العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ

أوهام كثيرة وحقائق قليلة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في كل مرة نكتشف أن الأوهام من حولنا كثيرة، وأن الحقائق أمامنا قليلة. فهذا العالم به 193 دولة (المسجلة رسميّاً في الأمم المتحدة). وهذه الدول تتمايز فيما بينها من حيث القوة والثراء والسِّعَة والموقع. شعوب تلك الدول محكومة من قِبَل نخب. هذه النخب إما تنتمي إلى جماعات أو شركات ضخمة أو شلليات. لذلك، فالسبعة مليارات إنسان تحكمها طبقة أوليغارشية مترسّخة.

تلك الطبقات المتنفذة عادةً ما تحكمها مصالح خاصة. تلك المصالح لا تجعلها إلاّ أن تعمل وفق قنوات مُحددة وسرية لا يُتاح فيها للإنسان العادي فهم المسارات الحقيقية لها. بل هي ذاتها تخضع لموازين القوى الذي يسود العالم؛ فالدول القوية تهيمن على الضعيفة. والأخيرة تلوذ بمَن هو أقوى منها للحماية. أما الدول الكبيرة فهي تتصارع برؤوسها كي يكسر كلٌّ الآخر.

كل هذا التعقيد لا يسمح إلاّ بإبراز صورة افتراضية وليست حقيقية لما يجري في هذا العالم. فعندما يقع حدث ما فإن ذلك الحدث يقرأه الناس (في غالبيتهم) بالطريقة التي لا تعكس حقيقة ما جرى؛ لأن معرفة الحقيقة لا تسمح للاعبين في السياسة والاقتصاد باستثماره، ووضعه في المدار الذي يحفظ لهم تلك المصالح. من هنا ينشأ الخداع وإبعاد الصدق وإحلال الكذب مكانه.

قبل أيام كنتُ أستمع إلى مقابلة مهمة جداً مع أيغور بانارين، وهو مسئول روسي سابق متخصص في الحرب النفسية والهجينة. هو يحمل شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية، ومتخرج من المعهد العسكري وكلية علم النفس في موسكو. مجال عمله هو التحليل الاستراتيجي للمعلومات السرية، وإدارة الإعلام في حالة الأزمات. لقد قال هذا الرجل كلاماً خطيراً.

بانارين لا يعتقد أن الحوادث تجري وفق تحولات طبيعية بالضرورة، بل عادةً ما تجري وفق تخطيط، وإن جرت بشكل طبيعي يتم استغلالها. هو لا يعتبر ذلك ثقافة مؤامرة؛ بل حقائق لوجود آلاف الوثائق التي تؤكّد ما يقوله. هو يعتقد أن الذين يمارسون التحليل الاستخباراتي الاستراتيجي لديهم مصادر وقنوات إضافية للمعلومات ووثائق سرية من مصدرها الأصلي لا تقع في يد الإنسان العادي.

هو يرى أن الإنسان العادي يمارس التحليل من خلال فضاء صِيْغ له من جهة محددة «في السلطة»، وبالتالي ليس بحوزته مصادر بديلة. فتلك الجهة تُنَمْذِج له «الحوادث العالمية المهمة» وفي ذات الوقت تُفهِمه أن «المحللين الاستخباراتيين» هم «أصحاب نظرية المؤامرة»، وذلك بهدف الإمعان «في تضليل المواطن البسيط»، لذلك تبقى «الوقائع التي يعرفها الناس هي تاريخ افتراضي».

يقارب بانارين تداول المعلومة الصحيحة والافتراضية مع الذي جرى في روسيا القيصرية (1917) والاتحاد السوفياتي (1991)، وكيف كانت الحوادث تُصاغ بالطريقة التي يُراد لها أن تُقدّم. وفي كلتا التجربتين (تفكيك روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية)، كان العمل واحداً. ويستشهد في الأولى بما كتبه وزير الداخلية في الحكم القيصري بيوتور دورنوفوف، وفي الثانية بالسفير الأميركي في موسكو خلال أربعينات القرن الماضي جون فروست كينن.

لقد كان الهدف في كلا التغييريْن هو الثروات الروسية. فخلال أحداث الثورة البلشفية قال إدوارد هاوس مستشار الرئيس الأميركي آنذاك وودرو ويلسون (1856– 1924): «روسيا كبيرة إلى حدّ مفرط ومتجانسة. ولابد من إرجاع مساحة أراضيها إلى المرتفعات الروسية الوسطى. عندئذٍ ستكون أمامنا صفقة نظيفة نرسم عليها مستقبل الشعوب الروسية».

وبعد عدة سنوات كرّر زبغنيو بريجينسكي مستشار الرئيس جيمي كارتر للأمن القومي ذلك بالقول: «من شأن سيبيريا أن تغدو ثروة تاريخية هائلة بالنسبة للأوروبيين، كما غدت في حينه آلاسكا وكاليفورنيا بالنسبة للأميركيين. يمكن لسيبيريا مع الزمن وفي ظل حضور أوروبي واسع النطاق، أن تتحوّل إلى ثروة أوراسية عامة يمكن استغلالها على أساس متعدد الأطراف». وقد قَصَد بذلك أن تتحوّل سيبيريا إلى مناطق أممية خاضعة للشركات متعددة الجنسيات كما يرى بانارين.

وخلال التغيير الأول (تفكيك روسيا القيصرية) وابتداءً من العام 1918 ولغاية العام 1929، كانت الشركات الغربية تشحن مخزون الذهب الروسي إلى الخارج. ولم تتوقف إلاّ عندما جاء ستالين ومنعها. عندها عاود مخزون الذهب الروسي في الارتفاع إلى 1800 طن.

التغيير الثاني (تفكيك الاتحاد السوفياتي) عام 1991، كانت بدايته برقية جون فروست كينن في العام 1948! وبعد أن بدأ العمل بمشروع هارفرد لدراسة المجتمع السوفياتي كما يقول بانارين. وبحسب قوله، فقد غادر 250 ألفاً من الروس إلى فرنسا بعد الثورة البلشفية. وقد قرّر الأميركيون أن يُجروا على قسمٍ من هؤلاء تجارب سوسيولوجية لاستخلاص مواصفات معينة للاوعي الجمعي للشعب الروسي، لمعرفة أماكن الضعف والقوة في العقلية الروسية لتدمير العقيدة السوفياتية.

وكان التخطيط بعد انهيار هذا الاتحاد وفقاً للبند رقم: 1/20 لمجلس الأمن القومي الأميركي للفترة من 1945 إلى 1950 كالتالي: «فيما يتعلق بأي سلطة غير شيوعية إذا ما قامت على أراضي الاتحاد السوفياتي ينبغي التصرف على هذا النحو: يجب أن نخلق لها وضعاً بحيث: ألاّ تكون لديها قوة عسكرية كبيرة، وأن تكون تابعة للعالم الخارجي اقتصادياً، وألاّ تكون لها سلطة حقيقية على القوميات الرئيسية، وألاّ تقيم على أراضيها أي شيء يشبه الستار الحديدي». ولنا أن نتأمل ذلك.

وعندما جاءت اللحظة (1991) كانت تلك هي الحقائق بينما كانت شعوب العالم ومعهم الشعب الروسي يسمعون أشياء أخرى عمّا يجري. لم يكن أحدٌ يعلم أن شُحّ المواد الغذائية في موسكو في تلك الفترة من تفكك الاتحاد السوفياتي كان بسبب تعطيل دخول القطارات الممتلئة بتلك المواد ومنعها من دخول العاصمة، بينما كانت الصورة التي سُوِّقَت لسكان العاصمة هي أن هذه السلطة الشائخة والمتسلطة سبب هذه الكارثة، وأن بوريس يلتسين هو المنقذ لكم.

هكذا تتعامل الدول الكبرى مع بعضها. أما الدول الصغيرة فحكايتها أبسط من ذلك بكثير.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 6:00 ص

      مقال مفيد

    • زائر 4 | 5:17 ص

      جميل

    • زائر 3 | 1:53 ص

      الاستخبارات هي المتحكم في العالم الاستخبارات تعتمد تفكير معقد يصعب على الانسان العادي فهمه، بينما خطاب الرؤساء سطحي لتحريف فهم الراي العام للحقيقية.

    • زائر 2 | 11:17 م

      و نحن جاهلون. نمسك بالهاتف النقال و دون المطالعة او القراءة او البحث نفتي في أمور الدنيا و ننجم المستقبل بتنبؤات مزاجية.
      والله احنه مسخره و العالم يلعب بينا.

اقرأ ايضاً