العدد 36 - الجمعة 11 أكتوبر 2002م الموافق 04 شعبان 1423هـ

المساومة التاريخية بين القوى السياسية

ما هو الجديد في الانتخابات المغربية؟

صالح بشير comments [at] alwasatnews.com

.

ما الذي حدث فعلا في المغرب يوم 27 سبتمبر/ أيلول الماضي؟ شهد ذلك اليوم انتخابات نيابية، أجمع المراقبون، فيما عدا قلة اعترضت عليها داخل المغرب نفسه من دون أن يمسها سوء (وهذا بدوره ما يستحق التنويه)، بأنها كانت نزيهة وشفافة، كما لم يُقيّض لأي اقتراع سابق في ذلك البلد منذ أمد بعيد، أفضت إلى رسم خريطة أمينة، أو أقرب ما تكون إلى الأمانة، للواقع السياسي، واعتُبرت بذلك محطة حاسمة على طريق إرساء ديمقراطية ناجزة، باتت تبدو، إن لم يجدّ ما من شأنه أن يؤول بها إلى الانتكاس، في المتناول، ما يجعلها، تبعا لذلك، حالا أقرب ما تكون إلى الفرادة على صعيد المنطقة برمتها.

لكن مثل ذلك الكلام، وإن صح، لا يعدو أن يكون من قبيل التوصيف، إذ هو يبقى دون القدرة على تفسير تلك التجربة المغربية، وسبر آليتها العميقة وما الذي جعلها ممكنة الحدوث. ذلك أن الاقتراع الأخير لم يجترح التعددية في ذلك البلد، فهذه كانت قائمة، تبدّت، خلال السنوات الأربع الماضية، في «حكومة التناوب» (حسب الاصطلاح المغربي)، تلك التي شكلها حزب الاتحاد الاشتراكي، مع عدد من الأحزاب الأخرى التي ائتلفت حوله، وتولت مقاليد الأمور، أو قسطا من تلك المقاليد على الأقل، خلال الفترة المذكورة. بل أن تلك التعددية كانت قائمة قبل ذلك، منذ فجر الاستقلال عن فرنسا في العام 1956م، إذ أن من الخاصيات المميزة للحال المغربية، قياسا إلى جوارها القريب والبعيد، أن الصراعات بين السلطة (أي القصر) والمعارضة لم تبلغ يوما، حتى في أحلك الظروف وأقساها، درجة الإقدام على إلغاء الحياة الحزبية إلغاء مبرما.. ربما عاد ذلك إلى قدر من الحكمة وبعد النظر اتسم بهما العاهل الراحل الحسن الثاني، أو ربما عاد إلى قوة الأحزاب المغربية، تلك التاريخية والرامية بجذورها في نسيج المجتمع بشكل خاص، أو إلى الفارق بين الاستبداد التقليدي والتوتاليتارية، إذ يكتفي الأول بالقمع، وإن بشراسة، في حين تقوم الثانية، فضلا عن ذلك، بالنزوع إلى اجتثاث القوى الواقعة خارجها كلها وإلى الحلول محلها، على نحو شامل وعلى كل الأصعدة كلها.

جديد الاقتراع المغربي الأخير لا يتمثل إذن في الإقرار بالتعددية، ولا حتى في التعبير عنها بأمانة، طالما أن كل ممارسات التزوير السابقة لم تفلح يوما في التستر على ذلك الواقع التعددي، وذلك ما كانت تعلمه وزارة الداخلية، في عهد إدريس البصري كما في العهود التي سبقته، قبل سواها. التحوّل الأساسي الذي حصل في المغرب، وشكل بداية انتقاله إلى الديمقراطية على نحو جدي، هو من غير تلك الطبيعة، وهو لا يعود إلى هذه الانتخابات، بل إلى تلك التي سبقتها. أما الأساس الذي قام عليه، فهو ضرب من «مساومة تاريخية» بين القصر والمعارضة، مفادها الانتقال من طور النزاع على السلطة، إلى طور اقتسامها.

تلك «المساومة التاريخية» التي كان للعاهل المغربي الراحل فضل اقتراحها وكان للزعيم الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي فضل الاستجابة لها، وضعت حدا لنزاع أهلي، بارد في الغالب ومفتوح في بعض الأحيان، كان قائما منذ الاستقلال، أو على نحو أصح، منذ أن اعتلى الحسن الثاني عرش أسلافه، إذ أن عهد والده محمد الخامس كان في الحقيقة لحظة إجماع وطني نادر، نشأ في حمأة مقارعة الاستعمار الفرنسي ثم في غمرة نيل الاستقلال. وقد كان ذلك النزاع الأهلي، ككل نزاع من قبيله تقريبا، عبارة عن مواجهة بين شرعيتين، تلك الدينية والتاريخية المكين والتي يتمتع بها العرش العلوي في المغرب، وتلك الشعبية (والتاريخية أيضا)، الحديثة أو شبه الحديثة، التي تتطلع أحزاب المعارضة إلى التعبير عنها.

وفي أثناء ذلك النزاع، لم تكن أحزاب المعارضة دوما مجرد ضحية للكفاح من أجل الديمقراطية، على ما كانت دعايتها، ولا تزال وإن بحدة أقل، تقول، ولا كان العرش دوما في موقع الدفاع عن النفس، كما كان، وربما لا يزال، أنصاره يزعمون. بل حصل شطط من الجانبين، وإن كان ذلك الذي مارسه مَن يمتلك أسباب السلطة وأدوات القسر، أشد وطأة بما لا يقاس.

أما «المساومة التاريخية» التي سبقت الإشارة إليها، فقد تحققت عندما تم الانتقال من طور المواجهة بين تينك الشرعيتين، إلى طور المصالحة على قاعدة التعايش بينهما. كان على المعارضة، وخصوصا الاتحاد الاشتراكي أن ينجز ثورة في ثقافته السياسية، التي كانت ترى في العمل البرلماني مجرد «واجهة» لنضاله السياسي، تُبيّت وراءها ما تبيت، ليصبح ذلك العمل البرلماني مجال نضاله السياسي حصرا، كما كان على القصر أن يقوم بخطوة مماثلة، جعلته يكف عن البذل من شرعيته، ليصطنع تمثيلية شعبية مزيفة، من خلال تلك الأحزاب التي كانت وزارة الداخلية تسهر على فبركتها، وكان المغاربة يطلقون عليها اسم «أحزاب الإدارة». وقد كانت وراء ذلك التحوّل الحاسم في الحياة السياسية المغربية، عوامل كثيرة، تضافرت وتواشجت، من بينها الوعي بأن ذلك النزاع الداخلي لا يمكنه أن يستمر هكذا إلى ما لا نهاية، وقضية الصحراء الغربية التي أعادت، في مواجهة الأخطار الخارجية وبهاجس استعادة الوحدة الترابية، إحلال مناخ من الإجماع الوطني كذلك الذي كان قائما أثناء مرحلة الكفاح ضد الاستعمار وغداتها، هذا ناهيك عن بروز طلب خارجي، أوروبي أساسا، ملحّ على الديمقراطية، كان لزاما على المغرب، الذي تربطه بالغرب أواصر اقتصادية وسياسية وثقافية وثيقة، أن يبادر إلى الاستجابة له بشكل من الأشكال.

لذلك كله، كان لابد من التوصل إلى مصالحة بين الشرعيتين المذكورتين، تلك الدينية والتاريخية التي يجسدها العرش، وتلك التمثيلية التي تجسدها الأحزاب السياسية، وكان لابد لتلك المصالحة أن تندرج في الواقع الملموس من خلال ضرب من تقاسم السلطة: للعرش وزارات السيادة، المعبّرة عن كنه الأمة وعن توجهاتها الأساسية والكبرى (الخارجية والدفاع والداخلية إضافة إلى الأوقاف، وهي وزارة استراتيجية في المغرب)، وللأحزاب وزارات التسيير، تلك التي تتولى تدبير الشأن العام، في ابعاده اليومية إن صحت العبارة، من اقتصاد واجتماع وتعليم وما إليها.

قد تكون تلك القسمة مجحفة وغير عادلة، على ما يقول المعترضون على التجربة المغربية، وقد يكون نصيب القصر منها أكبر من نصيب الهيئات التمثيلية، غير أن مزيّة تلك الصيغة، في هذا الطور الانتقالي، أنها إذ أخرجت تلك الصلاحيات السيادية من حيّز الصراع السياسي بين الأحزاب، بأن أوكلتها إلى القصر، من شأنها أن توفر لعملية الانتقال الديمقراطي ظروف الاستقرار ومناخا من السلم الأهلي.

كان على تلك الصيغة التي أُقرت قبل أربع سنوات أن تكتسب صدقيتها، من خلال تأكيد الطابع الحيادي، والمتسامي على نزاعات الأحزاب وخلافاتها، لتلك السلطات التي يمتلكها القصر، والتي يفترض فيها أن تكون مناط الإجماع الوطني، وذلك ما يبدو أن الانتخابات النيابية الأخيرة قد حققته، أو حققت منه الكثير، إذ برهنت وزارة الداخلية (وهي من وزارات الملك)، التي رعت العملية الانتخابية وسهرت على تنظيمها، على قدر من الحيادية ومن النزاهة ملحوظين، وبالتالي، على أن السلطات التي يحوز عليها العرش، لا تفعل فعلها لصالح هذا الطرف أو ذاك، وأن هاجسها هو الصالح العام، ذلك الذي ترعاه مرتبة تقع فوق مختلف الأهواء والنزعات.

صحيح أن الديمقراطية لن تكتمل في المغرب إلا بإحالة أكبر قدر من السلطات، بما فيها تلك السيادية، إلى الحيز المدني والتمثيلي، لكن ما لا شك فيه أن الانتخابات النيابية الأخيرة قد شكلت خطوة في ذلك الاتجاه، ونحو ذلك الهدف، بقطع النظر عن الآجال

العدد 36 - الجمعة 11 أكتوبر 2002م الموافق 04 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً