العدد 58 - السبت 02 نوفمبر 2002م الموافق 26 شعبان 1423هـ

للحب قصة أخيرة... شاعرية الواقع

عند عرضه في موسم 1984، بدا للكثير من النقاد بأن المخرج رأفت الميهي بفيلمه (للحب قصة أخيرة) يؤسس أسلوبا جديدا في السينما المصرية، ويجمع بين الواقعية المؤلمة والجمال في الوقت نفسه. إذ استطاع الميهي (كمخرج) بهذا الفيلم أن يصل بصورته السينمائية الى درجة عالية من الإتقان والجودة بقدر عنايته بمعالجة الواقع بصدق. إن فيلم (للحب قصة أخيرة) مزيج من العلاقات الإنسانية المتناقضة، وهو - أيضا - مزيج من الحب والكراهية... الحياة والموت، إنه يتحدث عن الوضوح والغموض... عن الصدق والزيف... الصحة والمرض... الخرافة والعلم.

يقدم لنا رأفت الميهي بفيلمه هذا، ومن خلال كاميرا شاعرية ذات حساسية، موقعا سكانيا في وسط النيل (جزيزة وراق العرب)، عالم يكاد يكون منسيا ومعزولا عن تطورات المدينة، لا نعرف عنه شيئا. يقدمه لنا الميهي بواقعية حقيقة في مشاهد شديدة الخصوصية، متغلغلا بكاميرته بين أفراح الناس وجنازاتهم، أحلامهم ومعتقداتهم من شعوذة وطقوس. فالفيلم يتأرجح بين الخاص والعام، في بناء فني متماسك. فمن بين الخلفية الإجتماعية لمجتمع الوراق، تبرز عدة وجوه وشخصيات تنفصل عن الطابع العام لتأخذ طابعها الخاص، وليقدم الميهي من خلالها جرعات شاعرية قوية من العلاقات الإنسانية. فمثلا، هناك المدرس رفعت (يحيى الفخراني) وزوجته سلوى (معالي زايد)، والتي تزوجها رغما عن أمه المتكبرة (تحية كاريوكا)، بعد أن خيرته بين حبه وبين ثروة والده. رفعت مصاب بداء القلب، والموت يهدده في أية لحظة، لذا يتفق مع الدكتور حسين على كذبة مفادها أن تخطيط القلب الذي إطلعت زوجته على نتيجته غير صحيح، وإن رفعت يمكنه أن يعيش مائة عام مقبلة... كل هذا لأنه أحس بمدى العذاب الذي تعيشه زوجته. إلا أن هذا الاتفاق يتصادف توقيته مع ذهاب سلوى لزيارة الشيخ التلاوي لشفاء زوجها، فتحاول أن تقنع نفسها بأن هذا من بركات الشيخ، وتعيش في وهم السعادة المزيفة لعدة أيام، حتى تخبرها أم رفعت بالحقيقة. عندها يموت رفعت بعد قراره السفر للعلاج، فيموت الوهم في داخلها، وتفيق على الحقيقة المؤلمة. لذا نراها تذهب الى مقر الشيخ التلاوي، وكر الخرافة والشعوذة ومركز أوهام الجزيرة، لتجد كرسي الشيخ وبجانبه بقايا لأدوات تستخدم لتعاطي الحشيش والمخدرات. تقترب سلوى من الكرسي وتضربه بالفأس الذي بجانبه، تضربه بشكل عصبي يائس، وكأنها تؤكد بأن هذا الوهم يجب تحطيمه، وإن الإنقاذ لن يأتي أبدا من خارج الفعل الإنساني.

وعلى رغم كل هذه الأحاسيس والمشاعر الإنسانية السامية التي جسدها رأفت الميهي في هذا الفيلم ، إلا أن البطولة المطلقة كانت للكاميرا، التي إستطاع الميهي توظيفها بشكل مبتكر وشديد الحساسية، وقدم بها رؤية ووثيقة واقعية مهمة عن مجتمع الوراق، وذلك من خلال سيناريو أخاذ ومدروس بعناية، يحمل في طياته مواقف وشخصيات قادرة على أن تؤلمنا وتثيرنا وتشدنا بشكل حميمي الى واقعها الأليم. وبفيلم (للحب قصة أخيرة) يكون رأفت الميهي قد إستطاع أن يصل الى درجة متقدمة من الشمولية والإبداع، وذلك لتمكنه من تقديم تقنية عالية ومقدرة فذة في التأثير في المتفرج في الوقت نفسه. وسوف يظل هذا الفيلم طويلا محفورا في ذاكرة المتفرج، كما سيظل علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية

العدد 58 - السبت 02 نوفمبر 2002م الموافق 26 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً