غوغل بشكل متقطِّع، إلا أنه لم يفعل ذلك أبداً مع أي من شبكات التواصل الاجتماعي، وتحدث على الهاتف عن علاقته بالتكنولوجيا، وأوجه الشبه بين «كهوف العصر الحجري القديم» والإنترنت، ولماذا اختار ألاَّ يحمل هاتفاً جوَّالاً.

خلال عمله الذي امتدَّ إلى نحو 50 عاماً، نجح هيرتزوغ (73 عاماً)، عبْر رشاقة عدد من أفلامه البذيئة وغريبة الأطوار في سردها من شاكلة: «أغويرا: غضب الرب»، «فيتزكارالدو» الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج في دورة مهرجان «كان» العام 1982، عن فئة الأفلام الوثائقية المؤثرة ذات الطابع واللمسات والتناول الشعري، و«مغارة منسية الأحلام»، وراهناً، وضع هيرتزوغ عينه على شبكة الإنترنت، أو ما يسمِّيه «الشيء». وفيما يأتي مقتطفات من تلك المحادثة، على أن يعقبها تقرير أعدَّه المحرر الثقافي، يكمل جانباً مما ورد في الحوار تتعلق بتفاصيل لم ترِد:

برِّية العالم الافتراضي

نظراً إلى الأماكن التي صوَّرتَ فيها أفلاماً من قبل - على سبيل المثال، تلك التي تمَّت في أدغال بيرو، والكهوف العميقة في جنوب فرنسا - كنتُ أتساءل عمَّا إذا رأيت العالم الافتراضي على أنه مجرد بريَّة أخرى تستكشفها؟

- أنا شخص فضولي. وذلك هو مفتاح لكل شيء. عندما ترى كهوف العصر الحجري القديم في جنوب فرنسا، فهي عالم افتراضي كذلك، ولذلك هي عن التصوُّرات في كثير منها. شبكة الإنترنت هي ظاهرة جديدة، ولكنها ظاهرة من الصنف البشري للغاية. نحن نتصوَّر وندرس العالم في التطبيقات الحقيقية (عبر الإنترنت)، وعندما نتصوَّر الغابة، فكل ما أراه هو عبارة عن حقل من الأحلام.

ولكن عالم الإنترنت يثير فضولك.

- بطبيعة الحال، لأنه نوع جديد وفعَّال من الأشياء التي لدينا، وبشكل كبير. أقول «شيئاً» لأننا لا نستطيع تحديد ذلك حقاً بشكل واضح جداً. ما هو مهم أيضاً هو ألاَّ أحد رأى إمكانية أن يأتي مثل ذلك «الشيء» إلى العالم. بل إن روَّاد الإنترنت أنفسهم اليوم لم يروا ما ستكون عليه. حتى كتَّاب الخيال العلمي لم يروا الوضع الذي سنكون عليه الشبكة. هو أمر كان بمثابة مفاجأة كبيرة جداً.

قرأتُ أنك لا تحمل هاتفاً جوَّالاً. أحيانا ترجع إلى «غوغل»، لكنك تبدو مثل مبتدئ في هذا المجال؟

- لست مبتدئاً بشكل كامل. لقد بدأت باستخدام الإنترنت، ولكن بشكل أساسي من أجل رسائل البريد الإلكتروني، ومنذ وقت قريب جداً. لكن ليس لديَّ هاتف جوَّال، لأنني لا أريد أن أكون متواصلاً في الأوقات كلها. عندما أمعن النظر بين دائرة أصدقائي، فجميعهم تقريبا يشكون من كونهم أصبحوا عبيداً لهاتفيْن محمولين. إنها مبالغة، ولكنهم مدمنون جزئياً في هذه المسألة. ولذا فكَّرت في عدم حاجتي إلى أن أكون مرتبطاً في الأوقات كلها.

ماذا عن المُدمنين؟ هل علينا أن نكون متعاطفين مع مُدمني الإنترنت ممن قابلتهم؟

- إنهم بشر ممن يتعاملون بحِرفية مع الإدمان، ويخبرونك بأنها خطيرة مثلها مثل الإدمان على الهيروين.

هل أنت قلق بشأن سطوة شبكة الإنترنت؟

- علينا أن ندرك بأن شبكة الإنترنت عِرضة للهجمات؛ سواء كان عبر الإرهاب الحاسوبي أو من جرَّاء الكوارث الطبيعية، على سبيل المثال التوهُّجات الشمسية، والتي يمكن أن توقف جميع الاتصالات، بما في ذلك أدوات القواعد القائمة على أرض الواقع. علينا أن نكون حذرين لأنها ليست فقط اتصالاتنا التي ستتأثر. شبكاتنا الكهربائية. إمدادات المياه لدينا. في رأيي، الحديث عن التخلُّص نهائياً من الأوراق النقدية أمر تافه. عندما لا تصلك الكهرباء، لن تتمكَّن حتى من شراء هامبرغر في سلسلة مطاعم الوجبات السريعة. يمكن أن تملك 100 دولار، ولكنهم لن يتمكَّنوا من إرجاع الفكَّة إليك. لذا من الأفضل أن تكون لديك وحدات من العملات الصغيرة من فئة الدولار والخمسة دولارات والعشرين دولاراً.

هناك مشهد في «تهويمات في عالم متداخل» أو «المفسد المعتدل» حيث يقول أحدهم إن الشبكة تم تصميمها من أجل مجتمع يثق كل واحد فيه بالآخر. لا يمكن لأحد أن يتصور أي هجوم إلكتروني. أو البريد المزعج، أو شيئاً من هذا القبيل. لشبكة الإنترنت جانبها البهيُّ. وكما أبُرز في الفيلم، شارك الملايين في لعبة فيديو من أجل فك شفرة أنزيم معقد. أقوى الحواسيب فائقة الذكاء والسرعة في العالم لا تستطيع حل تلك العقدة، ولكن مجموعة من لاعبي الفيديو يتم استدعاؤهم لمهمة حلها، وهي الآن ذات أهمية كبيرة في مجال أساسيات البحوث المتعلقة بالسرطان والإيدز.

هل ذلك استثناء من القاعدة؟

- لا، تلك هي القاعدة. أعتقد أن الاستثناء هو الجانب المظلم في المسألة.

هل يمكن أن تكون شبكة الإنترنت نفسها «قد بدأت تحلم»؟ هذا السؤال طرحتَه في العديد من موضوعاتك التي تناولتها. ما رأيك؟

- ذلك يأخذني إلى استدعاء مقولة مواطني فون كلاوزفيتز (أحد أكبر المنظِّرين والمفكِّرين الاستراتيجيين على مر العصور، من مواليد العام 1780 في ماغدبورغ الألمانية، وتوفي في العام 1831 في بريسلاو. من أشهر كتبه «فن الحرب»)، إذ أتت أصلاً منه باعتباره منظِّر حرب في الفترة النابليونية، وله قولة شهيرة: «الحرب تحلم بنفسها أحياناً»، وجدتها ملاحظة عميقة، وسألت العديد من الأفراد، لم يكن بينهم من يملك الإجابة الحقيقية. في بعض الأحيان يكون السؤال العميق أفضل من الإجابة المباشرة. أعتقد أننا يجب أن نبدأ بوضع أسئلة عميقة عمَّا نقوم به هنا مع شبكة الإنترنت وما الذي تقوم به شبكة الإنترنت من تلقاء نفسها. لا أحد لديه أدنى فكرة.

أجريتَ مقابلة مع مؤسس «سبيس إكس»، ايلون موسك، وبدا سعيداً حقاً حول احتمال سفرك إلى المريخ.

- سأفعل ذلك فقط مع الكاميرا. فقط مع الكاميرا. إذا سنحت لي الفرصة، أود أن أسافر إلى المريخ.

لتقديم فيلم وثائقي؟

لا. ربما سأرسل شِعْراً حول المناظر الطبيعية هناك.

السير من ميونيخ إلى باريس

هيرتزوغ، ولد ليكون مخرجاً مبدعاً... مجنوناً وبذيئاً. في فيلمه «أغويرا، غضب الرب»، يضعنا هيرتزوغ أمام عبارة تخبرنا عن رحلة تحدث في القرن السادس عشر تقوم بها مجموعة من الغزاة الإسبان، بحثاً عن الذهب في مدينة إلدورادو الأسطورية، بالقرب من منابع نهر الأمازون. يصوِّر هيرتزوغ أحداث الفيلم اعتماداً على الوثيقة الوحيدة التي كتبها المبشّر غاسبار دي كارفاجال ورسم فيها يوميات الرحلة التي انتهت بموت الجميع.

مَن مِن الذين يتابعون ما كتبه وما علَّق عليه وما أجاب عنه في لقاءات صحافية، لم يقف على قصة صديقته المؤرخة السينمائية الألمانية لوته آيزنر، تلك التي حدثت تفاصيلها في العام 1974، حين تلقَّى هرتزوغ اتصالاً يخبره أن آيزنر تحتضر في باريس. هزَّه النبأ، ولكي يعمل على تأخير موتها توصل إلى فكرة السير من ميونيخ إلى العاصمة الفرنسية (باريس)، استغرق الأمر منه 22 يوماً، وكل ما حمله معه عبارة عن: معطف وبوصلة وحقيبته. مع بلوغه منزل صديقته قال لها: «افتحي النافذة. منذ هذه اللحظة وما بعدها، سيكون بإمكاني أن أطير».

يكفي أن نتذكَّر قصة خسارته رهاناً أمام المخرج الأميركي إيرول موريس في العام 1978؛ حيث قام بطهي حذائه وأكْله؛ حيث تم توثيق تلك الحادثة في العام 1980، من خلال فيلم قصير أخرجه لِس بلانك بعنوان «فيرنر هرتزوغ يأكل حذاءه».

قائمة بعض أفلامه تقدم لنا صورة عن الرجل الذي جاء إلى الحياة ليعيد ترتيبها من خلال الشاشة، ومن خلال تجاوزها بذلك القدر الهائل من الجنون الذي عُرف به، والبذاءة التي ظلت لصيقة به في الوقت نفسه؛ لكنها بذاءة تكشف في الوقت نفسه عن تجفيف منابع غير أخلاقية كبرى، وأحياناً لعب بالأسطورة، أو خلق لها بالمعالجات الفارقة التي ينجح في تحقيقها بشكل مذهل، جعلت منه واحداً من أهم مخرجي العالم.

في فيلمه «وودابي، رعاة الشمس»، الذي أطلقه في العام 1989، يقدِّم لنا مسابقة لأكثر الرجال جمالاً لدى إحدى القبائل، مع اهتمام في إبراز طولهم الفارع وملابسهم وعيونهم المفتوحة الواسعة. في الفيلم نفسه يعمد إلى إدخال شريط صوتي لأوبرا، والتي تمثل جانباً من الرقي في الثقافة الأوروبية، وسط الفيلم لتبدو سطحية ومزعجة، كما هو الحال مع ملابس أفراد القبيلة.

ولا ضير من ذكر بعض أهم أفلامه هنا: «عدوي اللدود»، «كوبرا فردي»، «ستروشيك» في العام 1977، «نوسفيراتو» و «وويزيك»، العام 1979، «دروس عن الظلْمة»، في العام 1992، ذلك الذي رصد فيه حرائق النفط الكويتي بعد حرب العراق، وبخيال علمي مذهل، «الأقزام يبدأون حياتهم صغاراً»، وفيلمه الروائي الذي أعاد صنعه «فجر الإنقاذ» في العام 2006، «رجل رمادي»، ووثائقيات مثل: «ديتر الصغير بحاجة إلى الطيران» في العام 1997، «أجنحة الأمل» في العام 1999، وغيرها من الأفلام.

ضوء لابد منه

ولد فرنر هرتزوغ في 5 أيلول/ سبتمبر 1942، في مدينة ميونخ. فإضافة إلى كونه مخرجاً، فهو منتج وكاتب سيناريو وممثل، ومخرج لعروض الأوبرا. يعتبر واحداً من أعظم الشخصيات في السينما الألمانية الحديثة.

إضافة إلى استعانته بنجوم سينمائيين ألمان وأميركان وغيرهم، فإن هيرتزوغ معروف باستقدامه لأناس من المنطقة التي يصوِّر فيها، خاصة في أفلامه الوثائقية، ويبرر استعانته بالسكَّان المحليين ليفيد ما يسمِّيه «الحقيقة المنتشية» مُستخدماً لقطات لهم في حالتي تمثليهم لأدوارهم وتجسيدهم لأنفسهم. هيرتزوغ وأعماله ترشحوا أكثر من مرة للعديد من الجوائز العالمية، وكانت جائزته الكبرى الأولى حصوله على جائزة الدب الفضي الاستثنائية في التحكيم على أول فيلم روائي طويل له إشارات الحياة Signs of life. من أكثر الجوائز اللافتة الأخرى نذكر له أيضاً حصوله على جائزة أفضل مخرج في فيلم فيزكارالدو في مهرجان كان السينمائي العام 1982. كما حصل فيلمه لغز كاسبر هاوزر The Enigma of Kaspar Hauser في المهرجان نفسه ولكن قبل عدة سنوات (وتحديداً في العام 1975) على جائزة التحكيم الخاصة (المعروفة أيضاً بالسعفة الفضية).





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً