العدد 18 - الإثنين 23 سبتمبر 2002م الموافق 16 رجب 1423هـ

أميركا لم تنتصر على السوفيات!

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كُتب الكثير عن الهيمنة الأميركية وتفرُّد واشنطن بقراراتها غير آبهة بتوازن المصالح الدولية وحاجات أوروبا وطموح روسيا وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

عن هذه العناوين نشرت الدراسات والبحوث وكان نعوم تشومسكي من الفلاسفة الكبار الذي قاد مع غيره من المفكرين والعلماء في بريطانيا وفرنسا وألمانيا حملة نقد على السياسات الأميركية. تشومسكي مثلا ألّف الكتب عن موضوع الهيمنة والتسلّط وحدد الكثير من النقاط وسجّل المواقف التي تدين أحيانا وتكشف أحيانا أخرى مسئولية البيت الأبيض عن «إعاقة الديمقراطية». فأميركا كما بيّنت الوقائع التاريخية مسئولة عن دعم الديكتاتوريات العسكرية في العالم الثالث وتعزيز مكانتها السياسية والأيديولوجية حين تلتقي مصالحها معها. فالصداقة حتى لو كانت قائمة على تغطية الفساد وتأييد الاستبداد تمثل بالنسبة إلى واشنطن الأولوية في اللائحة وبعدها يتم بحث المسائل الثانوية. وأحيانا لا تبحث إذا كانت تضر بالمصالح الأميركية. أتى تشومسكي على كل هذا وغيره وقال أكثر منه، ومع ذلك لم تكترث الإدارة الأميركية إلى أصوات أصحاب «الضمير الحر» بل اعتبرتها مجرد صدى لانتقادات سابقة صدرت «ايام الحرب الباردة». فأميركا أقرب في نهجها إلى أصوات المدافع وضجيج الطائرات الحربية بينما نداءات أصحاب «الضمير الحي» فهي مجرد تشويش من فئات غير مسئولة عن كلامها. تريد النقد لمجرد النقد. وتريد الكلام بمعنى أو من دون معنى لإثبات وجودها ودورها الذي تهمش بعد أن انتصرت أميركا على خصومها الأيديولوجيين.

إدارة بوش الحالي وقبله والده بوش الكبير وجدا في سقوط «الامبراطورية السوفياتية» مناسبة لإعلان الحرب وليس مناسبة لإعلان وقفها على كل الجبهات. بوش الأب قرأ الانتصار بهدوء سياسي بداية ثم انتقل إلى هجوم عسكري يريد تحصيل أو تعويض خساراته السابقة في تجارة النفط وتسويق السلاح. بوش الابن رأى في الانتصار الأميركي خطوة أولى في سياق حرب ثقافية كبرى تنطلق من فكرة الانتصار على الاتحاد السوفياتي ظنا منه أن حضارات العالم وثقافاته هي مجرد امتدادات لثقافة السوفيات وسياساتهم. وانطلاقا من هزيمة «السوفيات» السهلة انتصبت أفكار الحزب الجمهوري (صقوره تحديدا) لتعلن سهولة استكمال الانتصارات من دون تمييز بين الأيديولوجيا والحضارة. لم يتم التمييز بين الفكرة السياسية واختلافها في تكوينها وتركيبها وتاريخها عن المعتقدات الدينية الموروثة والأصيلة والمتأصلة في الحضارة والثقافة. الأولى (الإيديولوجيا السوفياتية) زائفة مؤقتة وجاءت إلى السلطة عن طريق الانقلاب واستمرت بالقهر والاستبداد. بينما الديانات (الإسلام تحديدا في العالم العربي) جاءت من قلب الزمن والتاريخ وتأصلت روحها الثقافية في وجدان الناس وتوارثتها الأجيال. فهي جزء من حياتها وسلوكها ومماتها ومن دونها لا معنى للمنطقة. فالإسلام وغيره من ديانات سماوية ليس مسألة سياسية عارضة تذهب بذهاب النظام وتبقى عن طريق الإرهاب أو الاستبداد. فشخصية المنطقة من شخصية الاسلام وما يصيبه يصيبها.

هذا الفارق بين الشيوعية وبين الديانات السماوية والمعتقدات الأرضية يبدو أن صقور الحزب الجمهوري والبنتاغون لا تأخذه في الاعتبار. فهي تنظر إلى الحضارات السحيقة في قدمها والثقافات الموغلة في تاريخها مجرد أيديولوجيات يمكن هزيمتها وإزاحتها كما تمت هزيمة الكرملين في عهد السوفيات وإزاحة المعسكر الاشتراكي بإطلاق بعض الأبواق والإذاعات في أوروبا الغربية.

والفارق البسيط هو فارق نوعي، البسيط هو استخدام محطات الإذاعة والتلفزة، والنوعي هو اختلاف استقبال الناس للمسألتين. في السابق أمكن إسقاط المعسكر الاشتراكي عن طريق الإذاعات، أما أن تسقط الناس من دينها فهذا من سابع المستحيلات، بل أن كل المؤشرات تدل على أن الأساليب الساذجة في إطلاق الحملة الإعلامية العشوائية ضد الإسلام والمسلمين ساهمت في تأسيس نتائج معاكسة.

فكل حملة سياسية - إعلامية أميركية (صهيونية في الغالب) اثمرت المزيد من التماسك وأطلقت موجة من التعصب الأعمى وصلت عند بعض الشرائح إلى حد رفض ونفي حتى الحقائق البسيطة التي تطلقها الولايات المتحدة أو ينطق بها إعلامها.

والإشكال الذي وقع الأسبوع الجاري بين السفير الأميركي في مصر ومجموع المثقفين في ألوانهم وأطيافهم كافة خير دليل على ان بعض المثقفين بات يرى أن كل ما تنطق به الولايات المتحدة هو من باب الأضاليل والكذب... حتى لو كان بعض الكلام فيه الشيء القليل من الصحة.

وما حصل في القاهرة يمكن تعميمه على اسطنبول وكراتشي والرباط وصنعاء... إذ نرى عشرات من الأقلام وأصحاب الضمير من سفراء ووزراء باشروا الكلام عن هيمنة أميركية فاقت حدها المعقول... وباتت لا تطاق.

الكلام الأميركي عن الانتصار بات لا شك بحاجة إلى إعادة نظر. أميركا لم تنتصر على الاتحاد السوفياتي بل الاتحاد السوفياتي انهزم. فهزيمة السوفيات كانت داخلية اساسا ولم تأتِ من الخارج

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 18 - الإثنين 23 سبتمبر 2002م الموافق 16 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً