العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ

اليسار العربي... الانبثاق والنهوض والانحسار (5-5)

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

الورقة التي قدمتها مليكة رحال الباحثة في مؤسسة الأزمنة المعاصرة في باريس، بعنوان الحزب الشيوعي الجزائري داخل - خارج، المراوحة ما بين الزبونية والشرعية. يعتبر الحزب الشيوعي الجزائري الوحيد من بين القوى السياسية الجزائرية، إلى جانب جبهة التحرير الوطني بالطبع، والذي نجا من إعصار حرب التحرير الجزائرية، وجني ثمار الاستقلال. ومع اندلاع حرب التحرر في 1955 فقد نزل الحزب الشيوعي تحت الأرض، وقد شكل الحزب كتائب قتالية خاصة به، وجاء اتفاق الحزب مع جبهة التحرير في 1956 ليدمج هذه الكتائب في جيش التحرير الوطني، أضحى الحزب شرعياً لفترة قصيرة من حكم الاستقلال في 1963 في ظل قيادة أحمد بن بيلا، حيث خرج الكثير من قياداته وكوادره من السجون ورجوع المنفيين، حيث عهد الحزب إلى إرسال الكثير من كوادره إلى فرنسا وطلبته إلى الدول الاشتراكية، لوصل العلاقات مع الأحزاب الشيوعية والحركة الشيوعية لكن دولة الاستقلال سرعان ما ألغت الأحزاب باستثناء «جبهة التحرير الوطني»، ومن هنا وجد الحزب الشيوعي نفسه في مأزق داخلياً، حيث لم يكن راغباً بالاصطدام بالحكم الوطني وكذلك على صعيد الدول الاشتراكية التي لم تكن تريد أن تغضب النظام الجديد في الجزائر. وجاء انقلاب بومدين في 1965 ذات التوجه الإسلامي والذي عارضه الحزب ليدفعه مجدداً للعمل تحت الأرض بعد أن ووجه بالقمع، ووجد قادته أنفسهم في السجون، حيث أقدم من تبقى منهم حراً إلى تشكيل حزب الطليعة الاشتراكية. لكن حدث تطوران مهمان في علاقات الحزب بالنظام: وهما موقف بومدين الوطني تجاه حرب 1967، ثم قيام بومدين بالتفاهمات الكبرى للمصالح الفرنسية وخصوصاً قطاع النفط والغاز، مدشناً توجهاً لقيادة الدولة للاقتصاد ونمو القطاع العام، بحيث إن قادة الحزب كتبوا رسالة تأييد لبومدين من داخل السجن. وحدثت الانفراجة بموت بومدين، وارتخاء القبضة الأمنية في عهد بن جديد في 1989، حيث ظهر الشيوعيون من تحت الأرض، بعد أن تم شرعنة التعددية الحزبية، والعمل السياسي العلني؛ ولكن ذلك توافق مع المد الإسلامي وطغيان الجبهة الإسلامية، وفوزها الساحق في الانتخابات البلدية، وما تبعه من استقالة بن جديد، وتدشين الحرب الأهلية الدامية. وهكذا تعالج المؤلفة ظاهرة تذبذب الأحزاب الشيوعية في عدد من الدول العربية ما بين الزبونية للحزب الحاكم الذي يطرح شعارات تقدمية بل واشتراكية ولكن بطبيعة استبدادية ويتمتع بعلاقات قوية مع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كما هو الحال في الجزائر ومصر والعراق وسورية، مما يحرض هذه الأحزاب لإكراهات صعبة. كما تناقش الورقة بنقدية طبيعة جبهة التحرير الوطني، وهل هي اشتراكية وتقدمية فعلاً أم وطنية استبدادية وطبيعة الحزب الشيوعي ومن بعده حزب الطليعة الاشتراكية، وهل تمثل الكادحين والعمال بشكل خاص أو نخبة الطبقة الوسطى؟

الورقة الرابعة للباحث إيليوت، وكانت بعنوان مانفستو الحركة، قصيدة أمل دنقل، أغنية كاكا الحجرية ويعرض فيها التفاعل ما بين الشعر الثوري لأمل دنقل، والانتفاضة الطلابية المصرية في 1972 حيث عمد الطلبة بعد أن أغلقت قوات الأمن جامعتي القاهرة وعين شمس في 24 يناير/ كانون الثاني العام 1972، إلى النزول إلى الشوارع واحتلال ميدان التحرير حيث خلقوا جواً من الحماس والحرية مرددين الأغاني الثورية والاستماع للخطب الحماسية ومحاولة جر المارة للتفاعل معهم، لكن قوات الأمن قامت بإجلائهم من الميدان وتفريقهم بكل قسوة، وكان أمل دنقل من بين المثقفين القلائل الذين شاركوا الطلبة الاعتصام في ميدان التحرير، وتفاعل معهم وألهمته قصيدة «أغنية كاكا الحجرية» التي نشرها في صحيفة أدبية طليعية «سنابل» وكان يرأس تحريرها محمد عفيفي مطر، وقد لقيت القصيدة والمجلة رواجاً كبيراً، بحيث جرى إغلاقها، وكان دنقل بذلك يختبر ما عرف بقصائد البكائيات ومنها قصيدة «لا تصالح». ويقارب البعض قصائد دنقل بقصائد فيديريكو لوركا، شاعر المقاومة الإسبانية الذي أعدمه فرانكو، وقد مثل الشاعر الجسور التي كسرت المحرمات ولكن بشعرية مرهفة.

قدم الباحث نات جورج الورقة الخامسة ولكن بمعالجة للثورة المضادة في لبنان، ومؤدلجها شارل مالك، بعنوان «حل يوم القيامة على هذا الجيل، جبهة التحرير والإنسان في لبنان» ويطرح الباحث بأنه لا يمكن فهم اليسار العربي ومنه اليسار اللبناني من دون تقصي وفهم البيئة المعادية والقوى المضادة للثورة، والتي انبثقت كتعبير عن القوى الرجعية، فقد كانت مدعومة بقوة من القوى الخارجية، بحسب مقولة أمو ماير «لا ثورة بدون ثورة مضادة».

وقد كان لبنان كساحة للحرب الباردة، مختبراً للثورة والثورة المضادة وأحد تجلياتها الحرب الأهلية من 1975 حتى 1989، والاجتياحات الإسرائيلية، والأميركية، ومع صعود القوى الوطنية اللبنانية في ظل الوجود الطاغي للثورة الفلسطينية، فقد استجمعت القوى المضادة صفوفها وعمادها المارونية السياسية، وشكلت الجبهة من أجل الحرية والإنسان في لبنان؛ لكن الاستثناء هو كون منظرها ومؤدلجها الأرثوذكس شارل مالك، السياسي والأكاديمي البارز، والذي تعدى دوره لبنان، ليبرز كأحد منظري اليمين في الولايات المتحدة وأوروبا، والتحالف ما بين الشركات العابرة للقاءات والنخب الحاكمة في الرأسمالية الغربية.

وكان عنصر ارتباط ما بين جبهة لبنان، والكنسية التبشيرية الأميركية والفاتيكان والأجهزة الاستخباراتية الغربية، وما بين تنظيمات اليمين في لبنان والمهجر، وقد أسهم في صياغة ايديولوجية المحافظين الجدد في مواجهة الايديولوجية الاشتراكية، والتنظير للحرب الباردة تحت شعار العالم الحر، كرابط ايديولوجي في تسعير الحروب الأهلية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية كاستراتيجية مركزية للإمبراطورية الأميركية للهيمنة على العالم الثالث، وإسهامه في تأكيد مركزية الغرب مقابل هامشية باقي العالم.

الورقة السادسة والتي قدمتها إليزابيث هولت فتناولت جانباً آخر من الثورة المضادة الناعمة، بعنوان العالم السري للصحافة العربية، أرشيف الخمسينيات والستينيات في بيروت والقاهرة، عرضت فيها لمخطط وكالة المخابرات المركزية لاختراق الوسط الثقافي العربي. وتعرض الورقة لإطلاق المخابرات المركزية الأميركية مشروع مؤتمر الحرية الثقافية في 1950 مدشنة بذلك ما عرف بالجبهة الثقافية الأميركية العالمية في خضم الحرب الباردة كأداة دعاية للقوة الناعمة، ضمن سلسلة واسعة من الفعاليات مثل المؤتمرات الثقافية، والحفلات الفنية والمعارض وإصدارات أدبية والمجالات الثقافية. وتستند الباحثة إلى ما كشف عنه من أرشيف الرابطة الدولية للحرية الثقافية في جامعة شيكاغو، حيث تكشف كيف استطاع مؤتمر الحرية الثقافية ومن خلفه وكالة المخابرات المركزية من اختراق الحياة الثقافية العربية، وذلك في توقيت ذات معنى أي في 1955 أي بعد انعقاد مؤتمر باندونج والذي أسس لكتلة «عدم الانحياز» والتضامن الآسيوي الإفريقي ذات المضمون المعادي للولايات المتحدة. وقد أسس مؤتمر الحرية الثقافية لحضور له في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. واستهدف في الوطن العربي بيروت والقاهرة لما لهما من دور مركزي في الثقافية العربية وبالتالي في الحياة السياسية العربية. وتكشف وثائق الأرشيف قلق المخابرات المركزية الأميركية من تأثيرات روح باندونج، وتأثيرات موسكو على الثقافة العربية والإسهام في تجذرها وراديكاليتها.

وأحد تجليات هذا المشروع إطلاق مجلة «حوار» من بيروت، والتي رأس تحريرها توفيق الصايغ خلال (67 - 1962) والتي نجحت في مد شباكها إلى الكثير من المثقفين العرب تحت شعار الحرية الثقافية وللترويج للقيم الغربية، ومنهم نجيب محفوظ، ويوسف الخال، وأدونيس، وسهيل إدريس، وليلى بعلبكي. والسؤال هو كيف انطلت هذه الخديعة على العرب لسنوات.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً