العدد 5208 - الجمعة 09 ديسمبر 2016م الموافق 09 ربيع الاول 1438هـ

المناخ... سقطت نظرية المؤامرة

نجيب صعب comments [at] alwasatnews.com

ناشر ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

كان الانطباع السائد قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية أن فوز دونالد ترامب سيعني سقوط اتفاق باريس المناخي. النتيجة كانت عكس ذلك تماماً. ففوز ترامب في الانتخابات، التي حصلت في الأيام الأولى لقمة المناخ في مراكش، دفعت القادة المشاركين إلى إصرار إجماعي غير مسبوق على الالتزام بتطبيق الاتفاق.

لقد وجه العالم رسالة صريحة إلى ترامب أنه سيبقى وحيداً إذا أصرّ على مواقفه السابقة. وإذا كان مازال يأمل بتأييد من الدول المصدرة للنفط، فقد جاءت مواقف الدول النفطية واضحة بتأييدها الاتفاق، وبينها جميع الدول العربية الأعضاء في منظمة «أوبك». والذين كانوا يراهنون على موقف سعودي معارض، أصيبوا بخيبة أمل، إذ صادقت السعودية على الاتفاق قبل أيام من دخوله حيّز التنفيذ، وأعلن وزير الطاقة خالد الفالح في قمة مراكش «التزام السعودية الراسخ بدورها في مواجهة قضية تغير المناخ... والتحول التدريجي إلى مستقبل أكثر استدامة».

حتى لو أراد ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس، فهذا لا يمكن أن يحصل قبل 4 سنوات، وفق بنود الاتفاقية الدولية. ولكن ترامب نفسه بدأ يمهّد للتراجع عن تعهده بالانسحاب، بعدما لمس المعارضة الكبيرة، ليس من بقية العالم فقط، بل داخل الولايات المتحدة نفسها. فالذي ينكر تغيّر المناخ اليوم هو تماماً كمن ينكر مضار التدخين. فهناك إجماع علمي على أن المناخ يتغير بفعل النشاط البشري، وخاصة انبعاثات الكربون من حرق الوقود. ولا تبرر أي دوافع اقتصادية ما وعد به ترامب، من رفع القيود عن استخدام الفحم الحجري أو تدمير الطبيعة، أو منح إذن غير مشروط بحفر الآبار ومد الأنابيب في منطقة القطب الشمالي.

50 دولة بين الأكثر تعرضاً لتأثيرات تغير المناخ، معظمها جزر صغرى مهددة بالغرق مع ارتفاع مستويات البحار، اتفقت في قمة مراكش على التحول إلى الطاقة المتجددة بنسبة 100 في المئة مع حلول سنة 2050. وكان اجماع في مراكش على ضرورة العمل لحصر ارتفاع معدل الحرارة ضمن درجة ونصف درجة بدلاً من درجتين مئويتين، كحد أقصى مقبول علمياً لمواجهة الكوارث.

لم يكن التوصل إلى اتفاق باريس المناخي ممكناً قبل التوافق بين الولايات المتحدة والصين. فالصين، التي كانت تختبئ وراء الدول النامية في مجموعة الـ77 لتبرير رفضها التقيد بأرقام ملزمة لخفض الانبعاثات، وجدت في الالتزام فرصة تجارية. فهي استخدمت الفترة التي عرقلت خلالها الاتفاق على مدى سنوات لتطوير تكنولوجيات الطاقة المتجددة. وعندما أصبحت أكبر منتج في العالم لألواح الكهرباء الشمسية المتطورة، وقعت على اتفاق الحد من الانبعاثات، الذي يفتح أسواقاً غير محدودة لمنتجاتها. كما دخلت الشركات الأميركية في عهد أوباما سباق الطاقة النظيفة والمتجددة، وأصبحت لاعباً كبيراً على مستوى العالم. إذاً، ما يراه ترامب خسارة للقدرة التنافسية الأميركية، وجد فيه الآخرون، في الولايات المتحدة والصين، فرصة تجارية تتناغم مع الحقائق العلمية.

اللافت أن ترامب يعتبر القيود على الانبعاثات التي تفرضها اتفاقية المناخ «مؤامرة» صينية ضد التنافسية الأميركية. وهذا مشابه لنظريات المؤامرة التي كانت رائجة بين بعض العرب، الذين اعتبروا «تغيّر المناخ» مؤامرة عالمية ضد الدول النفطية. لكن يبدو أن ترامب سيبقى وحده هذه المرة.

في حين لن تؤثر سياسات ترامب على الاجماع العالمي حول اتفاقية تغير المناخ، إلا أن خطرها الأكبر قد يقع على الولايات المتحدة نفسها. فإذا وفى ترامب ببعض وعوده في تخفيف الدعم الموجه إلى البحث والتطوير والصناعات في مجال الطاقة المتجددة، سيؤدي هذا إلى ضرب القدرة التنافسية الأميركية في هذا المجال. والنتيجة الحتمية ستكون تفوّق الصين 4 سنوات إضافية في الطاقة المتجددة، بحثاً وتطويراً وصناعة. لكن أي قرارات يتخذها ترامب على المستوى الفدرالي لن تؤثر في السياسات المحلية للولايات، مثل كاليفورنيا، التي تطبق بعض أكثر سياسات تخفيض الانبعاثات تشدداً في العالم. وحجم اقتصاد كاليفورنيا وحدها هو السادس في العالم، ويتجاوز فرنسا والبرازيل. لكن الأثر الأكبر لسياسات ترامب قد يكون على المستوى الدولي، في محاولته خفض مساهمة الولايات المتحدة في صندوق المناخ، المخصص لمساعدة الدول النامية في تخفيض انبعاثاتها والتكيف مع آثار تغير المناخ.

على جميع الدول أن تكون جاهزة للتعايش مع تدابير الحد من تغيّر المناخ ومواجهة آثاره. فامكانية التخفيف من القيود على انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تتساوى مع إمكانية تخفيف القيود عن تدخين التبغ، والتطور الوحيد الممكن هو أن تزداد لا أن تنقص.

حسناً فعلت الدول المنتجة للنفط في التوجه نحو تنويع اقتصاداتها، ليس فقط لمواجهة تقلبات أسعار النفط، بل أيضاً استعداداً لمستقبل يخف فيه الاعتماد على النفط. وهذا يتضمن تدابير لوقف الهدر في الموارد الطبيعية، خاصة المياه والوقود والكهرباء، ما يتطلب الخفض التدريجي لدعم الأسعار، الذي يشجع على التبذير. معظم دول المنطقة بدأت خطوات جدية في هذا المجال، كما في «رؤية 2030» السعودية. لكن بعضها أدى إلى معارضة شعبية وصلت إلى اسقاط الحكومة، كما حصل في الكويت. وكان من شأن اعتماد هذه التدابير تدريجياً منذ سنوات تأمين تحوّل سلس.

المهمة الضرورية العاجلة هي التحول من اقتصاد يقوم على بيع المواد الخام والمضاربات المالية والعقارية، إلى اقتصاد متنوع يعتمد على الإنتاج. لكنها مهمة شاقة، وعلى الجميع المساهمة في انجاحها، حفاظاً على حق الأجيال المقبلة في حياة مستقرة.

إقرأ أيضا لـ "نجيب صعب"

العدد 5208 - الجمعة 09 ديسمبر 2016م الموافق 09 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً