العدد 5182 - الأحد 13 نوفمبر 2016م الموافق 13 صفر 1438هـ

العراق «الشيعي» والمحيط «السّني»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

دعونا نقرأ تجربةً حصلت قبل أربعة قرون. سأستعين في استحضارها بعدد من المصادر من أهمها إفاضات المؤرخ الكبير جيري بروتون، وهو أستاذ دراسات عصر النهضة الأوروبية بجامعة كوين ميري البريطانية.

في القرن السادس عشر دخلت الملكة إليزابيث الأولى (1558 – 1603) وبعد اثني عشر عاماً على تسلّمها العرش الانجليزي، في صراع مفتوح مع البابوية الكاثوليكية في أوروبا. كان السبب في ذلك الصراع هو التحوُّل المذهبي الذي نَقَلَ انجلترا من المسيحية الكاثوليكية إلى المسيحية البروتستانتية، وتحديداً في العام 1570، ما جعل أوروبا تجافيها لتدخل انجلترا في عزلة.

لقد تمثل ذلك الجفاء (وتحديداً من إسبانيا متزعمة الكاثوليكية آنذاك) في مجموعةٍ من أعمال الخصومة السياسية والاقتصادية كفرض قيود على التجار الانجليز، ومنع دخولهم إلى الأراضي الهولندية والواطئة عموماً، ما جعل الاقتصاد الانجليزي والاستقرار في الجزيرة يضطربان. عندما رأت الملكة إليزابيث الأولى ذلك الجفاء من جيرانها، بدأت في القفز على محيطها الأوروبي، والذهاب نحو الشرق لتنسج علاقات سياسية واقتصادية وثقافية متينة مع بعض دول العالم الإسلامي، من بينها إيران إبان حكم الشاه عباس الأول، حيث شكّلت تلك الدول متنفساً استراتيجياً لإنجلترا أمام الحصار الأوروبي المفروض عليها.

لقد أخذت انجلترا في التعامل مع الشركات الإيرانية وشركات دول إسلامية أخرى، فضلاً عن اضطلاعها بشركة الهند الشرقية. وبذلك ضمنت تحالفات تجارية وسياسية آمنة، واستطاع التجار الانجليز الدخول إلى أراضي هذه الدول ومناطق نفوذها بِحُريّة، ما جعلها بديلاً عن المحيط الأوروبي المسيحي الكاثوليكي الذي كان يُطوِّق انجلترا بالكامل.

كانت ردة فعل الملكة إليزابيث الأولى عداءً مذهبياً متبادلاً مع خصومها الأوروبيين في المسيحية الكاثوليكية. وقد دفعها ذلك العِداء إلى أن تقوم باقتلاع المواد المعدنية من الكنائس الكاثوليكية في انجلترا، وصَهْرِ أجراسها لصناعة الذخيرة كي ترسلها إلى تركيا والمغرب. كان هذا أمراً مريعاً في الأعراف المسيحية الكاثوليكية. وكان ذلك الشَّد من البابوية قد أبعد انجلترا كثيراً عن أوروبا.

هذه التجربة، أخالها اليوم تتكرر، بشكلٍ أو بآخر، في موضعٍ ما من العالم، وبالتحديد في منطقتنا العربية. كيف؟ وأين؟ حسناً، دعونا نتحدث بصراحة. قبل عقد وثلاث سنوات حصل تغيير هائل في منطقة غرب آسيا، حين جاء الأميركيون والبريطانيون واحتلوا العراق. سقط الحكم القائم فيه، وجاء معارضوه إلى السلطة. كان هذا هو المشهد العام لما جرى، لكن في تفاصيله توجد أشياء أكبر وأكثر.

فالعراق، أصبح دولةً متحوّلةً ثقافياً بشكل هائل. فهذا البلد وعلى رغم أن مَنْ حكموه منذ الاستقلال هم من السّنة إلاّ أن الحكم فيه لم يكن سُنياً. لكن العراق وبعد الاحتلال وسقوط نظام البعث تحوّل إلى دولة يحكمها رئيس وزراء شيعي مُحوِّلا معه الدولة العراقية إلى شيعية بصورة شبه كاملة. كان هذا رأي السياسي العراقي حسن العلوي وهو مُصِيبٌ فيه كما أعتقد.

هذا التحوُّل أزعج بعض العرب. وكان من تداعيات ذلك هو مجافاة العراق وإدارة الظهر له. عندها أصبح هذا البلد فضاءً غير مملوء أمام محيط عربي يصد عنه ولا يريد أن يملأه، ولا يفتح له أبوابه، في هذه اللحظة وجَدَ جاره الشرقي (إيران) في ذلك فرصة سانحة، فلوَّح له بتعاضديات مذهبية عَبَرَت أبوابه المهترئة واستقرت فيه، حيث لم تكن تمتلك سوى هذه الورقة كي تَلِجَ إليه على عَجَل.

وقد كان ذلك الموقف العربي السلبي مكملاً لذهبية الجائزة التي حصلت عليها إيران بعد الاحتلال الأميركي، حين تمدّدت في دولة عربية خاوية، وبلا ثقل قومي، فكان سهلاً عليها أن تتمكن منه. وهو أمرٌ لم يحصل حتى في أشد مراحل الصراع العثماني الصفوي. بل ظل العراق، وباشوية بغداد تحديداً في نهايات القرن التاسع عشر تضم إليها البصرة وصولاً إلى الخليج والصحراء السورية.

وبعد بضع سنين من ذلك الخطأ الجسيم، بات بعض العرب الآن يكرّر ذات الخطأ مع جار العراق الغربي وهو تركيا. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعندما صرّح بما صرّح به عن الموصل، ظنّ بعض العرب أن حديث أردوغان يمكن احتسابه كموقف توازنٍ مع الإيرانيين، إلاّ أن تصريحاته اللاحقة التي قال فيها «بعض الجهلة يأتون ويقولون ما هي الصلة التي يمكن أن تكون لنا بالعراق؟ هذه الجغرافيا التي نتحدّث عنها الآن جزءٌ من روحنا، حتى إذا كانت ثقيلة على قلوبنا»، قد أبانت كل غموض كَشَفَ حقيقة الطموح التركي في العراق، هذا البلد العربي المحوري.

حين هيمن العثمانيون على بلاد الرافدين، وأوصلوا حدوده إلى ماردين شرق الأناضول، كان العراق تواقاً إلى حضنه القومي، فكانت القبائل العربية وبذات المقدار الذي تتمرد فيه على الفرس في البصرة كان لها ذات الموقف مع الأتراك في الوسط والشمال.

هذا جزء أصيل من تاريخ العراق، الذي يُعطينا التأكيدات الراسخة للتوجهات القومية له ولشعبه، والتي تحتاج إلى تقرب إليه ودعمه وتقويته وطمأنته حتى مع تحولاته الثقافية التي جعلت من الهوية الشيعية فيه بارزة، والتي هي أصلاً امتداد للمحيط القومي العربي، وإلاّ فإن أمن العرب سيصاب برضوض على المدى البعيد، بانشطار العراق على نفوذ دولتين قويتين في الشرق والغرب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5182 - الأحد 13 نوفمبر 2016م الموافق 13 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 17 | 4:51 ص

      السياسة تتغير مراحل استصلاح حقل الرميلة و التي ستجعل العراق يصدر تسعة مليون برميل يوميا جعلت الحدود مع الأردن آمنة بالتوقيع على أنبوب العقبة، و مجيء ‏ترمب سيعطي فسحة أكثر في رأيي للعراق ليحرك سياسته الداخلية بنفسه. و لتزيد الاستثمارات من الشركات الغربية التي طالما استخدمت ايران نفوذها لمنعها من العراق كورقة ضغط لمحادثاتها مع الغرب ، بعد تنقيح الاتفاقيات لتحد من نفوذ إيران. هناك عقدة عربية أن العراق مازال شيعيا. بحراني يحب العراق العربي اللا طائفي.

    • زائر 16 | 2:44 ص

      في كل المجتمعات عندما تطغى العصبية المذهبية او العرقية وتحارب التعددية سينهار ذلك المجتمع بلا شك ويجب علينا التعلم من تجارب الآخرين ولا نكرر نفس الاخطاء

    • زائر 15 | 1:31 ص

      غير صحيح وثورة العشرين تشهد

      المرجعية الشيعية في ثورة العشرين وقفت الى جانب العثمانيون ضد الإنجليز وخصوصا بعد وعد بلفور. وكانت المرجعية على صواب لانها كانت تنظر للبعيد الى فلسطين على رغم طغيان العثمانيين. بعكس العشائر السنية وقفت مع الانجليز ومعها ضاعت القدس

    • زائر 14 | 1:08 ص

      الدول الأوروبية عانة كثيراً من مآسي المذهبية وما خلفته من دمار وإراقة الدماء بين بعضهم وحتى في البلد الواحد إلى أن تعافوا بإبعاد مذاهبهم عن السياسة وجعلوا المواطنة هي أساس انشاء الأحزاب المدنية التي يشترك فيها الجميع بختلاف مذاهبهم أو قومياتهم وهكذا استقرت الدول الأوربية وازدهرة وسادة الديمقراطية

    • زائر 10 | 12:30 ص

      صباح الخير

      شكرأ لك يا استاذ محمد لو عرف بعض المغرضين المرضى أن أكثر علماء الصحاح والحديث الشريف والإفتاء هم من أهل السنة جاء من العراق وإيران وكلهم تتلمدوا على يد الإمام جعفر بن محمد الصادق حفيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن جفاء والحقد الذي ملئ صدورهم

    • زائر 9 | 12:26 ص

      مايتعلمون الا اذا طاح الفاس علىى الراس

    • زائر 8 | 12:16 ص

      بل قل العراق الجريح الذي احاط به مجموع من الجزارين.
      العراق به الشيعي والسني وربما ما فعلته داعش ومن دعمها بسنة العراق اكثر مما فعلته بشيعته
      الدول التي خلقت داعش وتدعمها وهي تمثل امتداد لفكرها والتي اسمتها في بداية الامر ثوار اهل السنّة وحاولت الترويج
      لذلك اعلاميا لولا ان السحر انقلب عليهم وهددتهم داعش بغزو بلادهم لبقوا على خبثهم الاعلامي

    • زائر 7 | 12:10 ص

      صباح الخير

      والله يا أخي محمد خلي دول الجوار كل واحد يتفرد في مشاكله الداخلية ويعالجها مع خصومه في الداخل

    • زائر 6 | 12:08 ص

      بل قل العراق الجريح كالجمل اذا سقط كثرة السكاكين، لكن ابشّرك ان الجمل سوف يقوم بعد طعنه ويتعافى بإذن الله وسيري من اذاقه ويلات الخراب والدمار والقتل والتفجير و سينقلب السحر على الساحر

    • زائر 4 | 11:44 م

      سيكون العراق بخير مادام العرب بعيداعن تدخلاتهم في شؤونه الداخليةفاذا تم ذلك فسيكون العراق بخير وبأفضل حال

    • زائر 3 | 11:43 م

      Bold and useful artical thanks mohammed

    • زائر 2 | 11:37 م

      لم تكمل أستاذ محمد موضوعك السابق عن فوز ترامب (لا تلوموا الواهمين) ؟
      لا زلنا ننتظر ..
      سؤال أحد المعلقين كان مهما أيضا ، عن مصير الاتفاق النووي ، حبذا لو تعطينا تحليلا عنه

    • زائر 13 زائر 2 | 12:49 ص

      انشاء الله العراق بخير مادام الجماعه ليس دواعش ولا عنصرين ويحبون وطنهم ومتمسكين بعروبتهم

اقرأ ايضاً