العدد 5218 - الإثنين 19 ديسمبر 2016م الموافق 19 ربيع الاول 1438هـ

حَلَب بوابة لوصف الجحيم السوري... الوحشية في كثافتها وشذوذ طاغٍ

«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للسوري خليفة...

خالد خليفة
خالد خليفة

المدينة التي كانت مزدهرة بالثروة والسلطة والثقافة هي الآن في حال خراب. ذلك ما يرد في بداية تقرير جينيفر سنيور، في مراجعتها لرواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، ونشرتيوم الأربعاء (14 ديسمبر/ كانون الأول 2016)، في صحيفة «نيويورك تايمز»، والمدينة المعنيَّة هنا هي مدينة حلب السورية، التي ولد وعاش فيها الروائي السوري خالد خليفة. الرواية التي صدرت في العام 2013، عن دار العين للنشر، يُستشف من العنوان نفسه أن الانتحار هو الخيار في ظل مدينة استوطنت فيها غربان الموت. الانتحار يظل «أشرف من انتظار الموت جوعاً». العنوان لم يكن بمعزل عن عبارة وردت على لسان جار للعائلة التي تدور حولها أحداث الرواية، وكان بمثابة سؤال: «ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، بعد أن عمد الجار إلى قتل زوجته واثنين من أطفاله، لاحقاً بهم انتحاراً.

يُطلُّ، أو يقدِّم خليفة سورية من خلال مدينته حلب، باعتبارها بوابة لوصف الجحيم السوري... يقدِّم الوحشية في كثافتها، وكذلك الشهوات والشذوذ الطاغي. ثمة ما يتم إغفاله عن قصد أو من دون قصد. ثمة إغفال لمكنة الإرهاب التي تضرب العمق السوري كله. التركيز هنا على الوحشية التي تتأتَّى من النظام الحاكم، وهي وحشية من دون شك في وجه من وجوهها وممارساتها، لكن عين ومخيلة الروائي تنأيان عن الاقتراب من ممارسة الإرهاب الأممي القادم من الجهات الأربع.

ألم يأخذ ذلك الإرهاب حصته من تزييف ذاكرة المدينة والناس؟ ألم يعمل عمله في عولمة الخسف، ذلك الذي تبدّى فيما بعد من خلال هجرات إلى المنافي المفتوحة على المصير المعلوم والمجهول؟

حقول الخس والطرق الغامضة

قبل الشروع في تقرير سنيور، ثمة نعْت ظل لصيقاً بالرواية بأنها «رواية البذاءة والشذوذ».

فصول خمسة في الرواية هي بمثابة سرد لحيوات متناقضة، فيها من الشهوانيات ما لا حصر له، تتجسَّد في «سوسن»، هنالك الشذوذ الجنسي أيضاً. وهناك الراوي الذي لا تبدو ملامحه في ثنايا العمل الروائي. ستجد الموسيقي والعبثي، ذلك الذي لا يكف عن التساؤل، والآخر الذي لا يكف عن الإذعان والتسليم، وترك الأمور «تجري في أعنَّتها». في الفصول الخمسة: «حقول الخسّ»، «جثث متفسّخة»، «عنق ملوكي وحذاء أحمر»، «الأم الميتة»، و «طرق غامضة»، نقف على ملامح من التقسيم المجتمعي، ذلك الذي لم ينشأ بحكم تحول تاريخي، أو بحكم حروب جاءت بالمصادفة، بل بفعل هندسة تكفَّل بها النظام «البعثي» منذ عقود، وتحديداً منذ العام 1963، إلى جانب ذلك التقسيم وهندسته، ثمة وقفات على فجائع وظروف، مرَّ بها الشعب السوري، ولذلك كله جذوره العميقة؛ إذ لا يمكن أن تثمر الخطايا والفظائع في أمة عن جمهورية فاضلة، بل جمهورية خوف ورعب واستلاب واختطاف لكل شيء، بدءاً من الإرادات، وليس انتهاء بالبشر الذين تمرُّ عقود على اختفائهم، دون أن يجرؤ أحد على التساؤل، مجرد التساؤل عن: أين اختفت تلك الكائنات البشرية؟ وليس كائناً واحداً أو اثنين أو ثلاثة. ربما هو توصيف لما مورس من خديعة مازالت فصولها مستمرة حتى اليوم، على الأقل، فيما نشهده من أحداث لا شيء يدل على توقف أنهار الدم، وعربدة الخراب، وكثافة الوحشية.

هنالك المؤامرة تحضر أيضاً، وإن ظلت تفسيراتها منحازة إلى رؤية دون أخرى. مؤامرة يتم تخليقها أحياناً، من دون أن ننكر أن ثمة مؤامرة فعلاً تجري على الأرض، قبل أن يُرفع أذان الخراب والموت وانهمار شلالات الدم.

كثافة الوحشية

بالعودة إلى مراجعة جينيفر سنيور، في «نيويورك تايمز»، لا شيء فارقاً، بالنظر إلى المراجعات العربية التي نشرت في الصحف العربية منذ صدورها في العام 2013، لكن تظل التفاتة قسم مراجعة الكتب في الصحيفة مهمة، ولم تبرز إلا بعد صدور ترجمة الرواية إلى الإنجليزية، التي حظيت بحضور جيد. من دون أن ننسى الوصف الذي أطلقته على مؤلفها صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه «واحد من النجوم الصاعدة في الرواية العربية»، يكتب بشكل خصب، وبنثر لاذع، بعضه ناضج، مثل موز تم تخميره، وبعض منه جميل.

تشير سنيور إلى أن خالد خليفة يكتب عن مدينة هي مسقط رأسه بشهوانية وكثافة في الوحشية تقريباً، بتركيز الرواية على عائلة واحدة فقط، وتوقُّفها القصير عند سنوات عديدة من الحرب الأهلية السورية؛ لكنها تقدِّم لنا لمحة عن مدى الرعب، والفراغ الكبير لدى أهل المدينة ممن يجب عليهم أن يتمردوا على واقعهم المأسوي. فالمستقبل لا يمنحهم شيئاً، في مدينة بتلك المواصفات؛ حيث أصبحت قلعة من الأبواب المغلقة.

تشير سنيور إلى أن مناخات الرواية تعجُّ بـ «مهرجان حقيقي من الجنون والروائح الغريبة»، في استشهادات تتوزع على المراجعة؛ حيث أصبحت مدينة حلب بالنظر الى الخوف الذي لا ينفك يتواصل، وكأنها مدينة من العِقاب، وكلما توالى أنين سكَّانها، فتح ذلك شهية الشرطة السرية «والمسئولين الفاسدين الذين كانوا بارعين فقط في الولاء».

ترى سنيور أن أعراف المراجعات لأي عمل روائي تتطلَّب سرد شيء من الحبكة في الرواية؛ إلا أنه لا خلاصة يمكن أن تُعطيَ فكرة عمَّا يمكن أن تشبهه قراءة مثل هذا العمل.

تزييف ذاكرة المدينة والبشر

قصة خليفة عرْضية بدلاً من أن تكون طولية. ربما في ذلك الاستغراق في تفاصيل تبدو «مضغوطة» بحصرها في عائلة واحدة، لكن التفاصيل تنهمر من دون توقف، بتلك النماذج التي تبدو متناقضة في تلك العائلة، ومن يرتبطون بها من خارج فضائها، لكنه يظل فضاء واحداً في نهاية الأمر. إنها أكثر عن هذا المناخ (الكلِّي للمكان والبشر)، على حد سواء، أكثر من كونها تشخيصاً لحدث حاسم.

ما يلفت الانتباه في الرواية اشتغال خليفة على موضوعة تزييف المدينة وذاكرتها، من خلال التزييف والتوجيه والهيمنة على وعي البشر وذاكرتهم، والتحكم في مصائرهم. انفصال المدينة عما عرفت به من عراقة وتاريخ، إلى الدخيل عليها وعلى ذاكرتها.

الراوي نفسه يجسّد جانباً من ذلك التزييف، بقدرة المدينة على التهامه والتهام نماذج مشابهة. ويظل البحث عن الذات كمن يبحث عن حياته في دائرة من القتل والموت الذي لا ينتهي.

هنالك الأم التي لا تكاد تجد منفذاً لفرط الفجائع التي تحيط بها... مع أبنائها الأربعة. الجد ومحطة القطار التي يحلم بأن تكون في هيئة أخرى... هيئة تليق بها من حيث التحديث، والأب الذي يجد حياته في الهروب إلى الولايات المتحدة الأميركية مع عشيقته، تاركاً أبناءه في مهب مصير لا يبشِّر بحياة أصلاً. هنالك نزار (الموسيقي المثلي والمجنون في الوقت نفسه)، و «سوسن» التي تحضر نموذجاً للحلم واستغلال الجسد، بممارسة الرذيلة في اطمئنان بتلمسنا لمطابقات بين الضحية والجلاد.

من فضاءات الرواية

«إن ما يحدث الآن يشبه عفن الأقبية الذي يخط في بدايته لوحة رائعة، ويتمدد العفن ليغرق الهواء ويفسد الحبال الصوتية ويخنق الخناجر، تفكر كم سيمضي وقت طويل قبل أن تستعيد الحناجر الكسيرة قدرتها على الصراخ».

«لا يمكن الوثوق برجال تفوح من جلودهم رائحة الجرذان».

«إنّ روح المدن العظيمة تطارد مخربيها الى قبورهم».

«الغباء يقوم الأذكياء بتصنيعه وإقناع الأغبياء به كي يحافظوا على مكانتهم»

«كم سيمضي وقت طويل قبل أن تستعيد الحناجر الكسيرة قدرتها على الصراخ».

«إن الأشياء حين تأتي متأخرة بما فيه الكفاية يجب أن ننساها مرة واحدة وإلى الأبد».

«إن القطيع أعظم اختراع لتمرير كل الافكار والفلسفات والأديان والفنون الساذجة».

«أدركت بعدها بأن النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما، لكنها في النهاية تفاصيل نظنها حقيقية، لا نصدق أنها وهم من أوهامنا».

«دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب مُوارب يزداد ضيقاً حتى يخنق القاتل».

«غرباء العواصم هؤلاء... يموتون بمرض الحنين هادئين».

«من العبث تزوير الموت وجعله مرادفاً للحياة».

«النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما، تفاصيل نظنها حقيقية، لا نصدق أنها وهْم من أوهامنا».

«الأشياء حين تأتي متأخرة بما فيه الكفاية يجب أن ننساها مرة واحدة وللأبد».

«لا يعيش اليقينُ والرضا إلا مع الاستسلام».

«يدافع...عن التحديث في مؤتمرات الحزب التي أصبحت في الآونة الأخيرة مكاناً رائعاً للتثاؤب».

«الموت هو اكتمال الذكريات وليس غياباً أبدياً».

«حياتنا مجموعة روائح مغتصبة نقضي بها عمرنا بأكمله للتخلص منها».

ضوء

يذكر أن الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة من مواليد مدينة حلب العام 1964. حققت روايته «مديح الكراهية» التي احتاج إلى ثلاثة عشر عاماً لإنهائها، اهتماماً في معظم دول العالم. وتتناول روايته المشار إليها الآثار التي تركتها الحرب بين النظام السوري والإخوان المسلمين في مدينة حماة، على أسرة سورية، مع ملامح كبرى للنتائج التي تمخضت عنها تلك الحرب على «الإخوان» ترجمت بعض رواياته إلى لغات عالمية من بينها: الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، النروجية، الإنجليزية، والإسبانية).

كتب عدداً من المسلسلات التلفزيونية من بينها «قوس قزح»، و «سيرة آل الجلالي»، إلى جانب بعض الأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة والأفلام الروائية الطويلة مثل «باب المقام».

امتلاء الرواية بالمفردات الحادة من قبيل «عاهرة، غائط، مخنَّث»، لا تخرج عن سياق بذاءة الحياة وتفاصيلها في جزء من العالم اسمه سورية، ولا يهم بعد ذلك تحديد الطرف الذي اسهم برواج بذاءة الحياة، ومن ثم بذاءة التعبير عنها.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً