العدد 5220 - الأربعاء 21 ديسمبر 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1438هـ

قصة قصيرة... خروج نهائي

أسماء أبوالقاسم

قاصة مصرية

على أطراف قريتنا تقف أشجار الأثل تنشر الظلال الرطبة، وفي وسطها تجرى خطوط الترع المتعرجة محفوفة بأشجار الصفصاف والكافور طويل القامة الذي يشبع أروحنا راحة وألفة.

لم يخطر لي يومياً أن أتركها وأرحل بعيداً لأعيش ميسور الحال وضائق النفس في الوحدة المزدحمة بوجوه لا أعرفها. تجرى عجلات القطار متجهمة في صخب بعيداً عن تواضع الحال وقلة الحيلة في القرية المدللة بين أحضان ضفة النيل الزرقاء وجبل شامخ بعيد يقف على حافتها.

بائع السمك كبير السن رقيق الوجه يضع مقطفاً كبيراً من أسماك البلطي أمامه على الأتان البيضاء يشد صوته أمعائنا.

-البلطي، البلطي بعشرة.

نفتش جيوبنا لا يوجد بها الكثير نطل عليه بنظراتنا الجوعى، يتمهل ويعطينا على أمل أن ندفع في فرصة أخرى، تنتشر الرائحة الشهية في كل البيوت المتلاصقة، الغداء اليوم موحد على طبالي أهل القرية.

أعتدل في الجلسة فالقطار الهادر لا يتوقف خوفاً من أن أقفز عائداً، لا شيء يطمئن فؤاده بأني لن أعود مرة أخرى.

بائع الملابس يطوف على الدراجة بين الدروب الضيقة يشدو.

-        اشترى ده شغل بورسعيد مستورد يا حاجة.

تقلب أمي الأقمشة والقمصان بفرحة ولا تنفك تحكي له عن أجمل أيامها عندما كانت تشترى كساءها بصاع من الغلة، يمضي ببضاعته بعيداً ضاحكاً من العجوز التي مازالت تذكر القرش" وكأنه عملاق البحر وليس عملة تواصل هبوطها بقوة.

أقلب محفظة النقود اشترى بيضة ورغيفاً وليس بي شهية؛ تركت لهفتي على الطعام في السوق الصغير تحت شجرة "الجميز" العتيقة، ألعق أصابعي بعد تناول المانجو وأمسح شفاهي المتورمة بعد أن التهم التين الممزق جلده، أبتلع حبات العنب المدورة من حائط جارنا الذي دوماً يزجرنا وبقوة.

تدور طفلة صغيرة بدميتها أمامي لاهية عن كل ما حولها تحضنها وتعانقها وليت أطفالي دمى صغيرة لا تشكو الجوع ولا تخش من عتمة المستقبل.

تتوقف ضجة الرحيل فجأة أهبط بشنطة صغيرة، القليل من الملابس يكفيني، وأكبر حقيبة أمتلكها هي ذكريات بين الحقول الخضر، وسوق القصب الحلوة، وخشونة يدي من فأس كنت كل فجر أضمها، أزرع القمح لصوامع الفارغة في أرض ضاقت على أهلها وخوف من سنوات عجاف تدنو وتغمرنا.

أغوص في الأريكة المتهالكة، سائق الأجرة ثرثار جداً لا يتوقف عن الشكوى، أستمع إليه مكرهاً، ينغص حديثه صدري وينكت نار جروح في قلبي، تقاطعه الاتصالات المتكررة من أصدقائي وأهلي، أشيح بوجهي بعيداً أتابع متحفاً مجانياً لحقبات التاريخ في طرقات القاهرة ومساكنها فهذه أول مرة أراها.

وكأن السائق علم الخبر؛ حيث يدور بين الشوارع والطرقات كأني في جولة تملأ بنت المعز بروعتها فداخلي جهل بعبق تواريخ مرت بين جنباتها، وقلاع الماضي تواجهني وتحفر أثرها القوي في نفسي. علمت العاصمة أنها لحظات الوداع فسكب كؤوس العشق في روحي، تبادرني الدموع تمسح الطرقات التي لا تشبه قريتي ولا تعرفني، أنا من أحرقت شمس الصيف بياض وجهي وصبغت السمرة ملامحي. أرفع حقيبتي فوق ظهري وأمضي بشهادة الهندسة من جنوب الوادي قدِمت أبحث عن رزقي، ترتفع الطائرة في كبد السماء وكلما ارتفعت يصغر كل شيء في عيني.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً