العدد 5106 - الإثنين 29 أغسطس 2016م الموافق 26 ذي القعدة 1437هـ

الرجل الذي خسره الاتحاد السوفياتي لتفادي انهياره

رضي السماك

كاتب بحريني

في ذكرى مرور ربع قرن على سقوط الاتحاد السوفياتي، لعل من المفيد أن نُذكّر هنا بأن ثلاثة من زعمائه تُوفّوا في أقل من سنتين ونصف السنة خلال الفترة الممتدة من نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 إلى مارس/ آذار 1985، الأول ليونيد بريجنيف بعد أن تربع على قمة هرم الدولة والحزب الشيوعي الحاكم طوال 18 عاماً، وظل يعاني من أمراض الشيخوخة المبكرة في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، والثاني يوري اندرويوف الذي خلفه في استلام القيادة ولم يحكم سوى 13شهراً تقريباً (نوفمبر 1982 - فبراير/ شباط 1983)، والثالث العجوز قسطنطين تشيرنينكو الذي استمر في الحكم نحو سنتين (فبراير 1983- مارس 1985). ثم جاء أخيراً الإصلاحي ميخائيل جورباتشوف الذي استمر حكمه ست سنوات فقط (1985 - 1991) وكان آخر زعيم لهذه الدولة العظمى التي انهارت على يده بعد أن أنهكتها جرعات علاجه الزائدة المتسرعة لجسدها العليل بوصفات رأسمالية ناهيك عن ضعف شخصيته القيادية ليسدل الستار بذلك على اثنين من أهم أحداث القرن العشرين الكبرى متمثلين في نشوء وانهيار دولة عظمى، الحدث الأول التاريخي الكبير بدأ بتأسيسها كأول دولة اشتراكية في عصرنا الحديث سنة 1917، والحدث الثاني التاريخي الكبير المعاكس ثمثل بانهيارها على مشارف انتهاء القرن وزوالها من الخريطة السياسية العام 1991، وحينما يتوفى ثلاثة قادة لثاني دولة عظمى في العالم في مدة وجيزة تقل عن العامين والنصف، فهذا مؤشر قوي خطير لم يلتفت إليه لا اليسار العالمي، ولا حتى جُل المجتمع الدولي بأن ثمة خللاً كبيراً جسيماً يعتري جسد هذه الدولة العظمى ويؤذن بانهيارها السريع، ما لم يُتدارك الأمر لمعالجة أوجه الخلل بالسرعة المناسبة غير المتهورة وغير البطيئة في الوقت ذاته.

أما الذي جاء إلى رئاسة روسيا الاتحادية، كبرى وأقوى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ألا هو بوريس يلتسين أحد الأعضاء القياديين في الحزب الشيوعي السوفياتي السابق، والذي لعب دوراً محورياً في التعجيل بتقويضه وتفكيكه، فقد حوّل هذه الجمهورية إلى دولة قزمة ذليلة أمام الغرب وعلى الساحة الدولية، وقد كان أسوأ رئيس عرفته روسيا في تاريخها منذ العصر القيصري، فعلى رغم تسويق أميركا والغرب له كوجه «إصلاحي ليبرالي» فقد عُرف عنه ليس استبداديته وتفرده في اتخاذ القرارات الهامة فحسب، بل وبنزواته غريبة الأطوار غير المتزنة والبعيدة كل البُعد عن أدنى متطلبات الوقار والهيبة المفترضين في أي قائد دولة في العالم، ولعل أسوأها إدمانه المفرط على الكحول وظهوره ثملاً أو مهرجاً خارجاً عن اتزانه في كثير من المواقف الرسمية والإجراءات البروتوكولية أمام الضيوف في الداخل أو أثناء زيارته دول في العالم، حتى أن نائبه الكسندر روتسكوي لخّص ببساطة مهزلة اتفاقية تفكيك الدولة السوفياتية التي جرت على عجل فيما بين رؤساء الجمهوريات السوفياتية بحضور يلتسين وتواطؤه ودون الرجوع لقواعد أحزابهم الحاكمة ولا لبرلماناتها (مجالس سوفيات الجمهوريات) وخرقاً لنتيجة الاستفتاء الشعبي السابق ببقاء الجمهوريات ضمن الدولة السوفياتية كالتالي: «اجتمع رؤساء الجمهوريات السوفياتية ومعهم يلتسين وقرروا تفكيك الاتحاد السوفياتي في جلسة شراب في غابة بيلوفسكايا في ديسمبر/ كانون الأول 1991 بجمهورية بيلاروسيا السوفياتية». وروتسكوي هو نفسه الذي اتهم مساعد يلتسين الشخصي كاراجكوف بدأبه على جر يلتسين إلى الإدمان والإفراط في الخمور بغية تمرير الكثير من الأوراق والمستندات المالية والاقتصادية المهمة لوضع توقيعه عليها، وهو تحت تأثيرالسكر. وهكذا فلم يقل من عثرة هذا البلد الكبير العريق في حضارته وتاريخه السياسي والعسكري والثقافي إلا فلاديمير بوتين والذي كان من قيادات الصف الثاني للحزب الشيوعي السوفياتي قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، وقد عمل في فرع الكي جي بي بألمانيا الشرقية حليفة بلاده قبل سقوط نظامها الشيوعي، فخلال سنوات قليلة تمكن بوتين من إعادة بناء الدولة الروسية وجيشها في ظل نظامها الرأسمالي الجديد، بما في ذلك تمكينها بقدر معقول من التعافي اقتصادياً واستعادة هيبتها على الساحة الدولية بما أخذت تلعبه تدريجياً منذ اوائل العقد الماضي من دور مؤثّر في القضايا الدولية المعاصرة وهو الدور الذي بلغ ذروته في وقتنا الحاضر، وتمكنت روسيا أيضاً من إبراز نديتها لخصمها القديم الجديد الولايات المتحدة والغرب عامةً. كما قام بوتين إعلامياً بتوظيف تراث أمجاد الحقبتين القيصرية والسوفياتية لإبراز عظمة روسيا الجديدة وإظهارعراقة هذه العظمة تاريخياً. ومن المفارقات التاريخية أنه كما قُيّض لروسيا الاتحادية، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أن ينقذها من الانهيار بعد سنوات قليلة من حكم المهرج المخمور يلتسين رجل قدِم من الكي جي بي، فإن الرجل الذي كان مُؤهلاً لإنقاذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار قدِم أيضاً من الكي جي بي، بل كان على رأس جهازه ألا هو اندروبوف في عهد بريجنيف. وشن حرباً لا هوادة فيها على الفساد والمفسدين والتي كان أول ضحاياها وزير الداخلية في عهد بريجنيف الذي انتحر حينما تقرر تقديمه للمحاكمة، وكان اندروبوف يحمل في جعبته حزمة كبيرة من الإصلاحات لإنقاذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار، بل قيل إنه كان يعد جورباتشوف لتولي أحد المناصب المتقدمة، وأعد أيضاً مرشحين من الشباب، كان من بينهم غايدار وتشوبايس، وأرسلهم في سرية تامة، دون دراية حتى أغلب القيادات العليا في الحزب الحاكم، للدراسة في المعهد الدولي للتحليل التطبيقي في النمسا للتعرف على إصلاحات السوق للاستفادة من خبراتهم في برنامجه الإصلاحي ووُضعوا تحت الرقابة المشددة من قِبل عناصر «الكي جي بي» في النمسا لكن المخابرات الغربية تمكنت من غسل أدمغتهم وشكلوا مع يلتسين بعدئذ رأس الحربة لتخريب الاقتصاد الاشتراكي وبيع القطاع العام وأملاك الدولة بأبخس الأسعار إلى رموز الطبقة الطفيلية الوليدة باسم اقتصاد السوق والإصلاح.

لكن يظل السؤال: ما هي حدود الإصلاحات التي كان ينوي القيام بها اندروبوف؟ وهل حتى لو قُيض له أن يعمّر في الحكم والسن عشر سنوات افتراضاً لينفذ إصلاحاته ستدرك الدولة السوفياتية الألفية الثالثة؟ وهل ستتفادي مخاطر السقوط في ظل نظام سياسي قائم على مبدأ احتكار الحزب الواحد للسلطة وعدم الفصل بين السلطات؟

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5106 - الإثنين 29 أغسطس 2016م الموافق 26 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:18 م

      شكرا لك استاذ رضي .. مقال ممتع وثري بالمعلومات

    • زائر 4 | 1:17 م

      اسئلة مهمة ومصيرية فعلا استاذ رضي

    • زائر 3 | 6:38 ص

      العقلية الشمولية في التقيم وفهم المساهمات المتعلقة بالأحداث المهمة في التاريخ السياسي الحديث للبشرية ،لا تتعدى نطاقها السلبي التي تقراء ما يكتبه ويحلله الآخرون بمنظور ذاتي وترسبات سياسية لا تهدف إلا إلى التقليل من شأن المساهمة المتواضعة لصاحب الرأي ....

    • زائر 2 | 1:48 ص

      استاذ رضي السماك اكثر كاتب ملم بهذا الحقبة و برجالاتها وهو بلا شك اسف على انهيار الاتحاد السوفيتي لانه كان الند الاقوى للولايات المتحدة واستبشر خيرا بالقيصر الجديد الذي خرج من رحم المخابرات.

اقرأ ايضاً