العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ

«الرحلة السرية»: غوص في الخيبة

إذا كان هناك شخص أثارت إحالته إلى التقاعد بفعل أمور خارجة عن إرادته غيظا لدى محبيه فلا شك ان هذا الشخص هو الكاتب الانجليزي جون لوكاريه. فانتهاء الحرب الباردة أنهى رسميا المسار المهني لهذا الكاتب الذي كانت حكايات التجسس التي تتخذ من تلك الحرب خلفية وذريعة لها. لم ينهه ككاتب طبعا، لكنه انهى المرحلة الأهم من مساره الكتابي. وهذا الأمر في حد ذاته قد يشكل مبررا لنوع من الحنين إلى تلك الحقبة.

وجون لوكاريه، الذي اعتبر دائما وريث غراهام غرين وسامرست موم في آن معا، وهو المولود في العام 1931، لأب كان النصب حرفته، عرف بعدد كبير من روايات التجسس التي وضعها طوال نحو أربعة عقود، وكان أبرزها «الجاسوس الآتي من الصقيع» ومن آخرها «بيت روسيا»، التي نشر بعدها أعمالا عدة لكنها كشفت ان أحدا كان وراءه.

ومهما يكن من الأمر، فإن لوكاريه نفسه، أصدر بعد ان انتهت الحرب الباردة كتابا يمكن اعتباره واحدا من أهم كتبه وهو «الرحلة السرية». وهو كتاب تكمن أهميته في كونه يلخص بشكل من الأشكال رحلة الكاتب نفسه، مع العمل المخابراتي ومع العمل الأدبي في آن معا. واليوم وبعد عقد من صدور هذا الكتاب يمكن التوقف عنده بوصفه، على أية حال، واحدا من آخر وأهم كتب العملاءالسريين التي نشرت في القرن العشرين. والكتاب، يبدو ذاتيا إلى حد كبير في رصده لنوع من التاريخ السري لحياة راويه الذي يقول في واحد من الفصول: «أنا مثل دون كيشوت أمضيت حياتي كلها وأنا أرصد تدفق الشر. بعد ذلك، في بعض اللحظات اليائسة، رحت أتساءل عما إذا لم أكن أنا نفسي قد أضحيت مساهما في ذلك الدفق...».

لأول وهلة كان يمكن لكتاب «الرحلة السرية» ان يبدو وكأنه رواية جديدة من روايات لوكاريه مثل «الجاسوس الذي أتى من الصقيع» و«موم سمايلي» و«الفتاة ذات الطبل» «عن القضية الفلسطينية وسنعود إليه في عدد لاحق» و«جاسوس خالص» و«بلدة صغيرة في ألمانيا». لكننا في الحقيقة سنجد أنفسنا إزاء نص يبتعد عن الشكل الروائي ابتعادا بينا، ليعود ويقترب منه نتفا نتفا، عبر فصول يشكل كل واحد منها على الأرجح، خطوطا أولية لعمل روائي. لكنها ترتبط ببعضها بعضا عبر الراوي الذي نجده هنا، في لحظة متأخرة من حياته، يجلس متذكرا تفاصيل أساسية من لحظات عمله في أجهزة الاستخبارات البريطانية. والمسألة هنا، كما هي دائما لدى جون لوكاريه، تقوم على التوغل داخل عوالم أجهزة الاستخبارات وعملياتها وصراعاتها. والحال انه إذا كان ثمة وصف يمكن ان ينطبق على جون لوكاريه وعمله، فإنه لن يكون سوى «روائي الحرب الباردة». ولكن سيكون من الظلم للوكاريه وأعماله ان نكتفي بالحديث عنه كمجرد مؤلف لروايات تجسس.

إذ يتعيّن ألا يغيب عن بالنا أن لوكاريه: مثل غرين وموم، اشتغل على رفع أدب التجسس من دائرة الأدب الشعبي الترفيهي والمثير، إلى عالم الأدب الروائي الكبير. مع لوكاريه لا وجود لجواسيس من طراز جيمس بوند يأتون من العدم ويأتون بالخوارق ويعتمدون على عضلاتهم. نحن هنا امام شخصيات مختلفة تماما. أمام مشاعر وعواطف. وأمام ذكريات. والذكريات هنا في «رحلة سرية» هي ذكريات العميل ند، الذي سبق ان التقيناه في رواية «بيت روسيا». وند يقوم هنا بزيارة إذ بات على وشك التقاعد ويدير مدرسة للجواسيس. وذا مرة نراه يستقبل جورج سمايلي «بطل العديد من روايات لوكاريه الأخرى» ليلقي محاضرات على الطلاب في سنة تخرجهم، في الوقت الذي يلتقي فيه بين الحين والآخر بزميله توبي استرهازي ويستعيدان معا فصولا من حياة سمايلي، الذي بات أشبه بالأسطورة في عالم المخابرات الذي يعيشان جميعآ أيامه الأخيرة. ويتذكران معا خيانة بيل هايدون «هل هو كناية عن كم فيلبي؟» لوطنه، كما خيانته لجورج سمايلي في العلاقة التي يقيمها مع زوجة هذا الأخير. وهكذا يستعيد ند حكايات وأحداثا كان سبق ان التقيناها في روايات أخرى للوكاريه، من هامبورغ إلى موسكو، إلى ميونخ والشرق الأقصى إلى... بيروت ومنها إلى صحراء النقب في فلسطين المحتلة.

وبيروت يزورها الكاتب في الفصل الثامن من الكتاب، حيث كان كلف مرة بتعقب مناضلة ألمانية تعمل مع الفلسطينيين بغية الحصول منها على معلومات عن عشيقها السابق... المناضل الإيرلندي. وهذه المغامرة تقود ند إلى فندق الكومودور في بيروت، في عز اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. لكن ند لا يعثر على الألمانية لأن الإسرائيليين كانوا اعتقلوها وأسروها في سجن للنساء في صحراء النقب. وهناك يلتقيها ويكشف عن بعض التعاطف في موقفه من القضية الفلسطينية/ اللبنانية...

كتاب «رحلة سرية» إذا كان له من موضوع فموضوعه هو الخيبة والشيخوخة. إننا هنا أمام الفرد ومصيره سواء أكان مناضلا أم عميلا، انسانا عاديا أم أسطورة. وهذا ما يعطي الكتاب رونقه وجماله ويجعله أيضا، إذ كتب عند نهايات عصر البرسترويكا كتابا عن نهاية زمن و... ولادة أزمان جديدة

العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً