العدد 5219 - الثلثاء 20 ديسمبر 2016م الموافق 20 ربيع الاول 1438هـ

تعليم الجهل ومأزق المدرسة (2-2)

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في عرضنا السابق الذي تناول إشكاليات «التربية الحديثة» وما آلت إليه المؤسسة التعليمية التي انتقدها نخلة وهبة في كتابه «تعليم الجهل»، يخلص إلى أن الفعل التعليمي في المدرسة يعزّز الجهل بممارسات ممثل السلطة المعرفية «المعلم» عبر آليات «تعليم الجهل» والتجهيل بمعناه الواسع، كيف؟

غياب ثقافة الحرية

قبل عرض أبرز آليات التجهيل التي ناقشها وهبة، لابد من الإضاءة على أمرين مهمين هما، إشارته لعبارة تكافؤ الفرص والمساواة بين الجنسين التي وجد أنها تحوّلت إلى أداة زينة لازمة، أو كلمة سر تستخدمها المؤسسة التعليمية للدلالة على الحداثة، فيما هي تحمل تحدياً ضمنياً للثقافة السائدة، إذ لا يكفي أن تزدان الوثائق الرسمية بعبارات تطري الحرية وتعدد فضائلها، فيما المطلوب رصد آليات تأطير مأسسة توجّه السلوك العام داخل المؤسسة لينساب أتوماتيكياً في تصرفات حرة، مثرية وممتعة، فالمعيار لوجود أو غياب ثقافة الحرية في المؤسسة التعليمية هو حرية التعبير أو النقد أو الشك أو الاعتقاد أو التجمع..إلخ، وهذه الثقافة لا تبنى بين ليلة وضحاها، بل يلزمها وقت ومتابعة ومثابرة، خصوصاً أن ممارسة الديمقراطية في المدرسة تعني «مشاركة في صنع القرار واتخاذه وديمقراطية التعليم وتعليم الديمقراطية» وجميعها من دلالات «التربية الحديثة».

الأمر الثاني، تقديم رؤيته وتحليله النقدي في مسألة تغير أدوار العناصر التربوية الذي حدث في إطار طرح شعار التربية الحديثة، سواءً أكان دور مدير المدرسة وممارساته وطبيعة دور المعلم وما يتوقعه الأهل منه، أو دور وزارة التربية والتعليم وتعديل وظيفتها، بعد أن كانت مقتصرة فقط على «نقل المعرفة أو التعليم» أو «وزارة المعارف/ وزارة التعليم» سابقاً، وأيضاً لتدخلات السوق في العملية التربوية، وما أدى إليه من تخلي وزارات التربية عن كتلة كبيرة من صلاحياتها لصالح وزارة العمل وغرف التجارة والصناعة، حيث تحوّلت إلى مقاول فرعي عند وزارة العمل، تُخرج مرشحين لمروحة ضيقة من الأعمال، وتم تحديد المناهج الدراسية حسب طبيعة الشواغر المتوقع ظهورها «مبدئياً». كما ناقش إشكالية الوضع التناقضي لمجلس إدارة المدرسة الذي فرضت «التربية الحديثة» وجوده كمجلس منتخب من أهالي الطلبة، فيما يعاني عملياً من خروقات كوضع شروط لعضويته، أو احتفاظ بعض أولياء الأمور بعضويته حتى بعد تخرج أبنائهم، ويكمن وراء ذلك مصالح ومنافع متبادلة تبرز بصفة التطوع فيما يتقاضى البعض أتعاباً لقاء أعمال محددة.

آليات التجهيل المدرسية

أما أبرز آليات «تعليم الجهل» التي تتم من خلال حجب المعرفة أو الاحجام عن نقلها؛ أو عبر إكساب الطالب مهارات ومعارف ملتوية، كما يفيدنا المؤلف تتمحور بشأن الآتي.

هناك آليات تتستر خلف طبيعة المعرفة التي توفرها المدرسة وموقفها من تلك المعرفة. فالأصل أن تكون المدرسة شفافة مع الطلبة؛ وتشرع بتوعيتهم بأن المعرفة ليست نهائية بالمطلق، إلا أن الواقع أثبت أن المؤسسة التعليمية تتعامل مع معرفة نهائية تنقل للطلبة بذات الصفة، وهذا برأي وهبة، يؤسس للتعصب والتطرف والانغلاق وتغذية الفكر المقفل، الذي يخشى النقد ويعيق الحوار وقبول الفكر الآخر، كما لا يعترف ضمناً بدينامية العلم، وقدرته على التجدد والتغيير. هنا لا يخفي وهبة سراً بالإشارة إلى استغلال المسئولين السياسيين لهذا، عبر تشريب أحكام مسبقة، وانحيازية تخدم خطهم الفكري في ثنايا المعرفة النهائية غير القابلة للجدل، والتي تحرص المدرسة على نقلها ضمن قوالب جامدة وصيغ جاهزة؛ وآليات تتمثل في فعل اجتزاء المعلومة والمعرفة التي يعطيها المعلم أو مؤلف الكتاب المدرسي للتلاميذ، وعدم ربطها بالبيئة المنتجة للفكر الأصلي.

والاجتزاء هو المنتج الطبيعي لعمليات الانتقاء والفرز التي تمارسها أو تفرض ممارستها السلطة المعرفية على المادة المعرفية والقيمية، سواءً في المؤسسة التعليمية أو خارجها، وهذه لا تقل فاعليتها في التجهيل عن سواها. إنها الآلية التي يتم بواسطتها اختيار نوع المعرفة وطبيعتها وكثافتها وجرعتها التي يفترض أنها الأنسب لمستوى المتعلم، وهنا تغييب وقائع أساسية «في التاريخ» ومعارف جوهرية «في العلوم» ونظريات بكاملها «في الفلسفة».

أما التعميم وإطلاق الأحكام المشبعة بالمواقف الاجتماعية المشحونة بالانفعالات المبطّنة والمنحازة التي تتسرب لأذهان الطلبة ضمن المنهج الخفي للمدرسة، فهو يشكّل إحدى الأدوات التي تراهن عليها المدرسة في وظيفتها الايديولوجية، لتشريب الطلبة بمختلف الأنماط الفكرية الثابتة والمقاومة للتغيير، والأحكام المسبقة هنا تؤسس للعنصرية والتعصب وعدم قبول الرأي الآخر.

كذلك إساءة استخدم مفهوم التقريب أو التشويق كمظهر من مظاهر «التربية الحديثة»، وذلك بدفع المعلم مضطراً إلى «إهمال أو تأجيل مهمة التعليم في الصف» من جهة، وتركيز معظم جهوده لإيجاد وسائل تشويق إضافية من جهة أخرى، ما يعني «إهمال التعليم لمصلحة التشويق»، لاسيما مع اشتراط ظهور عمليات التشويق وآلياته في التحضير اليومي، وبصفتها جزءًا من منظومة «إدارة الصف». ومن يروّج للتشويق -كما يخلص وهبة- يدعو عملياً لاعتبار أن الوضع الطبيعي، ألا يجتهد التلميذ وألا يتعلم، وهذا ما يدفعه لعدم الشعور بالذنب إذا لم يتمكن من التعلم.

موضة العلامة القصوى

ويصنف المؤلف شراء النجاح وهاجس نيل العلامة الكاملة عند الطلبة وأولياء أمورهم الذي تحوّل إلى موضة، بأنه «آلية تجهيل»، ويعتقد أن تعيين سقف معرفي ومهاري مطلوب لاستحقاق العلامة القصوى، هو بمثابة القول بلا جدوى الاستزادة من المعارف والتعمق فيها خارج الصف، ما يسهم في الحفاظ على مستوى جهل المتعلم في المجال الذي أنتج العلامة القصوى. فالكتاب المدرسي، مهما كان موسعاً وشاملاً، لا يمكنه احتواء كافة أصناف المعارف والكفايات والمهارات والأنشطة والتمارين ونصوص المطالعة الإثرائية ذات العلاقة بموضوعات الدروس المختلفة. كما أن المطالبة بالعلامة القصوى تنامت مع المطالبة الصريحة بالتعامي عن الأخطاء الإملائية، والتغاضي عن ضعف أسلوب الصياغة، ونقص الدقة في المعلومة... إلخ، ما يعنى التنازل عن قضية الاتقان وأهم مكوناته.

أما أبرز أسباب ذلك فيتمثل في حدة التنافس في المدارس الخاصة للفوز بأكبر عددٍ من البعثات الدراسية للخارج، فضلاً عن قلق الأهالي على قبول أبنائهم في «التخصصات النبيلة» في الجامعات المرموقة، والتي تتم على أساس التاريخ الأكاديمي «للمرشح» الذي يختزله المعدل التراكمي، مضيفاً بأن تبديل علامة التلميذ أو خفضها ليست بممارسات غريبة عن فعل التجهيل، سواءً تمت بوعي لأثرها أم بدونه، وغالباً هذه الممارسة تكون محمية ومبررة بمختارات مجتزأة من أدبيات «التربية الحديثة» التي يتم توظيفها خارج سياقها الطبيعي تماماً مثل استخدام التقويم التكويني «تغيير العلامة عند تحسّن التعلم»، لدعم سلوك «التنجيح المحابي أو المتحيّز». ومبدئياً وُجدت معاودة التقويم للتحقق من حدوث التعلم للجزء الذي لم يتم اكتسابه في المرة الأولى، إلا أن الأهل والمؤسسة التعليمية قد استغلوا المبدأ لتعديل علامة المتعلم، إما منعاً لرسوبه، أو تحسيناً لعلامته بدون وجه حق، أي بدون الحصول على بيّنات تؤكد حدوث التعلم فعلياً.

كذلك تتصرف المؤسسة التعليمية وكأن المطلوب منها تجهيز المتعلم-الخريج بالمستندات الإدارية والمهارة «الفنية» المطلوبة لإنجاز حقل اختصاصه، وتسمح له بدخول المنافسة في سوق العمل، دون أن يعني ذلك ضرورة تزويده بأدوات التفكير اللازمة للتحليل والتركيب والتقويم بعمق وحيادية. وهذه معضلة تستدعي الجدل بشأن موقع الدراسات الإنسانية في مناهج التخصصات المهنية والعلمية نظراً لكونها ناقلاً رسمياً للقيم.

في خاتمة الكتاب الذي هزّ فيه المؤلف بعض المسلمات التربوية؛ خلص إلى أن آليات التجهيل هذه وغيرها من أساليب إبعاد التلميذ عن المعرفة، قد دعته لطرح ثلاثة أسئلة سجالية تدور عند التربويين واختصاصيي علم النفس. ويتمحور سؤاله الأول حول مدى وعي مروّجي «التربية الحديثة» والإجراءات والممارسات المنسوبة إليها بشأن طبيعة الآثار الجانبية التي تفرزها الأنماط «الحديثة» على شخصية التلميذ وفكره وسلوكه؟ وسؤاله الثاني للمؤسسة التعليمية بمختلف مكوناتها وشخوصها عن طبيعة الرهانات التي تتخفى تحت عباءة الحداثة المقترحة؟ ويبقى سؤاله الأهم: هل فعلاً استهدفت «التربية الحديثة» تحسين نوعية التعليم أم الحد من سلطة المؤسسة التعليمية في تشكيل الفكر والشخصية لمصلحة العائلة عبر تذويب هيبة المعلم وتمييع شروط النجاح؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5219 - الثلثاء 20 ديسمبر 2016م الموافق 20 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً