العدد 5169 - الإثنين 31 أكتوبر 2016م الموافق 30 محرم 1438هـ

الندبَة

القصة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة «الوسط» للقصة القصيرة عن فئة الكتَّاب البحرينيين

غزَاَ الزَمهَريرُ تلك المنطقةَ الريفيةَ، فباتت كمقبرةٍ ثلجية، حيثُ إنّ الشمس تبرأت من الظهور علانيةً، ولم تعُد تلكَ الساطعةَ الجريئةَ، سادَ الضبابُ وسُرِقت الألوانُ، شدّ البصرُ ذلك النورَ القادم، سحرٌ أم طيفٌ يا تُرى، فمن الجنون أن يكون حياً، لكن لم لا؟ فبالأمسِ العاقلُ كان مجنوناً والمجنون كان على وشكِ أن يكون حكيماً، اقتربَ النور ووضُحت اللوحة، وإذا بامرأةٍ تحمل وليداً بين ثنايا ذراعِها، كان الحزنُ يلازمُ وجهَها الشجن، فهي على وشكِ أن تُضحّي بقطعةٍ من جُثمانِها لأنها وصمةُ عارٍ لكونها أنثى، لو أنها وُلدت صبياً لكانت الاحتفالاتُ والمهرجاناتُ تعمُّ موطنَها، لكنّ تخلُّفَ واقعِها يصدر حُكمَ الموتِ عليها، أبت الأمُ أن تقتُل نفْساً خرجت منها، فقررت أن تُضحّي بها، لعل هناك روحاً طيبةً ترعاها، وضعت الأمُ جنينَها في أحضان الجَمْد وتبرأَت من ضميرِ أمومتها، بعد مرور ثمانيةَ عشرَ عاماً، في مدينةٍ مُكتظةٍ بمختلفِ أنواعِ البشر، وفي دارِ الأيتامِ تحديداً، فتياتٌ ناضجاتٌ يلعبن الغُميضةَ في أرجاء الميتم، ما عدا اثنتين منهن، يجلسنَ على السريرِ ويتكلمن بخفْية، وأخرى هي من تترأس الحديثَ وتتعمّقُ في التخطيطِ لواقعةٍ سرّيةٍ، هي نفسها بطلةُ الحكايةِ وتُدعى جودي، والثانية رفيقةُ درْبِها الحميمةُ روزي، بعد عدةِ ساعاتٍ سقط الليلُ، وذهبت كلُّ فتياتِ الميْتَمِ لأسرَّتِهن ونمن، ماعدا جودي وروزي، تظاهرتا بالنوم، بعد أن دقت ساعةُ منتصفِ الليل، أخرجتا أمتعتهن وهربتا من الميتم وفقاً لتخطيط دامَ أسبوعين، بعدما أفرغن أحلامهن واقعاً ونافسن الخيال بالحقيقة، ذهبن ليبحثن عن عملٍ، كل واحدةٍ كانت تبحثُ عن ما فقدته في البحث عن وظيفتها الجديدة، روزي اتجهت لمسار الفنِ والموسيقى، بينما جودي ذهبت لدارِ المسنّين، ولم يقبلوا بها كونها لا تملكُ شهادةً جامعية، لكن بعد رجاءٍ وتوسل، فُطِرَ قلب مُدير الدارِ وقبل بها كعاملةِ تنظيف، كانت جودي كُلما تُنهي عملها تذهبُ للمسنّين وتزرعُ الابتسامةَ على وجوهِهم وتسمعُ حكاياتِ حياتهم، من بين كل الأفواه التي كانت تتسابقُ للبوح، كانت هناك عينٌ لا ترمشُ عند النظرِ إليها، عينُ عجوزٍ مُسن، اقتربت جودي منه، فدمِعت عيناه، و قال لها: لو أني أعلمُ قدْرِ الأنثى لما قتلتُ ابنتي، عمّت الصدمة ملامحَ جودي وقالت له: أقتلتَ ابنتَك؟ قال: نعم. قالت جودي: كُنت على وشكِ أن أكون نسخةً لحكايةِ حادِثَتِها لكن أمي أنقذتني، قال العجوز: يا ليت والدتها، كوالدتكِ، متمردة على تلك القوانينِ الخرافيةِ الباطلةِ، عمّ الصمتُ وغَزا الحزنُ الطرفين، انسحبت جودي من النِقاش، وكانت على وشك النهوضِ، لكن رَدَعَهَا العجوزُ وأمسكَ يدَها وإذا بهِ يلاحظ ندبةً بيدها، فارتعشَ خوفاً، ابتسمت جودي وقالت: هذه محاولة من محاولات قتْل أبي لي، بعد مرور أيامٍ عديدة تطورت علاقةُ جودي بالعجوز كأبٍ وابنة، لكن انتهت تلك العلاقة بفاجعةِ موتِ العجوزِ، وإذ به ترك لها وصيةً، تُورِثها كلَّ أملاكِه، وفي نهاية الوصيةِ كانت هناك جملةٌ كُتبت برعشةِ حبْرٍ عابرة: أنا مُسبّبُ الندبةِ، فلتغفري.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:04 م

      جميلة
      إنها ندبة أورثت أملاكا
      ولكن كم من ندبة خلفت أحزانا
      كم من ندبة لا طريق إلى شفائها وزوال أثرها
      أتمنى لك التوفيق

اقرأ ايضاً