العدد 2 - السبت 07 سبتمبر 2002م الموافق 29 جمادى الآخرة 1423هـ

كيف يمكن تعريف الجماهيرية الليبية؟

بعد 33 عاما على الانقلاب العسكري

علي العبدالله comments [at] alwasatnews.com

.

تشهد الجماهيرية الليبية عملية إعادة تعريف ذات جذرية، تكاد، على صعيد السياسة الخارجية، تبلغ درجة الانقلاب الشامل، بعد مرور 33 عاما على الانقلاب.

بدأت العملية بإعلان الجماهيرية نبذ الإرهاب والالتزام بمحتوى قرار مجلس الأمن «الرقم 731 للعام 1992»، وانتهت بالاعلان، خلال زيارة وزير الدولة للشئون الخارجية البريطانية مارك اوبرايان، بتبنّي مكافحة الإرهاب والالتزام بحقوق الإنسان ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل مرورا بالتوسط لإطلاق رهائن غربيين، وأميركيين تحديدا، تحتجزهم «مجموعة أبي سياف» الفلبينية في جزيرة (صولو). وبالتعاطي إيجابا مع المطالب البريطانية - الأميركية بشأن قضية تفجير طائرة الـ (بان أميركان) فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية، والمساهمة في إعادة أسرى من الأفغان العرب إلى بلادهم. عكس الخطاب الذي ألقاه العقيد معمر القذافي، في مناسبة مرور واحد وثلاثين عاما على ثورة الفاتح من سبتمبر/ ايلول، المستوى الذي بلغته عملية «إعادة تعريف الذات» اذ تضمن الخطاب دعوة المستثمرين والعاملين الأميركيين إلى الحضور إلى الجماهيرية للعمل، واستعداد الجماهيرية لفتح صفحة جديد مع الولايات المتحدة تقوم على الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة، وتحفّظه على الدعاوى الصهيونية وليس على «إسرائيل» التي قال عنها: «إنها إذا استمرت في دعاواها الصهيونية فإنها ستفقد، في عصر التكتلات الكبرى أصدقاءها». وكرّر ما كان أعلنه في القمة الافريقية التي عقدت في لومي (عاصمة التوغو) في العام 2000 حول العولمة وانتهاء عصر الدولة الوطنية والمشروع الوطني، وتضمّن الخطاب انتقال أولوية الجماهيرية من الوحدة العربية إلى الاتحاد الافريقي.

ربطت بعض التعليقات السياسية بين التوجّه الليبي الجديد وما وُصف بـ «الإحباط الليبي» من الموقف العربي إن كان إزاء دعوات العقيد الوحدوية أو اتجاه الحصار الذي فُرض على الجماهيرية لأكثر من ثماني سنوات، حيث لم تقم أية دولة عربية بكسره بينما قامت عدة دول افريقية بذلك.

الواقع أن هذا التبرير لا يتسق مع «المنطق الثوري» الذي كانت تتبناه القيادة الليبية ويميّز بين الواقع الرسمي والواقع الشعبي العربي ما يعني أن الشعب العربي في الدول العربية غير مسئول عن مواقف الحكام، وهذا المنطق يستدعي مواصلة العمل حتي يتم «التغيير الثوري» الذي يضع كلمة الشعب ومصالحه أساسا للنظام السياسي والاقتصادي، ناهيك عن مشروعية التساؤل عن مدى حصافة مبادرات العقيد الوحدوية لجهة التوقيت والشركاء، حين جاءت مبادراته في توقيت غير مناسب ومع شركاء غير مناسبين... كما أن الانقلاب الليبي بدأ فعليا قبيل فرض الحصار والعمل على كسره، فمنذ بداية العقد الماضي وإثر صدور قرار مجلس الأمن «الرقم 731 في 1992 العام»، أعلنت الجماهيرية في بيان الأمانة الخارجية أنها:

1 - قطعت علاقاتها بجميع المجموعات والمنظمات التي تتورط في الإرهاب الدولي بجميع صوره وأشكاله.

2 - أنه ليس لديها معسكرات لتدريب الإرهابيين وإيوائهم، ودعت لجنة من مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة، أو اية هيئة تابعة للأمم المتحدة، للتحقق من ذلك.

3 - أنها لن تسمح باستخدام أراضيها أو مواطنيها أو مؤسساتها للقيام بأعمال إرهابية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتوقيع العقوبات على من يثبت تورطه في مثل هذه الأعمال.

4 - أنها تلتزم باحترام الخيارات الوطنية وتبني علاقاتها على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية لأية دولة من الدول.

وقامت بتقديم كشف بالأسلحة والذخائر التي قدمتها لعدد من المنظمات التي يعتبرها الغرب إرهابية كالجيش الجمهوري الارلندي.

إن قراءة الانقلاب الليبي تستدعي البحث عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراءه كي نستطيع إدراك أبعاده وحدوده.

نجحت القيادة الليبية، التي سطع نجمها طوال العقود الثلاثة الماضية، في رسم صورة لنظامها السياسي اتسمت بـ «الثورية» و«التحررية». ارتبط هذا النجاح باستثمار المعطيات المحلية والعربية، اذ أتاحت لها عائدات النفط الكبيرة تحقيق الآتي:

أ - تأمين مستوى معيشة جيدة للمواطن الليبي، في بلد قليل العدد كثير الموارد، مع ابعاده في الوقت ذاته عن عملية الانتاج والسياسة والاقتصاد. وأقامت بعائدات النفط الكبيرة مشاريع صناعية في عدد من الدول الأجنبية (إيطاليا، اليونان، تايلاند، كوريا الجنوبية) تنتج سلعا منوعة للسوق الليبية تطرح في الأسواق بأسعار زهيدة.

ب - تقديم مساعدات مالية كبيرة لعدد من الدول العربية (دول الطوق خصوصا) والحركات السياسية العربية، وهذا سمح بتعظيم دور الجماهيرية في السياسة العربية.

جـ - تقديم مساعدات مالية سخية لعدد من الدول والحركات السياسية في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وهذا أكسبها نفوذا سياسيا دوليا كبيرا.

د - دفع ثمن الأسلحة التي تستوردها نقدا وبالعملة الصعبة، وهذا سمح لها بالحصول على أنظمة تسلح أكثر تطورا، بالقياس إلى ما تحصل عليه الدول العربية الأخرى.

كل هذا فتح الطريق أمام الجماهيرية للعب دور مؤثر في الساحتين العربية والدولية، دور أكبر من حجمها وإمكاناتها البشرية.

غير أن الظروف الاستثنائية تغيرت، وفرضت على الجماهيرية تحديا صعبا وضع نظامها السياسي أمام ساعة الحقيقة... فقد هدأت فورة النفط التي تلت حرب 1973، وتراجعت أسعاره، وتآكل النظام العربي لصالح وطنية ضيقة، ودخلت المنطقة العربية بعد العدوان الأميركي على العراق، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وبدء عملية التسوية في دائرة الهيمنة الأميركية شبه المطلقة. زاد التطور التقني الذي مهّد للعولمة هشاشة الأنظمة العربية، وضاعف من انعدام وزنها.

ترتّب على كل ذلك اعتماد دول كثيرة، ومنها الجماهيرية، سياسة التكيف الإيجابي مع هذه الظروف والمتغيرات بعد ان فقدت الغطاء الدولي وأضاعت فرصة اقامة غطاء عربي مناسب.

في هذا الإطار يمكن فهم الانقلاب الليبي باعتباره استجابة لعامل خارجي ضاغط ولّد ظرفا محليا واقليميا ودوليا غير مواتٍ فرض التكيّف معه إعادة نظر في كثير من السياسات الخارجية المتبعة والتمسك في الوقت نفسه وبقوة بالسياسة الداخلية التي أتاحت السيطرة على المجتمع وتحويله إلى تابع ضعيف للسلطة في معادلة القوة بين السلطة والمجتمع.

في هذا السياق تراجعت الجماهيرية عن كثير من أساسيات سياستها الخارجية، وأطلقت إشارات كثيرة في تعبير واضح عن توجهها الجديد كالعودة عن دعم الحركات الثورية، وعن التوجه العروبي، وتقليص الدعم المالي لمنظمة التحرير الفلسطينية «السلطة الوطنية الفلسطينية»، والتقرب من الولايات المتحدة بوضع عقبات أمام تطور العلاقات الأوروبية - الأفريقية (هاجم العقيد في مؤتمر القمة الأوروبي - الافريقي - القاهرة 3 - 4/ أبريل/نيسان 2000، الماضي الاستعماري لاوروبا في مسعى واضح للتشويش على إمكان التعاون بين الطرفين» اعتُبر رسالة ودّ للولايات المتحدة، وتبنّي فكرة تلاشي مبدأ السيادة الوطنية، وإعلان العقيد أن تنظيم «القاعدة» وأسامة بن لادن يمثلان تهديدا لليبيا ولدول عربية أخرى، وأخيرا إعلان الجماهيرية عن استعدادها لدفع تعويضات مجزية لأسر ضحايا لوكربي (10 ملايين دولار للشخص الواحد، أي دفع ما قيمته 2,7 مليار دولار)، والبحث عن صيغة تشير إلى مسئولية الجماهيرية العامة عن اعتداء لوكربي على رغم إعلان أمين الخارجية عبدالرحمن شلقم ألاّ علاقة للدولة الليبية بمشروع تعويض أسر ضحايا لوكربي، لأنها ليست طرفا في الموضوع، وأن رجال الأعمال الليبيين وبالتعاون مع بعض الحقوقيين كانوا أجروا لقاءات مع محامي أسر الضحايا، وهي لقاءات لا تعني إلاّ الجمعية القانونية المتطوعة للدفاع عن الموقف الليبي.

كل هذا في إطار مساعٍ محمومة لرأب الصدع مع الولايات المتحدة وإنهاء القطيعة الراهنة، كوسيلة للاحتفاظ بالسلطة السياسية، بينما لم يحظ الوضع الداخلي بإعادة نظر جادة تتفق مع الالتزام بحقوق الإنسان والحريات المرتبطة بها، اذ جاءت عملية إعادة الهيكلة جزئية وشكلية (إلغاء 14 أمانة من أمانات المؤتمر الشعبي العام، والإبقاء على 4 أمانات، واستحداث أمانة خاصة بالشئون الافريقية) أبقت البلاد/ المجتمع تحت السيطرة. فالأحزاب وما تزال ممنوعة منذ صدور القرار «الرقم 71 في العام 1972»، والبلاد من دون دستور محدّد تحكمها قواعد سياسية فضفاضة: الإعلام الدستوري الثوري (1969)، الكتاب الأخضر (1976)، الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهيرية (1988)، علما أن هيكل السلطة الأفقي يترك للزعيم الدور المحورى في إدارة البلاد - بما يشبه نظام الحزب الواحد مع فارق أن السلطة هنا بيد فرد واحد - ويترك الشعب في حال تفكك بسبب غياب التراتبية السياسية.

لن يقود الانقلاب الليبي إلى تحديث مؤسسات الحكم وعصرنة المجتمع، بل على الضدّ من ذلك سيعمّق التبعية الاقتصادية والاستلاب والتذرّر الاجتماعي، بسبب غياب مشروع وطني للاندماج والاستقلال الاقتصادي.

كاتب سوري

العدد 2 - السبت 07 سبتمبر 2002م الموافق 29 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً