العدد 5196 - الأحد 27 نوفمبر 2016م الموافق 27 صفر 1438هـ

قصة قصيرة... وكانت القاضية

أحمد بديع - قاص بحريني 

تحديث: 12 مايو 2017

تغادر كل حروفه دفاتره، أما نقاطها فأصبح مكانها أثراً بعد عين، كل أوراقه تفحّمت مع جسده ومعلمتَه، بعد أن كتب عليها آخر كلمتين - حنان وحب - فأصبحت بعد ذلك قاعاً صفصفاً.

من بين الثرى ظهر قلمها ومناديله، احتضنته في آخر لحظات الدرس، وآنست من جانبه براءة خاشعة ودّت لو كانت تطول أكثر.

يجلس على قارعة الطريق عارضاً مناديله للبيع بعد أن تكفلت قذيفة بنسف منزله بمن فيه ولم يكن موجوداً قتذاك، فقد أمه وأباه وكل ذكرياته حتى دراجته الصغيرة أطلّت عليه من بين الأنقاض مودعة له وهو يغازلها برمشين هزيلين حزينين، فقرر بعدها أن يهجر كل شيء حتى درسه، ويبيع المناديل استرزاقاً لحياته وتقويماً لعُودِه.

تمضي أيامه وهو يستذكر أمه وهي تحتضنه كلما سمع دوي مقذوفة فكان يشعر بالدفء والأمان، أو كلما دوّى صوت انفجار قال أبوه احذر فإن كل القاذفات تتشوق للصغار لتظفر بهم.

الغبار يحتضن كل العلب فما تفتأ توحي للناظر إليها بعدم صلاحيتها، وفي نهاية النهار يختبأ معها فيما تبقى من منزله حتى لا يكون في خبر كان أو تحت رحمة الشياطين.

تمر كل يوم بجانبه امرأة أثناء غدوّها لجامعتها وتلقي ابتسامة تبرد كل حناياه، يبادلها بابتسامة أكبر مبدياً أسنانه الصفراء وملوحاً بيديه، ولم يعلم أنها ستكون معلمته في القريب العاجل.

كثير الوقت لم يمضِ حتى قصفت جامعتها وتعطلت؛ فرصتها أن تتفرغ لتدريس بائع المناديل الصغير، فكل يوم تأتي وتقعد بجانبه على قارعة الطريق، تجلب له قطع حلوى، يلوكها؛ فتصب في جسده حلاوة بحجم الدنيا وما فيها.

تبدأ درسها بتمرير أصابع كفها على رأسه وتثنّيه بخديه، وتقول له بأن كل قادم لابد أن يغادر، ومن يصنع الجمال لابد أن يحتضر، لا يفهم كثيراً مما تقول، يعلم فقط أن يدها تذكّره بعطف أمه، من هنا حمل نونه وقلمه بعد أن ملّته علب المناديل.

الدرس في اليوم الأخير في حرف الحاء، طلبت منه أن يكتب بعض الكلمات تبدأ بحرف الحاء، فكتب ووجهه مكفهر.

حرب... حريق...

ثم تهلل وجهه، وكتب...

حلم... حرية... حنان... حب

ولم يكد يفرغ من آخر كلمة كتبها وعند حرف الباء، دوّى صوت صاروخ بالقرب منهما وتناثرت شظاياه في جسديهما فكانت القاضية.

انتبهت بعد أن كانت غارقة في كتابة أحداث هذه القصة بعد أن مرت بجانب رجليها قطتها الصغيرة ماسحة بفروة شعرها الناعم جسدها، فاقشعرت روحها، وقالت: لابد أن أنهي كتابة هذه القصة المؤلمة، ولابد أن أضع نهاية للخراب القاسي وأضفي عليها مسحة جمال تتآلف فيه أرواح الإنسانية جميعاً.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً