العدد 5183 - الإثنين 14 نوفمبر 2016م الموافق 14 صفر 1438هـ

من حكايات الزمن الجميل... باربار والسحارة السحرية وأولاد مطر

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

إنه موسم الصيف من سنة 1943، وهي السنة التي أصبح عمر مجموعة من الفتيات فيها خمس سنوات، كبرت الفتيات وكبر معهن كل شيء وتغيّر معهن كل شيء.

البنات الصغيرات لم يعدن كذلك، فقد رمين عن كاهلهن أشياء كثيرة، وحملن على كاهلهن أشياء كثيرة، وزنها أكثر من سبعين عاماً. ومع مرور الزمن وتبدّل الأزمنة والأماكن، فإن ذاكرة الطفولة بقيت طازجةً ونديةً ونقيةً، لم تنل منها السنون السبعون.

نعم. الطفولة وذاكرتها حاضرة في ربيع الشيخوخة، وقادرة على سرد ما حدث في القرية قبل أكثر من سبعة عقود وكأنه حدث البارحة. يا لها من ذاكرة طفولية تغفو قليلاً، لتعود بكامل أناقتها وحضورها ويقظتها لتسرد ما جرى هنا وهناك فيما مضى، ولتسرد حكايات وحكايات من بينها حكاية السحّارة السحرية، وما أدراك ما السحارة السحرية والأصوات التي تتطاير منها في كل الجهات في قرية باربار. تعالوا نستمع إلى البنات الخمس، فماذا تقول تلك الحكاية؟

كنّ حينها خمس فتيات في الخامسة من العمر، والآن وقد اشتعل الرأس شيباً، ومع ذلك فإن ذكريات الطفولة لا تبارحنا. نتذكر تماماً في هذه السن المبكرة أولئك الرجال والنسوة الذين جاءوا من المحرق وجلهم شباب في مقتبل العمر، وكانوا يسمون أنفسهم أولاد مطر. جاءوا إلى قريتنا في (كشتة) في دولاب أولاد يتيم بهدف الترويح عن النفس، والاستجمام ومقاومة الحرّ تحت ظلال النخيل والأشجار الوارفة.

كان ذلك اليوم يصادف يوم الجمعة، وكنّا مجموعةً من الأطفال نتحلق حولهم من باب الفضول وحب الاستطلاع، وهم يغطسون ويسبحون ويتقافزون ويرشون بعضهم بعضاً بزخات الماء في البركة الغربية المشهورة في مزرعة أولاد يتيم.

كانت هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها حشداً بهذا العدد من النساء والرجال وقد اختلطوا وغطسوا في ماء واحد وبركة واحدة وجلسوا مع بعضهم بعضاً، يتحدّثون ويتضاحكون، في مكان يختلف عن أماكننا، وفي عين ماء تختلف عن عيوننا وسواقينا التي كنا نسبح فيها. كل شيء مختلف عمّا ألفناه، وكل شيء كان يبدو لنا جميلاً.

في هذه الأثناء كنا نحن الأطفال في قمة السعادة، حيث كنا في موضع المتفرج الذي يكتشف عالماً غريباً وعجيباً، من النساء والرجال المختلفين لأول مرة وكأنهم جاءوا من عوالم لم نعرفها من قبل، ومن منطقة قلّما سمعنا عنها أو عرفناها. إنها المحرق.

كان كل شيء يبدو لنا نحن البنات الصغيرات عوالم من السحر والبهجة، وكل شيء يلفت نظرنا، وكل شيء يبهرنا، وكل شيء جديد علينا ونشاهده لأول مرة. إلا أن ما شغل بالنا في ذلك اليوم، أو في تلك الجماعة أو التجمع الذي عرفناه منذ ذاك الوقت أنها تسمى (الكشتة)، هو ذلك الصندوق الذي يشبه «السحّارة»، وفي داخله أناس يرقصون ويغنون، وهي أغانٍ ورقصات تختلف عمّا ألفناه في القرية.

وهذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها مثل هذه السحارة العجيبة، وعليها قرص أسود يدور ويخرج منه صوت غناء. ومن هول الانبهار والسعادة جراء هذا الاكتشاف، تسمّرنا نحن الفتيات جميعاً في المكان، ونحن نكاد لا نصدّق ما نسمع جراء الفرحة والعجب من هذه السحارة.

وما هي إلا بضع دقائق، حتى أخذ الغناء يتوقف شيئاً فشيئاً، فسمعنا صوت أحد الكشّاتة ينادي إحدى الفتيات اللاتي معهم: شيخة، شيخة، اقلبي الاسطوانة، فعرفنا أن الاسطوانة هي القرص الذي يدور. وهنا قامت الفتاة شيخة وكانت في ميعة الشباب والجمال بإزاحة القرص، ووضع قرص آخر أخذ يدور ويطلق أغنية غير الأغنية الأولى، بلكنة عراقية على طريقة الملايات، عرفنا فيما بعد أنها من أغاني وحيدة خليل المغنية العراقية المشهورة. والتي يقول مطلعها: سبحان الجمعنا من غير ميعاد .

ولأن شيخة كانت شابة فهي قريبة منا سناً، وحالما استبدلت القرص بآخر، ورأتنا واقفات نتفرج عليهن ونتضاحك ونتغامز، دعتنا للتقرب منها، وتقدّمت هي خطوات إلينا وسلمت علينا بود شعرنا إزاءها بارتياح، فاقتربنا من السحارة قليلاً مع شيء من الخجل، وقالت لنا: اجلسوا هنا، وسأجلب لكم شيئاً.

وبالفعل ذهبت إلى الخيمة المنصوبة بمحاذاة البركة، وعادت وقدّمت لنا نوعاً من الأكل لم نعرفه من قبل، يتكوّن من شرائح من الخبز المحشو بالجبن، وبعض الحلويات وحبة تفاحة لكل واحدة من الفتيات، و(خبز عجم) مع شيء من الحلوى.

أكلنا كل شيء وبسرعة، ومكثنا قرابة الساعة، ونحن نوزّع أنظارنا هنا وهناك، ولكن دون أن ننشغل عن السحارة السحرية، وكم تمنينا أن تكون لعبةً بأيدينا. هذه السحارة التي أصبحت على مقربة منا، لنكتشف سحرها وسر هذا الصوت الذي يخرج منها شجياً وموزوناً ووقعه على النفس مريحاً.

بعد ذلك عدنا إلى بيوتنا، ونحن نختزن الكثير من الذكريات، والكثير من المشاهد المثيرة عن هذه الكشتة التي بقت محفورة في الذاكرة، عن هؤلاء الرجال والنساء المختلفين، وعن السحارة التي نراها لأول مرة، عن أولئك الذين يغنون داخلها مختبئين في جوفها – حسب تصورنا الطفولي - وكيف للسحارة الصغيرة أن تستوعب كل هؤلاء المغنين. أجل لقد كانت كشتة أولاد مطر وسحارة أولاد مطر في تلك السنة، هي التي عرّفتنا منذ ذلك الوقت، بعالم السحارة السحرية، والتي ينطلق منها صوت غريب من نوعه لكنه يستهويك بسرعة خاطفة. وربما هي المرة الأولى التي تحظى فيها قرية باربار بالتعرف على هذه الآلة السحرية. سحارة الاسطوانة والغرامفون... وذلك بفضل أولاد مطر.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5183 - الإثنين 14 نوفمبر 2016م الموافق 14 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:12 ص

      نعم هم أبناء مطر المعروفين باخلاقهم وطيبىة معاملتهم وكرمهم الى هذا اليوم وهم لازالو قريبين من جميع أوساط المجتمع ومحبين للكل .

    • زائر 2 | 12:01 ص

      "أنها تسمى (الكشتة)، هو ذلك الصندوق الذي يشبه «السحّارة»" !!
      أول مرة أسمع هذا المصطلح "الكشتة" !! المتعارف عليه "مشتخته" أو " بشتخته" !!
      على العموم ذكريات جميلة وسرد أجمل ،، مع تحياتي

    • زائر 5 زائر 2 | 4:51 ص

      الكشتة يقصد بها النزهة أي الخروج إلى هذه المزرعة و يسمى المتنزهون بالكشاتة و لم يكن يقصد بها البشتختة التي هي لغرامافون

    • زائر 1 | 10:33 م

      جميل جدا .. ننتظر مزيد من قصص الذكريات المشوقة .. تحياتي: نهى

    • زائر 6 زائر 1 | 9:33 ص

      ذكريات عزيزة من زمن عزيز شكرا استاذ احمد على هذا السرد الممتع وياريت استاذ تجمع هذه ذكريات الكشته وغيرها من ذكريات فرية باربار الحبيب في كتاب

اقرأ ايضاً