العدد 5205 - الثلثاء 06 ديسمبر 2016م الموافق 06 ربيع الاول 1438هـ

تأمُّل ماهية الشعر... راهن اليوتوبيا في أزمنة مُلتبسة ونصوص بعضها مُلفت

«مدائن ما بعد الكارثة» لأحمد رضي...

أحمد رضي
أحمد رضي

التأمُّل في ماهية الشعر يكاد يكون من أكثر التأمُّلات إرهاقاً للمتصدِّي له، أو بعبارة أدق، للذي يجد نفسه في فضائه المفتوح. الأمر لا يتعلَّق بتعريف يضاف إلى حزمة من التعريفات التي لا تتجاوز كونها قبضاً على اللحظة التي يمكن لشاعر أن يرى تجلِّيات تعاطيه مع هذا الفن المُرهِق واللذيذ في الوقت نفسه.

يأتي صوت الشاعر أحمد رضي، في مجموعته «مدائن ما بعد الكارثة»، الصادر عن دار فراديس العام 2016، ليضعنا أمام رؤية للنص عموماً، إذا ما حدَّدنا وجهاً من وجوهه في الشعر، وتكون لتلك الرؤية السبق في ترتيب بعض نتاجها وملامحها. الموضوعات متداخلة... المفاهيم... القضايا. لا يتم حسمها، ولا التقعيد لها، بقدر ما هي إثارة لأسئلة ترتبط بها. الشواهد لا تتحدَّد هنا. تذهب في عموميات لكنها تستحق التناول.

المدخل تتبعه نصوص تراوحت بين تجارب تبدو جديدة، وأخرى - على الأقل بالنسبة لي - بدت إتماماً لنصوص لمَّا تكتمل، ربما في مجموعاته السابقة، وربما تكون هنا. لا تذهب هذه الكتابة إلى نظر نقدي بقدر ما تذهب إلى حاسة وذائقة خاصتين، مسألة أن تكون صائبة أو خلاف ذلك تظل قائمة، ما دامت ضمن تلك الحدود.

لنُسمِّ «مدن المستقبل: حديث السعادة»، «مدخلاً» إلى الحديث عمَّا التبس ودُبِّر من شعر، يقود إلى إثارة موضوعات من قبيل: المثاليات، الاستهلاك، صنع الكوارث وتعهُّدها، الرأسمالية المتوحشة، وتلك المخاتلة، الكوارث الطبيعية، انعدام «المستقبل» في الأعمال الفنية العربية، فلسفة التنوير، التنبؤات، تدفق المعلومات من دون رابط يعمل على صوغ الوعي، شبكة المعلومات، جمهورية الشعراء، الماركسية تحضر في تلك الانتقالات. تبدو موضوعات تماماً كالجُزُر، تنتمي إلى بيئة واحدة تحيط بها (البحر)، ولكنها مقطوعة الأرحام والأوصال، ربما عبْر جسر يتم وصلها، أو هبوط من السماء، فلا أحد يقطع البحر عوماً لبلوغ جزيرة! كل تلك الموضوعات - ضمن حزمة - والتي حملت عنوان «مدن المستقبل: حديث السعادة»، تتوخَّى أولاً وأخيراً تحقيق تأملات مُقنعة لرضي - ربما من خلال تدافع عدد من التساؤلات - تظل في نهاية المطاف مرتبطة بالشعر، وإعادة صوغ الحياة/ العالم، في شكل أو آخر، في مُؤدَّى أو آخر.

الخروج على الوصفات

أن ترتِّب تلك الرؤية... أن تتقصَّاها... أن تنشغل بما سبق من تأملات، فلن تكون سوى صدى لأصوات من سبق. أن تترك نظرك مشغولاً بما بعد الحدود؛ حيث لا نهايات تتوقف عندها، يمكن حينئذ أن تُوجد نظرك إلى الشعر باعتباره الصيغة المتحوِّلة والمتحرِّكة لاستيعاب ما ومن حولك، لا فهْمَه. الفهم ليس هو المسألة هنا. وليس من وظيفة الشعر أن يتيح لك صيغة أو صيَغ فهم، لأنه ببساطة: ليس تركيبة أو مقادير تتيح لك الوقوف على سرِّه ولغزه. لن يكون شعراً ما لم يخرج على الوصفات.

أحياناً تذكِّرنا النصوص المترهِّلة بالفاكهة المكشوفة. بعضها يذكِّرك بموطنها وفضائها الطبيعي. تلك ربما تكون صيغة أخرى للانطلاق في التعامل مع التأملات المرتبطة بالشعر، من خارج أشكاله، ومن داخل وعمق مضامينه.

لا ينشغل رضي في نظره بماهية الشعر، بقدر ما ينشغل بما يُقدَّم لنا اليوم باعتباره شعراً. كثير من الشعر هو في وضعية «التسلل» إذا ما استعرنا ذلك البند في ضبط اللهو المرتبط بكرة القدم، والتسلل هنا في أردأ درجاته. حتى وهو يقرُّ بأن «الشعر بحث في جوهر الحياة»، إلا أنه، وهو يقدِّم نموذجه من القصيدة الحديثة، يرى أكثرها «أشبه بإعلانات تجارية» تتوغل في حال من التقديس «لأنماط الاستهلاك البرجوازي» «وتعتبر التفاهة قيمة إنسانية (...)».

لا يوجد إنسان، يكرِّس حياته للهروب من المثالية، والشاعر خصوصاً هو في دوره ينشدها، ويعمل على تحققها، ليس بالضرورة أن يعلن ذلك، يصاب بها وسط النقيض منها، وأبسطه «التفاهة». وكلما أمعنت تلك التفاهة، كلما استحوذت اليوتوبيا على أكبر من المدارك، وإن عبَّر محيطها، والظروف المحيطة، عن عجز كلي يكاد يمتدُّ إلى الصورة شبه الكاملة من تفاصيل الحياة.

«كل شاعر لابد له من لوثة يوتوبيا. الحلم بفردوس أرضي أو الحلم بالتغيير الشامل. وتبدأ المشكلة حين يتحول هذا الحلم إلى أداة حزبية بيروقراطية، أو أن تتحول أغاني الشاعر إلى أناشيد في طريق الدم».

رضي الذي سبق وأن أصدر «طعم شفاهك» 2006م و»تراتيل الخلاص» 2008م و «نابذاً إلياذة الشطرنج» 2010م، يقدِّم مقارباته الخاصة انطلاقاً من تجربته هو - بالنظر إليها من الداخل - بمعنى أن مجموعة كبيرة من الأفكار لا تقدِّم أحكامها من خارج النص - نص الآخر - بقدر ما تقدِّمه من داخل النص... التجربة نفسها، وهي بذلك كأنها تقدِّم مساءلات واستنطاقات لتجربة ذاتية، وإن بدت ملتقطة لعلاقات النص انطلاقاً من ذوات وأمكنة وفضاءات أخرى.

في اختبار الأفكار

حين يكتب الشاعر عن تجربته يكون في كثير من الأحيان، يكتب عن تجربة الآخر في نظره، وحين يكتب عن تجربة الآخر، إنما يختبر جانباً من تجربته وأفكاره تلك انطلاقاً من ذاته وتجربته، في شكل من الأشكال، سواء استطعنا الإمساك بتلك المناورة، أم كانت عصية علينا، لكنها هناك، وتتبدَّى في أكثر من تجلٍّ.

أما المستقبل الذي يراه رضي مُنعدماً كثيمة في الأعمال الفنية العربية، أو حتى من حيث تصوره، فلا أرى وجود تلك الثيمة في النصوص من عدمها يمكن أن يعصف بالوضع - تغييراً - أو جموداً. ثمة نصوص لا تنشغل بتوظيف مثل تلك الثيمة، من حيث مباشرتها، أو حضور ما يدل عليها، لكن يكفي أن المشاريع والأشكال الحريصة على المضامين العميقة، إنما تذهب عميقاً في مستقبل الكتابة، بمزيد من الرؤيا، ومزيد من النبوءة، ومزيد من مدِّ الشعر بطاقة - على أقل تقدير - الإدِّعاء بتوجيه الحياة المنغمسة في تيه لا طائل من ورائه.

«يكاد ينعدم في الأعمال الفنية العربية تناول ثيمة المستقبل أو تصوُّره، وكانت القصائد آخر قلعة فنية تتمسك بحلم التغيير الجذري». وقد سقطت أيضاً ما تسمَّى قصيدة اللحظة أو اليوميات التي عادة ما تميل لتقديس أنماط الاستهلاك البرجوازي (...)».

هو يرى أن «الكارثة بدأت الآن وقد تتضخَّم مستقبلاً، بحيث لن يكون هناك مستقبل بعد ذلك. نراها في الإرهاب، والأسلحة النووية، والاضطرابات السياسية المتتالية، والتلوث البيئي والتغيُّر المناخي، ويبدو أن هذه المخاطر التي تهدِّد الكوكب بأسره ليست مجر عوارض، ولكنها تعبِّر عن خلل بنيوي في النظام»؟

لكن، ثمة من يرى أن الكارثة لم تبدأ بعد. ثمة من يرى أن ما يحدث هو بمثابة اختبار للياقة التي يتوجَّب عليها أن تسفر عن كل مواهبها، ولكن هذه المرة باتجاه الذهاب بالعالم إلى عدم لا رجعة فيه. عدم يعيد الاعتبار لنفسه وعلى المدى النهائي، وربما المؤبَّد.

كان يمكن أن تكون كتابة «مدن المستقبل: حديث السعادة»، مدخلاً لمشروع أكثر تعميقاً ومنهجية، بدل تركه يتصدَّر نصوص «مدائن ما بعد الكارثة»، ويتم المرور خطْفاً على مفاهيم وإشكالات وقيَم ترتبط بالكتابة والحياة عموماً.

بالنسبة إلى النصوص لا أبدي رأياً نقدياً هنا، كما أشرت سابقاً، بقدر ما أبدي انطباعاً يتحدَّد في أنني لم أكن مُنسجماً مع معظمها باستثناء النصين اللذين أنشرهما هنا كـ «كادر» مفتوح على الكتابة أعلاه. وليس بالضرورة أن تفهم لماذا لا تكون منسجماً مع نص، هي هكذا كـ «قرون استشعار» تبرز، وهي تُملي عليك موطن ما تنسجم معه وما تشعر بالوحشة في ظله. هل تجاوزت «مدائن ما بعد الكارثة»، «تراتيل الخلاص» و «نابذاً إلياذة الشطرنج»؟ في فضاءات منها ربما وليس كلها؛ ولهذا جاء الانهماك بكتابة «مدن المستقبل: حديث السعادة»، أكثر من الانهماك في الوقوف على الجماليات التي وسمت بعض النصوص. وفيما يتعلق بالنصين المنشورين في الكادر أدناه، تبرز جوانب من تلك الجمالية، والأناقة التي وقفت عليها سابقاً في عدد من النصوص التي انحاز فيها رضي إلى «التفعيلة»؛ حيث اللغة موَّارة، والصور في انهمار، وحيث يُحْكِم السيطرة على العوالم التي تترى في النص.

إيثاكا *

«أنا راجع حتْماً، فيا إيثاكة انتظري

فمراكبي ملأى بأخشاب البخور

وبالمحار وبالبهار

راجع - وبنشوة الهلع الخفيف

سأطعن الغيب المعلَّق كالقِراب على مهب

الكائنات، وليندلق خمر الأساطير العتيقة

في بلاط الآلهات وبهوهنَّ

ستعرفيني يا مدينة - جرحاً تزخرف بالنشيد

وقبلة رقطاء من هول الفجاءة والحنين - ستعرفيني،

راجع - لأعيد تنضيد العواصم وفق مشيئة الغيمات، كل هنيهة...

هي نشأة أولى

وطين ماثل للممكنات،

لأسرجنَّ الأرصفة:

لا أختام إلا ما يسرُّ به اللهيب إلى الفراغ

لا قُدَّاس غير مواكب الأعراس ولتكن الصلاة الكرنفالَ

لا أبجدية غير صمت الحقل

أو حمَّى الدماء إذا الغناء...

لأسرجنَّ الجسر:

فلتدْنُ الحقيقة من وصيفات الجَمال

فيا جهابذة الطريق! دعوا الخرائط والتطيُّر

ثم كونوا مثلما الأفعى تحكُّ بجلْدها

رمل الطريق لتدرك السرَّ

- وما السرُّ المخبَّئ في المسافة بين ثقبين -

أجبْ يا نهر مثل فراشة عبرت على رمحين منطلقين

ليغرسا في جثتين

فليأتِ اللهاث الحُرُّ،

فليأتِ، تلك مدينتي

وأنا الغريب وليس لي في العالمين

غريب».

مدائن ما بعد الكارثة

سألتهم عن سرِّ الكارثة، عن إنساننا الذي كنت وكانوه، فألقوا في قلبي كلمات كالأحجية، كلمات كأني في العمى الأول قد لمسْتها... تتماوج في ماء الرحم المالح.

«عندما تُفتقد السعادة، تستعد الكارثة للعرس».

«أن تشعر بالذنب، أن تسقي وردة الكراهية».

«لم يسألوا الشجر (ما اسمكِ) بل منحوها اسماً».

«انحراف بسيط في عجلات القطار».

«بوصلة لا تشير إلى الجَمال».

«الرجل الذي يمسك مهماز الوقت وآلام البطن».

«من يرى الفراشة ويقول: يا له من استثمار جميل».

«كان هناك أحمق لا يعرف كيف يضع الضمائر في جملة مفيدة. مثلاً... يضع (أنا) مكان (هم) ولك أن تتخيَّل طرائفه العجيبة».

قوانين

كمثل نورس بودلير

المهيب في الأعالي

والذي يبدو مضحكاً بمشيته الثقيلة في السفينة

وسط هرج البحَّارة وسخريتهم

مثله أبدو، وربما أكثر

كمن تذكَّر أنه إله

وجد نفسه على الأرض بغتة، بلحم آدمي

بعيون ترمش دون توقُّف

بهواء ينفخ رئتيه الخائفتين

بجلد رقيق يواجه به المحيط المرعب

خاضعاً لقوانين من ابتكاره

فلم يجد غير الصليب ليكفِّر عن نفسه

هكذا أبدو، وربما أقل...

أعترف أن الطين شهيٌّ، لكنما

بي مثلما الورد المكبَّل بالتراب

تمسُّه روح فيطوي غصنه، جهة الأغاني في تلال الحلم

فإن كنت - كما أتذكَّر - إلهاً

فمن ابتكر الأغاني؟

  • جزيرة في كيفالونيا في اليونان، وهي الموطن الأسطوري لأوليس، ملكها الأسطوري، وأحد قادة حرب طروادة، وصاحب فكرة الحصان الذي بواسطته انهزم الطرواديون.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً