العدد 5211 - الإثنين 12 ديسمبر 2016م الموافق 12 ربيع الاول 1438هـ

هوامش على «الهوية الوطنية»

رضي السماك

كاتب بحريني

استطراداً للعرض الذي قدمناه في المقال السابق لكتاب الباحث الاستراتيجي محمد نعمان جلال «الهوية المصرية في عالم متغير»، حيث أكدنا أن مجمل الهويات الوطنية العربية، لا الهوية المصرية فحسب، مرت وتمر بأزمة تشويشية ضبابية تحت تأثير جملة من العوامل والمتغيرات الداخلية والخارجية المتشابكة، فإن الأزمة ليست وليدة اليوم، بل يمكننا أن نميّز بين مرحلتين تاريخيتين مرت بهما، فترة الاستعمار والاستقلال.

فترة هيمنة الاستعمارين الانجليزي والفرنسي، جرى خلالها بث النعرات المذهبية والطائفية بين فئات الشعب الواحد في إطار سياسة «فرّق تسد»، بل أن الثاني وصل به الأمر إلى محاولة سافرة لطمس هُوية وثقافة بلدان المغرب العربي، وعلى الأخص الجزائر، لكن مساعي كلا الاستعمارين مُنيت بالفشل، إذ كان جثوم المستعمِر على أراضي البلدان العربية ومحاولته استرقاق شعوبها، بالتحكم في مقدراتها ومصائرها وحرياتها سياسياً في حد ذاته باعثاً على توحد نضالاتها ضده، بكل فئاتها ومكونات نسيجها الوطني المتعددة.

الفترة الثانية وهي الأخطر، فقد بدأت بعد تحرر البلدان العربية ونيلها استقلالاتها؛ لكن طفت على السطح الفتن النائمة على نطاق محدود في بادئ الأمر؛ لكنها سرعان ما أخذت تتزايد تدريجياً بعد انكسار المشروع القومي في أعقاب هزيمة 1967، حيث برزت النعرات الطائفية والمذهبية التي غذتها السلطة العربية، وقوى عظمى كبرى حتى بلغت ذروتها المأساوية على نحو ما نشهد الآن فصولها الكارثية الدامية بكل معنى الكلمة، من حروب إقليمية وأهلية، وبروز لجماعات متطرفة وإرهابية. وعلى رغم خصوصية هذا الاهتزاز الضبابي الطارئ للهوية الوطنية، في كل بلد عربي على حدة، إلا أن مسببات هذا الاضطراب تكاد تكون واحدة أو شديدة التشابه.

ولو أخذنا على سبيل المثال مصر نفسها نموذجاً وليس حصراً، فإن بدايات خلق التشويش في هويتها الوطنية عبر خلخلة تماسك الوحدة الوطنية، إنما جرت منذ بدايات القرن الآفل إبان المشاحنات الطائفية خلال الفترة (1908 - 1911) وقت الاحتلال الانجليزي الذي كان له دور في تغذيتها، وإن بلغت الأزمة ذروتها المأساوية في وقتنا الحاضر، ففي كتاب «الطائفية إلى أين؟»، دار المصري الحديث، يتناول فرج فودة (اُغتيل على يد الجماعة الاسلامية العام 1992) بعض مسببات الأزمة الطائفية، فيما يعتبره تمييزاً داخل الدوائر الحكومية: «لو سألت قبطياً في مصر عن همه الطائفي، لكانت إجابته السريعة المباشرة التعصب الطائفي، ولو سألت عشرات الآلاف من المهاجرين الأقباط عن سبب هجرتهم، لأجابوك نفس الإجابة، ولو أعدت السؤال طالباً مثالاً على ذلك، لأحالوك إلى مناصب الدولة العليا، ومناصب الإدارة العليا في كل القطاعات، ولذكروا لك أنه قد أصبح عرفاً، أو كاد أن يصبح أن لا يتولى الأقباط كراسي وزارية في الوزارات المهمة، مثل الخارجية أو الداخلية أو الخزانة أو الزراعة أو الصناعة، وأنه نادراً ما يُعيّن أحد منهم في مناصب المحافظين أو رؤساء المدن أو مأموري المراكز، أو رؤساء مجالس الإدارات، وستتكرر نفس الشكوى بالنسبة للرتب العليا في القوات المسلحة أو الشرطة». ويشير فودة أيضاً إلى أن المؤتمر القبطي العام 1911 كان تعبيراً عن هذا الشعور بالغُبن منذ ذلك الوقت.

ومع ذلك فقد شاركت كلتا الطائفتين وقياداتهما الوطنية في ثورة 1919 ضد المستعمِر البريطاني الأجنبي، ورفع خلالها شعارات مثل وحدة الهلال مع الصليب و»الدين لله والوطن للجميع»، ووقف القمص سرجيوس على منبر الأزهر متحدياً الاحتلال «إذا كان الانجليز قد أتوا إلى مصر كي يحموا الأقباط، فليمت الأقباط ولتحيا مصر حرة»، كما شاركت كلتا الطائفتين في كل الانتفاضات الوطنية الشعبية اللاحقة وصولاً إلى ثورة يوليو 1952.

لكن في أعقاب هزيمة يونيو 1967 ورحيل عبد الناصر، ثم ارتداد خلفه السادات عن مبادئ الثورة، وتحالفه مع «جماعة الأخوان المسلمين» لضرب اليسار والناصريين مما أدى إلى تقوية شوكتها، وبروز جماعات جديدة متشددة تتبنى العمل الإرهابي خرجت من عباءتها، فإن ذلك كله أفضى إلى تنامي التعصب الطائفي على نحو مريع غير مسبوق، كان ضحاياه بالدرجة الأولى الأقباط من قتل وحرق كنائس واعتداء على ممتلكاتهم. وعلى رغم مشاركة الشباب القُبطي في ثورة يناير 2011 وحمايتهم لأشقائهم الشباب المسلم أثناء تأديتهم صلواتهم في ميدان التحرير، فقد اٰستؤنفت الاعتداءات عليهم على نحو أشد بعد الثورة إثر إسقاط حكم الرئيس (الإخواني) محمد مرسي العام 2013، ومازالت تقع بين الفينة والأخرى مثل تلك الاعتداءات الإرهابية لزعزعة التآلف بين الطائفتين وإضعاف الوحدة الوطنية. وكما ذكرنا فإن النموذج المصري ليس سوى مثال من نماذج عربية تمر هوياتها الوطنية بمثل تلك الحالة الضبابية.

والحال فإن إعادة الاعتبار نظرياً وعملياً للهويات العربية ببعديها الوطني والقومي، تُعد بمثابة التمسك بالعروة الوثقى في تحصين أوطاننا وشعوبنا من الاختراق من الداخل، على أيدي القوى التي تقتات وتتاجر على تمزق شعوبها ولا يسعدها توحدها، ومن الخارج على يد الرأسمالية المعولمة المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة .

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5211 - الإثنين 12 ديسمبر 2016م الموافق 12 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً