العدد 5230 - السبت 31 ديسمبر 2016م الموافق 02 ربيع الثاني 1438هـ

ما علاقة أداء السياسة المالية بسياسة التقشف؟

جعفر الصائغ

باحث اقتصادي بحريني

هل انخفاض الإيرادات العامة سببٌ كافٍ لوقف الدعم وإلغاء المشاريع التنموية؟ وماذا يعني اقتصادياً اللجوء إلى التقشف كأداةٍ لمعالجة التوازن المالي في الاقتصاد؟ لقد ذهب بعض الباحثين الاقتصاديين في مناقشتهم لسياسة التقشف إلى تحليل بعده الاجتماعي وقياس التكلفة الاقتصادية، حيث خلصوا إلى نتيجة واحدة وهي أن التقشف سياسة خطيرة على نمو واستقرار الاقتصاد، ويدفع ثمنها الفقراء وذوو الدخل المحدود.

لقد أعِدت دراسات وكتبت مقالات عدة حول هذا الموضوع، إلا أن غالبية تلك الدراسات حصرت مناقشتها في الأبعاد الاقتصادية ولم تناقش العلاقة ما بين السياسة المالية أو الاقتصادية وسياسة التقشف... وهذا ما سوف أتناوله في هذا المقال.

ولنجاح السياسة المالية التوسعية وتحقيق أهدافها، يتطلب تفاعل هذه السياسة مع القرارات الاستهلاكية والإنتاجية للقطاعات الاقتصادية الأخرى، حيث أن هذا التفاعل هو الذي يحدّد مسار النشاط الاقتصادي الفعلي وفعالية السياسة المالية في تحقيق الأهداف المرجوة منها. فعلى سبيل المثال، إذا كان الهدف هو تنشيط حركة الاقتصاد الكلي وتخفيض معدلات البطالة من خلال ضخ المزيد من الأموال أو تخفيض معدلات الضرائب المختلفة على الدخل والأرباح، وجاء ذلك في الوقت الذي تسيطر فيه نوع من التوقعات التشاؤمية على قرارات رجال الأعمال والمستثمرين، فإنه لا يمكن للسياسة المالية تحقيق أهدافها المرجوة. وفي حالة التضخم الكبير، قد تفشل السياسة المالية في التأثير على الطلب الكلي على السلع والخدمات وتخفيضه إلى مستويات أقل عندما تكون توقعات المستهلكين يشوبها القلق وعدم الثقة في القيمة الشرائية للعملة المحلية وتوقع استمرار تدهورها.

أما سياسة التقشف فيقصد بها إجراءات حكومية لخفض هائل وتدريجي في الإنفاق العام، أو لزيادة كبيرة في الإيرادات العامة من خلال زيادة الرسوم أو الضرائب المباشرة أو غير المباشرة المفروضة على المواطنين. وعادةً ما تكون تدابير التقشف قصيرة الأجل وتهدف في الأساس إلى تحقيق التوازن المالي ومن ثم إلى تحسين مستوى المعيشة والأوضاع الاقتصادية والمالية. وتكون هذه السياسة الخيار الأخير للحكومة كأداةٍ للتغلب على العجز المالي المتصاعد في إنفاق غير قابل للاستدامة. أي عندما تكون الدولة غير قادرة على دفع الفواتير المالية لمستحقيها وعاجزة عن القيام بالتزاماتها المالية تجاه الآخرين وذلك إما بسبب تدني مستوى الإيرادات العامة أو بسبب ارتفاع في الإنفاق العام. أي أن حجم الإنفاق المقدّر يربو على حجم الإيرادات المتوقعة خلال السنة المالية، الأمر الذي يؤدي إلى وجود عجز في الميزانية وارتفاع في الدين العام.

وتحاول الحكومات تفادي أي تفاقم في العجز والدين العام، حيث له تأثيرات اقتصادية ومالية خطيرة، فهو يقلل من قدرة الدولة على الاقتراض من الداخل والخارج، ومن قدرتها على تحقيق نمو اقتصادي، ويساهم في ارتفاع الأسعار، وفقدان الاحتياطي النقدي، وقد يجبر الدولة على خفض سعر العملة، ومن الصعب تحقيق نمو اقتصادي حقيقي في ظل تفاقم العجز والدين العام.

فالتقشف هو إجراءات حكومية تستهدف خفض النفقات العامة حين تنخفض إيرادات الدولة وتكون غير كافية لتمويل مصروفاتها. أي هو برنامج حكومي عنوانه الظاهري الحد من الإِسْرَاف والاستِهلاك غير الضروري والاكْتِفاء بالنفقات اللازمة لتسيير الاقتصاد وأمور المجتمع، ولكن الواقع أن هذا البرنامج يشمل وقف بنود حيوية كثيرة في الميزانية العامة مثل مشروعات البنية التحتية، الدعم الحكومي والمساعدات الاجتماعية الحكومية التي تستهدف الفقراء والمحتاجين، والعلاوات أو أي زيادة في الأجور والرواتب، وقد يشمل أيضاً خفض نفقات التعليم والصحة، بحجة أن هذه الخدمات تكبد الدولة مبالغ كبيرة، بالإضافة إلى وقف التوظيف في القطاع العام أو تقليصه إلى حدوده الدنيا.

الحكومات التي تلجأ كثيراً لسياسة التقشف تبرر ذلك بانخفاض إيراداتها العامة وغياب الخيارات الأخرى. ولكن ما مدى صحة ذلك في الاقتصاديات الخليجية؟

المجتمع الخليجي والذي يعتمد اقتصاده على النفط كمصدر أساسي لإيرادات الدولة، اعتاد على سياسة التقشف منذ الطفرة النفطية في بداية سبعينات القرن الماضي، فبعد كل انخفاض في أسعار النفط تلجأ دول المجلس إلى خيار التقشف. وكلما كان الانخفاض في أسعار النفط أكبر كلما كان التقشف أوسع وأشمل وأكثر تأثيراً وضرراً، ليس على ذوي الدخل المحدود فحسب وإنما على الاستقرار الاقتصادي الخليجي.

إن الاستخدام المفرط لسياسة التقشف لا يعني بالضرورة إجراء تحصيل حاصل في السياسة الاقتصادية لتعويض انخفاض الإيرادات العامة، كما أنه لا يعبّر أيضاً عن مصاعب مالية تواجه الدولة، وإنّما يعكس عيباً في الاستراتيجية الاقتصادية وخللاً في السياسة المالية وضرورة إعادة النظر في النظام الاقتصادي للدولة. فدول مجلس التعاون والتي تعتمد اعتماداً كلياً على النفط بنسبة تتراوح ما بين 85 إلى 90 ‎%‎ من إجمالي الإيرادات العامة، تعتمد على الميزانية العامة كأداة استراتيجية في صرف واستغلال الإيرادات النفطية، حيث تقوم الدولة بتحويل تلك الإيرادات على الوزارات والمؤسسات الحكومية لتمويل المشاريع والخدمات في مختلف القطاعات الاقتصادية، وهذا يعني أن النشاط الاقتصادي يعتمد على ما تضخّه الدولة من بترو دولار في الاقتصاد. بمعنى آخر أن حجم الاقتصاد الوطني أصبح مرتبطاً بحجم الإيرادات النفطية التي تعتمد عليها الدولة في تمويل المصروفات العامة.

إذن السبب الرئيسي لسياسة التقشف في مجلس التعاون هو ليس انخفاض أسعار النفط فقط وإنما هو أيضاً بسبب الاعتماد الكلي على القطاع النفطي وعدم القدرة على تنويع مصادر الدخل. ولذلك حين تنخفض أسعار النفط وتتقلص الإيرادات النفطية تكون الدولة أمام خيار واحد فقط وهو خفض النفقات العامة وترشيد الإنفاق، حتى وإن تضرر من ذلك الاقتصاد الكلي وتراجع معدل النمو ودفع ذوو الدخل المحدود تكاليف التقشف.

في السياسة المالية أساليب وأدوات مختلفة تستخدمها الحكومة لتحقيق التوازن المالي والاقتصادي، فقد تنتهج الحكومة سياسة مالية توسعية عندما يكون النشاط الاقتصادي العام في حالة ركود وبطالة، وتنتهج سياسة مالية انكماشية في حالة الموجات التضخمية الكبيرة المهددة لاستقرار الاقتصاد. كما قد تنتهج سياسة مالية تقشفية صارمة في حالة استمرار تفاقم العجز المالي. والسياسة المالية التوسعية هي عبارة عن زيادة الإنفاق الحكومي بمكوناته المختلفة، أو تخفيض الضرائب المختلفة، أو كلا السياستين معاً. ويمكن من خلالها تحقيق زيادة الطلب الكلي ومن ثم تحريك الاقتصاد لتحقيق النمو الاقتصادي.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"

العدد 5230 - السبت 31 ديسمبر 2016م الموافق 02 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً