العدد 5215 - الجمعة 16 ديسمبر 2016م الموافق 16 ربيع الاول 1438هـ

الأمراض الجديدة للدول

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

صحيفة «ذا إيكونومست» تجاوز عمرها الآن الـ 173 عاماً. لذلك أحسب أنها عاصرت كثيراً من الحوادث التي شهدها القرنان الأخيران. لقد أدركت الثورة الصناعية والحرب الصينية اليابانية، والروسية اليابانية، والحربيْن العالميتين الأولى والثانية. والحرب الكورية، والحرب الباردة، والكساد العظيم. والحقيقة أن الشيء المهم ليس الحوادث في حدّ ذاتها؛ بل التبعات التي تصنعها تلك الحوادث في المجالات المختلفة، والتي أعتقد أن من أهمها؛ إعادة تشكيل المجتمعات.

فهذا العالم ذو المليارات السبعة يلهَج ناسه بـ 7000 لغة. وينتظمون في 356 قومية. ويتوزعون على 19 ديانة أساسية. هذه الفروقات جعلت «أغلب» الناس منحازين في دواخلهم.

فالتجزؤ في الدين والثقافة ولّد طبيعة خاصة لدى الناس المتجانسين كي يميلوا إلى العزلة كأمر واقع حين يُخيّرون. لذلك، مَنْ سعوا إلى اعتبار الناس على غير تلك الطبيعة، جرّوا الأوضاع إلى حروب أهلية.

أوروبا «المتجانسة» مازالت شعوبها تشعر بـ 113 أقلية قومية/ دينية تنتمي إليها، على رغم صلابة مشروع الوحدة فيها. لذلك كان خيار الفيدرالية لتسيير دولها هو الأنسب؛ لإسكات المدافع والصراعات الدينية التي استمرت (في مجموعها) إلى 280 عاماً. وقد كانت دعوات أوروبا تقوم على استيعاب مشتركات الفرد (العائلة) والجماعة (المجتمع) قبل النظر إلى الدولة نفسها.

هذا الأمر دفع مفكري أوروبا ومنهم (برونو باور) للدعوة إلى التفريق ما بين حقوق الأفراد وحقوق المواطنين. بمعنى أن الدولة التي تنظر إلى الأفراد المختلفين كـ ذوات دينية أو عرقية هي أدنى من الدولة التي تنظر إليهم كمواطنين. وكان الحل من وجهة نظر هؤلاء، هو فسخ أي حِلَّة دينية عن الدولة، كي تستطيع أن تظلل الجميع، حتى مع اعترافها بحقوقهم، كون ذلك الاعتراف لا يخضع للمأسسة.

أعود الآن مرة أخرى إلى صحيفة «ذا إيكونومست». فقد طرحت هذه الصحيفة قبل أيام أفكاراً جديرة بالتأمل بشأن مصير هذا العالَم، وإلى أين يتجه على أثير القوميات والجهويات فيه. هي تقارن بين تاريخيْن. الأول هو العام 1980 والثاني هو العام 2016. في التاريخ الأول كانت حملة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، وفي التاريخ الثاني كانت حملة الرئيس القادم دونالد ترامب.

ريغان قال حينها بأنه يحلم ببلد «لا ينكفئ على ذاته بل ينفتح على الآخرين». أما ترامب فوعد بأن يضع اهتمامات الولايات المتحدة الأميركية الداخلية قبل كل شيء. بل بات يعتبر «العولمة» مجرد «نشيد كاذب» يجب عدم التسليم إليه. هذا الأمر يعيد إلى الأذهان أوضاع أميركا قبل الحرب العالمية الأولى، حين كانت لا تعتبر البحار الفسحة العامة للحضارة التي تجعلها تنفتح على العالم القديم.

هذا الشعور ترصد الإيكونومست له صورا أخرى في العالم، وتضرب مثالاً بـ روسيا التي بدأت في الميل إلى التمسّك بـ مزيج «من التقاليد السلافية والمسيحية الأرثوذكسية». وكذلك الهند التي بدأت تختار التحالف مع «الجماعات الهندوسية القومية والعرقية». وهناك الصين التي بدأت في استدعاء انتماء الهان والتعليم الوطني الساعي إلى «محو 100 عام من الاحتلال المذل».

في أوروبا فاجأ البريطانيون العالم بتصويتهم على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبات البعض يتحدث عن تنامي شعور لدى الفرنسيين ينحو ذات المنحى الذي اتبعه البريطانيون. وباتت دول أوروبا الشرقية كـ بولندا والمجر تُسلّم مقاليد أمورها إلى أحزاب وشخصيات قومية متطرفة لا قِبَلَ لها بالأجانب، ولا تؤمن إلاّ بالوطن الخاص. وهناك تركيا التي بدأت تميل لقومية إسلامية تعيد إليها حضورها الزعامة الإقليمية، لذلك فهي تبرد في المصالحة مع الأكراد الذين تعتبرهم قومية مضادة.

لقد باتت هذه الدول (وغيرها كذلك) تعتقد بأن العلاقات الدولية ما هي غالباً إلاّ «لعبة صفريّة تتنافس فيها مصالح العولمة مع المصالح الوطنية». لكن ما يُتخوّف منه في هذا المجال هو أن المسألة القومية، أو الوطن الخاص هو مفهوم بسيط وغير مُركَّب ما يجعله سهل الاستعمال ومُوحِّدا للناس، لكنه يُوهِم بتحقيق أشياء لا يمكنها أن تحصل دون الاعتماد والانفتاح على الآخر.

أيضاً، فإن سهولة المصطلح يجعله ألعوبة في يد الدول كي تستعمله بفذلكات وخبث قد تضيع فيها حقوق الناس والأقليات تحت ذريعة الخصوصية. لذلك باتت القوميات المدنية التي تؤمن بالتوافق والحرية والتسامح والمساواة أمام المحك في مواجهة مع القوميات العِرقية المتعاظمة والمتعطشة للانتقام واستحضار الماضي، الذي قادت فيه العالم إلى حروب تدميرية شاملة.

لم تعد هناك دول تريد أن تنضم إلى دول أو تتحالف معها «مصيرياً» حتى في المجتمعات المسيحية والعلمانية المتجانسة إلى حدّ كبير. والسبب هو المَيْل إلى الداخل والخوف من التهام الآخر أو العمل ضده. اليوم، تتباعد الدول عن بعضها لصالح الداخل وتعاضدياته بدل الخارج، وفي طليعتها الولايات المتحدة (كما وعَدَ ترامب). وهو سلوك كما تراه «الإيكونومست» ينطوي على أخطار.

فتهديد ترامب للدول الصغيرة بالمقايضة المتوازنة ما بين توفير الأمن لها من واشنطن، مقابل مال أكثر تدفعه يعني فقدان النظام الأمني الإقليمي والعالمي صيغته التقليدية القائمة على احتماء تلك الدول الصغيرة بالقوانين الدولية التي تضمنها عادة الدول الكبيرة ومن بينها الولايات المتحدة. هذا الأمر جدير بأن يُتأمّل فيه فعلاً. وهو مشهد في مجموعه مخيف، ويؤشر على إنتاج عالم واسع لكنه منغلق، ما سيجعل الأزمات تنمو فيه كما ينمو الدود في البطن.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5215 - الجمعة 16 ديسمبر 2016م الموافق 16 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً