العدد 5146 - السبت 08 أكتوبر 2016م الموافق 07 محرم 1438هـ

بلغريف في مذكراته عن عاشوراء البحرين: تخطيت الزقاق لأصل للمآتم

مأتم مدن
مأتم مدن

كنت أغادر منزلي سيراً على الأقدام بمفردي وأمشي خلال الممرات المظلمة إلى حي الشيعة. كانت المصابيح تضيء في العديد من النوافذ الصغيرة للبيوت المرتفعة على جانب الشوارع، وكنت أصادف في طريقي مجموعات من النساء المتشحات بالثياب السود وهنّ يسرعن للحاق بمآتمهنّ، وحينما يمررن أمامي يخفين وجوههنّ في عباءاتهنّ لكن غالباً ما كنت أسمعهنّ يضحكن مع بعضهنّ البعض ويتمتمن بكلمة (المستشار). جميعهنّ يعرفنني لدى مشاهدتي. حتى النسوة المتحجبات بالكامل كان يسمح لهنّ بمغادرة بيوتهنّ لحضور المآتم في ليالي محرم. وعادة ما أذهب إلى ثلاثة أو أربعة مآتم كل ليلة، ومأتمي المفضل كان قديماً جداً، قديماً لدرجة أن السطح الأرضي كان في مستوى أخفض من مستوى الشارع بعدة أقدام ومخفياً بين أزقة حي الشيعة. ورغم أنني أعرف المدينة في الداخل والخارج إلا أنني أحياناً أجد صعوبة في معرفة موقعه ليلاً حتى بالاستعانة بالقمر البالغ عمره عشر ليالٍ.

منحنياً أسفل مدخل مقنطر أدخل المبنى وأتلقى نفحة كاملة من الجو بالداخل، مزيج من التبغ المحترق وأبخرة القهوة والكثير من الناس. أجد نفسي في قاعة كبيرة. السطح العلوي مدعوم بأعمدة حجرية مكسوة بمادة سوداء بنفس الطريقة التي تكسا بها منارات مساجد الشيعة بالسواد كعلامة على الحزن. وحول الزوايا الأربعة للمأتم هناك ممرات مقنطرة تحمل سطحاً أكثر انخفاضاً. المكان يذكرني بكنيسة ساكسونية وهو مضاء بمصابيح من الزيت التي ينبعث منها ضوء مصفر، فيما بعد أخذت المآتم تستخدم الكهرباء والإضاءة بالفلوريسنت التي تبدو خارج الاحتفاظ بما يجري من وقائع. ومقابل أحد الأعمدة يوجد منبر صلب مع درجتين وكرسي في قمته، مغطى بسجادات فارسية. وخلف الكرسي توجد لافتتان، إحداهما خضراء زاهية والأخرى سوداء بأحرف ذهبية. وعلى الأرضية الحجرية المغطاة بحصر القصب جلس جمهور كبير من الرجال، معظمهم يرتدون ثياباً بيضاء، لكن هنا وهناك كان شباب صغار يلبسون قمصاناً ملونة أو كنزات صوفية. وفي كل دقيقة يدخل أشخاص أكثر وبطريقة ما ينجحون في الحصول على أماكن للجلوس.

كنت قد وصلت إلى المأتم قبل أن يبدأ القارئ وكان الناس لايزالون يدخنون ويشربون القهوة. جاء كبار هيئة المأتم إليّ ورحبوا بي ثم شرعوا في جدالهم المعتاد: سوف أجلب لك كرسياً، قال أحدهم. فرددت عليه: لا، شكراً. أنا أفضل الجلوس على الأرض. بدا الرجل العجوز حزيناً جداً وقال: نستطيع أن نستعير كرسياً من المنزل المجاور، سوف تكون أكثر راحة على الكرسي. لكنني في النهاية أقنعتهم بالسماح لي بالجلوس على الأرض، على سجادة قديمة جداً أحضرها شخص ما. كنت سأشعر بأنني شاذ وبارز الوضوح لدى الجلوس على كرسي أعلى من مستوى بقية الحاضرين. ومباشرة بعد أن انتهيت من شرب قهوتي وصل («الملا» وكانت هناك حركة بين الحضور الذين تركوا التدخين حينما دخل إلى المأتم من زاوية بعيدة في القاعة.

كان رجلاً طويلاً شاحباً بتعابير كئيبة المزاج. لحيته مصبوغة بالأسود وله أنف بارز وعينان واسعتان لهما تعابير. ارتدى عمامة دائرية سوداء وعباءة سوداء ووشاحاً أخضر حول عنقه الذي كان يستخدمه بتأثير درامي حينما يخطب. صوته كان أجش نوعاً ما بسبب قراءته لعدة ساعات كل يوم في الأيام الثمانية الأخيرة لكن الصوت كان يصل إلى جميع أنحاء القاعة وجميع الأشخاص الذين احتشدوا خارج النوافذ ذات القضبان استطاعوا سماع ما كان يقوله. كان يمتلك مهارة مسرحية لممثل فيكتوري لكن القصة التي شرع في سردها كانت تحتاج إلى القليل من الدراما لتصل إلى قلوب المستمعين. وفي البداية تكلم الملا بهدوء وبرقة وأخذ الحضور يصغون إليه بصمت واهتمام كبير. صوته ازداد في الارتفاع والحدة حينما بدأ يروي القصة الجديرة بالشفقة للحسين، وكانت هناك تأوهات وبكاء بين حين وآخر من قبل واحد أو اثنين من الرجال الأكبر سناً. ثم أصبح الخطيب أكثر دراميةً واصفاً المشهد على أرض كربلاء متوقفاً كل بضع دقائق ليمسح الدموع من عينيه، أحياناً تغدو القصة أنشودة فيما يشبه الشعر المرسل. الآن راح الرجال المستمعون يبكون دون توقف وهم يتمايلون إلى الأمام والخلف، وبصوت متقطع بالبكاء بدأ القارئ بسرد آخر لحظات الإمام الحسين، كيف حينما جرح وانتابه الإعياء، والجسد الميت لابنه الرضيع بين ذراعيه، سقط خارج خيمته، مغموراً بالعطش، وانطلق سهم من أحد الأعداء وشق فمه. دفن القارئ وجهه في الوشاح وأخذ جسمه يهتز وهو يجهش باكياً. لا أحد من المستمعين ظلت عينه جافة وحتى الشباب العصريون كانوا يتمايلون ويبكون. ثم جاءت الذروة، الخطيب وهو نصف واقف من على كرسيه، منحنياً إلى الأمام فوق المئات من الرجال المتمايلين الباكين، وصف مقتل الحسين وكيف صعد فرسان العدو فوق جسده وداسوا عليه. الآن أصبح كل واحد من المستمعين في حالة انفعالية من الدهشة العاطفية وأخذوا يضربون صدورهم وجباههم وضجت القاعة بالعويل والأنين. لا أحد، حتى أنا، استطاع أن يشعر بعدم المبالاة تجاه هذه القصة المروعة التي وقعت قبل أكثر من ألف سنة. ولدقيقة واحدة جلس القارئ صامتاً بينما راح الجمهور يتمايل ويئن وبعضهم انفجر في نوبة من البكاء الهستيري.

العدد 5146 - السبت 08 أكتوبر 2016م الموافق 07 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 7:08 ص

      يا قتيل العبرات واحسيناة واشهيداة
      لقد اغرورقت عيني بالدموع و أنا أقرأ هذا الوصف الدقيق و المؤثر لمأتم الحسين علية السلام

    • زائر 10 | 2:05 ص

      جدا مظهر منفر وغير حضاري تدخين التبغ داخل الحسينية ولو في ذاك الزمن كان مقبول...الحمد لله على نعمة العقل

    • زائر 9 | 8:21 ص

      وااااحسينااااااه

    • زائر 8 | 5:40 ص

      اقشعر بدني واغرورقت عيناي وقد غبت عن حاضري ورأيتُ نفسي في ذلك الزمن وسط ذلك الجمع وفي ذلك المأتم العتيق وأصواتهم تدوي المكان "وا حسيناه"

    • زائر 7 | 4:52 ص

      ما اصدق كيف شرح الموضوع بدقة تامة

    • زائر 6 | 1:56 ص

      قبر الحسين دفن في قلوب محبيه ,
      السلام عليك يا سيدي ويا مولاي يا ابا عبدالله

    • زائر 5 | 11:46 م

      اااقولهااا
      حب الحسين اجنني
      وكيف لا امشي للمأتم حتى ولو علمت بأنه هناك خطر
      السلام عليك يا سيد الشهداء

    • زائر 4 | 11:43 م

      وصف أدمع عيني. جعله الله في ميزان حسناتك يا بلغريف

    • زائر 3 | 11:14 م

      ااااه .. لايوم كيومك يا ابا عبدالله
      مأجورين جميعا وعظم الله لكم الأجر

    • زائر 1 | 10:49 م

      مشكور بلقريف علي الوصف

اقرأ ايضاً