العدد 5213 - الأربعاء 14 ديسمبر 2016م الموافق 14 ربيع الاول 1438هـ

كوبريك... المخرج السينمائي في حديث تداخلت فيه الفلسفة

ستانلي كوبريك
ستانلي كوبريك

الحوار المنشور هنا، والذي أجراه إريك نوردين في العام 1968 مع المخرج والمنتج والمصور السينمائي والمحرر الأميركي ستانلي كوبريك (وُلد في 26 يوليو/ تموز 1928، وتوفي في 7 مارس/ آذار 1999)، وتولَّى ترجمته الكاتب البحريني هشام عقيل صالح، هو جزء مقتطع من حوار مطوّل، يقدِّم فيه كوبريك رؤيته إلى الحياة والموت، وطبيعة الأنظمة، وحديث عقلاني عن النظام البديل الذي يمكنه أن يضبط إيقاع الحياة بشكل يظل ضرره أقل من نفعه. حوار فلسفي، لمخرج مهم وعميق، ربما يمكن الوقوف على رؤيته تلك من خلال بعض أفلامه التي تتميز بـ «التصوير السينمائي الفريد والانتباه إلى التفاصيل».

من بين أهم الأفلام التي أخرجها: «القتل» (1956) «لوليتا» (1962)، «دكتور سترينجلوف» (1964)، «2001: أوديسة الفضاء» (1968)، «البرتقالة الآلية» (1971)، «اللمعان» (1980)، «عيون مغلقة باتساع» (1999). هنا الترجمة التي أنجزها هشام عقيل صالح.


ضمن حوار أجراه نوردين العام 1968...
ستانلي كوبريك: الوثبة الكبرى إلى الفراغ

المنامة - هشام عقيل صالح
 من دون وضع لافتات فلسفية للمشاهد، هل يمكنك أن تعطينا تفسيرك الخاص لمعنى فيلم «2001: أوديسة الفضاء»؟
- لا يمكنني ذلك. للأسباب التي ذكرتها مسبقاً. إلى أي مدى سيكون بمقدورنا تقدير لوحة الـ (موناليزا)، على سبيل المثال، لو كتبَ ليوناردو تحتها: هذه المرأة تبتسم ابتسامة خفيفة لأنها تخشى بروز أسنانها المسوَّسة، أو: لأنها تُخفي شيئاً عن حبيبها؟ هذا سيُلغي تقدير المشاهد بتقييده بـ «واقع» يختلف عن واقعهِ الشخصي. أنا لا أريد أن يحدث ذلك لفيلم (2001).
[ هل يتوافق رأيك - إذا كان بإمكاننا العودة إلى التفسير الفلسفي لفيلم (2001) - مع النقاد الذين يدَّعون أن الفيلم هو أساساً فيلم ديني؟
- عليَّ أن أقول إن مفهوم الله هو جوهري بالنسبة إلى فيلم (2001) - لكن ليس بطريقة التصوير التقليدي والتجسيدي لله. أنا لا أؤمن بالأديان التوحيدية الدنيوية، لكنني أؤمن أن للمرء القدرة على أن يبني تعريفاً علمياً مثيراً للاهتمام حول الله، في اللحظة التي نقبل حقيقة أن مجرَّتنا وحدها تحتوي على نحو مئة مليار نجم. كل نجم من تلك النجوم هي شمس موِّلدة للحياة، وفوق ذلك توجد مئة مليار مجرة في ما هو مرئي من الكون فقط. في وسط كل ذلك قد يكون هناك كوكبٌ يدور بشكل ثابت، إنه ليس حاراً ولا بارداً، ويمر عبر مليارات من السنين بتفاعلات كيميائية صدفية بفعل تفاعل طاقة الشمس مع كيميائيات هذا الكوكب، بذلك سيكون مقنعاً لو قلنا إن هناك شكلاً من أشكال الحياة ستولد فيه. ومن المنطقي الافتراض أن هذا قد حدث فعلاً في مليارات لانهائية من كواكب كتلك، حيث يوجد فيها نوع من الحياة البيولوجية، واحتمالات أن جزءاً من هذه الحياة وجدت لنفسها ذكاء متطوراً ليست قليلة. الآن، الشمس هي ليست بأية حال نجماً كهلاً وكواكبها صغيرة السن كوزمولوجياً، بذلك يبدو أن الفضاء الفسيح يحتوي على مليارات من الكواكب التي هي ليست أقل ذكاء من الإنسان، بل أيضاً مليارات أخرى لها نسبة ذكاء متساوية أو متقدمة علينا بآلاف الملايين من السنين.
حين تفكّر في الخطوات التكنولوجية الهائلة التي قام بها الإنسان منذ آلاف السنين - التي هي أقل من ميكروثانية بالنسبة إلى كرونولوجيا الكون كله - هل يمكنك تخيّل المراحل التطورية التي مرّت بها أشكال الحياة السابقة؟ فإنها قد تبدأ بالتطور من كائنات بيولوجية، التي هي القشرة الهشة للعقل حتى في أعلى مستوياته، إلى كائنات آلية أبدية - وثم، عبر دهور غير معدودة، قد تتطور من شرنقة المادة لتتحول إلى كائنات مكوّنة من طاقة محضة. ستكون إمكاناتها لامحدودة، وذكاؤها لن يفهم من قِبل البشر.
[ هل تشارك رأي بعض علماء النفس الذين يدّعون أن اعتمادنا المستمر على توازن القوة النوويّة، مع كل مخاطرها الحاضرة لمأساة عالميّة، قد يؤدي إلى نوع من رغبة جماعيّة في الموت؟
- لا. لكنني أعتقد أن الخوف من الموت قد يساعدنا على فهم لماذا يقبل الناس بهذا السيف الديموقليسي على رؤوسهم بهذا الشكل المهادن. الإنسان هو الكائن الوحيد المدرك لموته، وفي الوقت نفسه هو غير قادر بشكل عام على التعامل مع هذا الإدراك ودلالاته.
يواجه الملايين من الناس، بطريقة أو أخرى، المخاوف العاطفية، والتوتر، ومشاكل لا حل لها تتشكل في هيئة مرض عصابي وحزن عام متغلغل في حيواتهم عبر الإحباط والألم الذي يتضخم كلما كبروا في السن، وفي النهاية يلتقون بالقبر الذي يتثاءب أمام أعينهم. وبما أن أعداد الناس صارت تتقلص أمام أعداد أولئك الذين يجدون في الدِّين عزاء ومواساة بوصفه الحاجز ما بينهم وبين لحظة موتهم، فأنني أؤمن انهم لا شعورياً يستمدّون نوعاً من العزاء المنحرف من الفكرة القائلة إن العالم سينتهي بحرب نووية بعد موتهم. الإله قد مات، لكن القنبلة تحيا . لذا، لم يعودوا وحيدين في ضعفهم المأساوي أمام حقيقة موتهم. كتب سارتر في مكان ما: إذا كان هناك ما يمكن قوله للمرء الذي واجه عقوبة الموت كي يشعر بالسعادة هو: أن مذنباً سيصطدم بكوكب الأرض في اليوم التالي من إعدامك. وسيدمر هذا الاصطدام كل شكل من أشكال الحياة وسينهى حياة البشر جميعاً.
هذا لا يعبّر عن رغبة جماعية في الموت أو نزعة تدميرية للذات نتيجة لانعكاس الوحدة المريعة للموت. هذا مُضرّ جداً، طبعاً، لأنه يلغي الغضب والسخط الذي من المفترض أن يدفع العالم نحو إلغاء الحالة التي تسمح لقلة من القادة السياسيين في كل مكان أن يستعدوا جدّياً لإبادة الملايين من الناس نتيجة لفهم مغلوط حول مسألة الدفاع عن الأمن القومي.
[ هل تعتبر نفسك من أتباع اللاعنفية ؟
- لست على يقين مما تقصد بمفهوم «اللاعنفية» حقاً. فمثلاً اذا خضعت لهتلر بغية تجنب الحرب هل يمكننا اعتبار هذا الفعل فعلاً أخلاقياً سامياً؟ لا أعتقد ذلك. لكن أيضاً منذ الحرب العالمية الأولى نشبت حروب تراجيدية وعبثية، وحالياً نجد إحداها في فيتنام وفي انتشار الحروب الدينية التي تلوث التاريخ. ما يختلف في وضعنا اليوم بشكل مطلق عن كل شيء حدث في السابق هو حقيقة أن للإنسان - للمرة الأولى في التاريخ - القدرة على أن يدمر مجموعة كاملة من الأنواع والكائنات - حتى الأرض نفسها. مشكلة تهويل هذه المسألة لعامة الناس هي أنها تبدو غير مقنعة وتجريدية، كأنك ببساطة تقول: «ستموت الشمس بعد مليار سنة». ما هو مطلوب كخطوة تصحيحية بدائية هو التفكير في بدائل ملموسة لتوازن الخوف الحالي - بديل يمكن للناس فهمه ودعمه.
[ هل تؤمن بحكومة عالمية كلية القوة، أو قل: بنوع معيّن من نظام اجتماعي، وسياسي، واقتصادي جديد بشكل راديكالي، بإمكانه التعامل بحنكة وحكمة مع هذه المشكلات مثل الحرب النوويّة؟
- أياً من هذه الأنظمة القائمة ليست ناجحة بمعنى الكلمة، ولكنني لا أعلم بما يمكنني استبدالها به. فكرة وجود مجموعة من الملوك الفلاسفة يديرون كل شيء بأسلوب أبوي كلي القدرة هي مغرية دائماً. لكن أين نجد هؤلاء الملوك الفلاسفة؟ وإذا افترضنا أننا وجدناهم كيف يمكننا توفير من يخلفهم؟ لا، يجب علينا الاعتراف أن النظام الديمقراطي، على رغم كل مشاكله وتناقضاته الموروثة، هو أفضل نظام يمكن لأي شخص أن يحققه. أعتقد أن تشرتشل هو من قال: الديمقراطية هي أسوأ نظام اجتماعي في العالم، لكنها أفضل من الأنظمة الأخرى.
[ بفضل المُؤثرات الموجودة في فيلم (2001)، يمكننا اعتباره الفيلم الأكثر تمثيلاً، من الناحية الجرافيكية، للطيران الفضائي في تاريخ الأفلام - ومع ذلك اعترفتَ في إحدى المرات أنك ترفض استعمال وسيلة الطيران، حتى ركوب طائرة عادية. لماذا؟
- أعتقد أنه بالإمكان تفسير المسألة وفقاً للإدراك المذهل للموت. قدرتنا، التي لا تمتلكها الحيوانات الأخرى، في فهم نهايتنا يخلق لنا نوعاً من القيود النفسية الهائلة: يكمن في كل واحد منا خوف متوارٍ من هذه المعرفة المطلقة التي تزعج ذاته وشعوره بالغاية، سواء قبلنا الاعتراف بذلك أو لا. إننا محظوظون، إلى حد ما، أن اجسادنا، وتحقيق حاجياتها ووظائفها، تلعب هذا الدور الأساسي في حياتنا، هذه القشرة الفيزيقية التي تخلق حاجزاً ما بيننا وبين إدراكنا المُريع للسنوات القليلة التي تفصل ما بين الحياة والممات. إذاً لا يفعل المرء شيئاً سوى الجلوس والتفكير حول موته الوشيك، وحول تفاهته وعزلته الشديدة في الكون، بلا شك: إما سيجن جنونه او سيستسلم للشعور العبثي. وقد يسأل نفسه: لماذا أجهد نفسي إذن بتأليف سيمفونية عظيمة؟ أو أجهد نفسي في العمل؟ أو حتى أحب شخصاً ما؟ بما أنه ليس سوى ميكروب مؤقت موجود في ذرة غبارية تدور بشكل دائري في فضاء شاسع بشكل لا يصدق؟
أولئك الذين أُجبروا على التفكير بهذه الطريقة بفعل حساسيتهم الخاصة في فهم حياتهم على هذا النحو - ويدركون أن ألَّا غاية ولا هدف يستطيعون اللجوء إليه، وأن وجودهم مجهول في وسط نجوم لانهائية - هم الذين سيقعون ضحية سهلة لحالة لا معيارية بشكل مطلق. أفهم جيداً ما أصبحت الحياة عليه بالنسبة إلى ماثيو أرنولد: (قفرٌ مظلم… حيث تتصادم جيوش الجهل في الليل… حيث هناك لا حب، ولا أمل، ولا يقين، ولا إيمان، ولا نهاية للألم) ولكن حتى بالنسبة لهؤلاء الذي يواجهون نقصاً في الحساسية لفهم وقتية حياتهم وتفاهتهم، حتى لو كان بشكل غامض، يسرق هذا الإدراك اللامكتمل الحياة من أي معنى وغاية، لهذا السبب: (الكثير منا يجد غياب المعنى من حياته مثل موته).
أغلب الأديان، بنظرتها الخاصة، قامت بتخدير هذا الألم العظيم، ولكن بما أن الكهنة الآن يعلنون موت الإله، وانحسار: (بحر الإيمان)، اقتبس أرنولد مرة أخرى هنا، في العالم بـ : (صرخة حزينة، وطويلة، ومتراجعة)، ليس للإنسان عكاز يتوكأ عليه - وليس هناك، على أية حال، أي امل، مهما كان غير عقلاني، لإعطاء معنى لوجوده. هذا الإدراك المُهلك لموتنا هو أساس وجود مرض عقلي أعظم مما أعتقد أن الاطباء النفسيين على وعي به.
[ إذا كانت الحياة لا معنى لها إلى هذا الحد، هل تستحق برأيك العيش فيها؟
- نعم بالنسبة إلى الشخص الذي يستطيع بطريقة ما مواجهة حقيقة أنه سيموت يوماً ما. عبثية الحياة بحد ذاتها تدفع الإنسان ليخلق لها معنى خاصاً. يبدأ الأطفال، طبعاً، بدهشة واضحة، تلك القدرة على الشعور بالسعادة الكاملة حول أبسط الأشياء مثل خضرة أوراق الشجر. لكن حالما يكبرون في السن يبدأ إدراك مفهوم الموت والتحلل يسيطر على وعيهم، وبذلك يتبدد حبهم للحياة ومثاليتهم واعتقادهم بالخلود بشكل عميق.
حين يكبر الطفل، يرى الموت والألم في كل الارجاء، بذلك يفقد الأمل في الخير المطلق للإنسان. لكنه اذا كان قوياً بشكل معقول، يمكنه أن ينهض من ظلامه الروحي نحو انبعاث حيوية الحياة. وعلى رغم إدراكه لعبثية ولامعنى هذه الحياة، فإنه لا يزال بإمكانه التوكيد على معنى صحي وثابت لها. بالطبع لا يمكنه أن يعيد تجربة الحس النقي الذي كان حاضراً في الطفولة، لكن يمكنه أن يبتكر شيئاً له أكثر ديمومة وثبوتية. الحقيقة الأكثر رعباً عن الكون ليس أنه عدواني بل أنه لامبالٍ. لكن حالما نتوافق مع هذه الحقيقة، ونقبل بتحديات الحياة على حدود الموت يمكن لوجودنا ككائنات أن يكسب معنى حقيقياً مهما كان الظلام حالكاً، علينا أن ننشر النور!

كوبريك في أحد مواقع تصوير أفلامه
كوبريك في أحد مواقع تصوير أفلامه




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:08 ص

      ستانلي كيوبريك سيخلده التاريخ كأفضل مخرج عرفته البشرية، يكفي أنه أقنع ملايين البشر بواسطة فيلم أبيض و أسود أن أمريكا أرسلت 12 رجلا إلى القمر على متن 5 رحلات فضائية!

اقرأ ايضاً