العدد 5272 - السبت 11 فبراير 2017م الموافق 14 جمادى الأولى 1438هـ

ثقـافـة الـموروث في الميزان

تقي محمد البحارنة comments [at] alwasatnews.com

شاعر وكاتب بحريني

من الجليّ أنّ في مرويّات الأقوال والأمثال والأشعار التي تدور على الألسن، ويستشهد بها الناس في مجال تبرير سلوكهم ومواقفهم وأفعالهم، أو في مجال النصح والحضّ على العمل الصالح، الكثير من المرويات الحسنة في حسن الأخلاق وطيب العشرة مع الآخرين.

ولكن في الجانب الآخر توجد نصوص وأقوال تفعل عكس ذلك، فتسممّ العقول وتحطّ من القيم الإنسانية مثل العفو والرحمة وتحريم قتل النفس والتسامح واحترام الآخرين، ومقابلة السيئّة بالحسنة كما أمر الله ونبيه الأكرم حيث قال «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». فلننظر إلى هذه النماذج من الأقوال والأشعار – وكثير منها يتداوله الناس – غفلةً ربما، أو تبريراً لعمل سيء. والأنكى من ذلك أن مدارسنا تدرّس تلك الأشعار والأقوال دون أن يلتفت المدرسون إلى أهمية نقد واستنكار تلك السلوكيات المذمومة عند تدريسها للناشئة والطلاب؛ كيلا ترسخ في عقولهم تلك النماذج من الأقوال الخاطئة أو تؤثّر على سلوكياتهم.

مثال 1: يدعو إلى الشرّ والعصبية القبلية والقتل بدون برهان: من يدرس أو من يقرأ أشعار العصر الجاهلي لابد أن يمرّ على شعر تأبّط شراً، وهو يعدّ من صعاليك العرب، وقد جاءت قصيدته في أول ديوان الحماسة لأبي تمام، حيث يقول:

لو كنت من مازن لم تستبح أبلي

بنوا (الّلقيطة) من ذهل بن شيبانا

قومٌ إذا الشـرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا.

مثال 2: مبالغات في الفخر الكاذب والتباهي الممجوج في عالم متخيلّ من الأحلام، كقول عمرو ابن كلثوم في معلقته الشهيرة:

لنا الدنيا ومن أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

إذا بلغ الفطام لنا صبيّ

تخرّ له الجبابر ساجدينا.

مثال 3: يدعو إلى الحيلة في أخذ الثأر لمجرد إهانة بسيطة حتى لو كان من أقربائك، كقول أحدهم:

إذا المرء أولاك الهوان فأوله

هواناً وإن كانت قريباً أواصره

فإن أنت لا تسطيع دفع هوانه

فدعه إلى اليوم الذي أنت قادره

وباعد إذا ما لم تكن لك حيلة

وأقدم إذا أيقنت أنكّ قاهره

ويقول زهير ابن أبي سلمى: «ومن لا يظلم الناس يظلم».

وشاعر آخر يحضّ على النهب والاغتصاب بالقوة والغلبة، فيقول:

من أطاق التماس شيء غلاباً

واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

وشاعر آخرمن المشهورين في الجاهلية يقول:

نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

مثال 4: وآخر وهو الشاعر والفيلسوف المعرّي يعكس الأنانية وحبّ الذات في قوله:

لا أذود الطير عن شجر... قد بلوت المرّ من ثمره

فما هو ذنب الشجر إذا كان مرّاً ثمره؟ وقد استدعى ذلك شاعراً ينصف الطبيعة، لعله السيد الشريف الرضي حين رد ّعلى المعري بقوله:

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا

ولكن السيد الشريف الرضي نفسه له أشعار غير مقبولة، ولو كانت مجرد تمنيات مثل قوله:

نبّهتهم مثل عوالي الرماح

إلى الوغى قبل نموم الصّباح

فوارس نالوا المنى بالقنا

وصافحوا أعراضهم بالصّفاح

لغارةٍ سامعُ أنبائها

يغصّ منها بالزّلال القراح

ليس على مـضرمها سبـّةٌ

ولا على المُجلِب فيها جناح

دونكموا فابتدروا غنمها

دمى مـباحات ومال مباح

فإنّنا في أرض أعدائنا

لا نطأ العذراء إلاّ سفـــاح

مثال 5: الغرور والتباهي بالنفس والعظمة الفارغة، كما في قول الشاعر الشهير أبي الطيّب المتنبيّ:

وكلّ ما قد خلق الله وما لم يخلق

محتقرٌ في همّتي كشعرةٍ في مفرقي.

مثال 6: جاء في شعر المتصّوفة هذا البيت في حمد الله عزّ وجلّ، والناس كثيرو الاستشهاد به:

فياليت ما بيني وبينك سالم

وبيني وبين العالمين خراب

فهل يقتضي مدح الإله وتوحيده خراب العلاقة مع الناس والله أمر لهم بالعطف والإحسان.

وشاعر آخر يقول:

أخطأت إذ أحسنت ظنّي بكم

والحزم سوء الظنّ بالناس

هذه الأفكار الجانحة هي ضمن قصائد عصماء تحفظ وتدرّس ويغفل من يدرسّها أو يتداولها عن التنبيه إلى ما فيها من اعوجاج وخلق سيء، كيلا تتسرب إلى العقول لإفساد القيم الأخلاقية والإنسانية، ويكون لها تأثير سيء على سلوك الأفراد والجماعات.

بعد تلك النماذج الشعرية المضّللة، ننتقل إلى نماذج من الأقوال والأحاديث، فينسب إلى نبيّ الإسلام أنه قال – نصاّ أو معنى: «من رآى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان». فإن صحّ الحديث فهو قول نبي كريم. والله تعالى أمر بالنهي عن المنكر، ولعله لم يرد نصّ في القرآن الكريم يدعو إلى استعمال اليد للبطش أو القوة أو الإكراه أو السلاح للقتل، والمشهور أن ما يتعارض مع النص القرآني لا يعمل به.

وقد أخطأ كثيرٌ من السلفيين والمتشددين والتكفيريين في تطبيق هذا الحديث على جمهور المسلمين باستعمال اليد والبطش من ذات أنفسهم، واعتبروا أنفسهم حكّاماً، وفهمهم للنص قطعيّاً، متجاهلين وجود المحاكم العدلية والقضاة والقوانين المعمول بها. وهذه الأمور سبّبت كثيراً من الإشكالات والمظالم والحروب وسفك دماء المسلمين وغير المسلمين، كما هو حاصل اليوم يستطيع من له ولاية أو وصاية على أبنائه وذراريه استعمال اليد بمعنى التأديب بعد النصح، أما غيرهم فيحكمهم القانون.

ومثل ذلك «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وقد تحيّر رواة الحديث في موضوع نصرة الظالم فتأوّلوا له معنى من عند أنفسهم، وهو أن تكون نصرة الظالم بإسداء النصيحة له ونهيه.

ثم إن في الأقوال والأمثال السيئة المسمّمة للعقول والمتداولة على ألسنة الناس لتبرير سلوكياتهم وأفعالهم، ما لا يحصى ولا يعد، ونكتفي بما يلي دون تعليق، فالقارئ الفطن سيكتشف بنفسه مواضع العلل والفساد في تلك الأقوال والأمثال:

«خالف تعرف»، «حوالينا ولا علينا»، (يعني لا يهمّنا إذا تضرر الآخرون»، «الغاية تبرّر الواسطة»، «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، «فرّق تسد»، «اتّقِ شـرّ من أحسنت إليه»، «خذ الحكمة من أفواه المجانين»، «العصا لمن عصى»، «من ليس منا فهو ضّدنا»، «ما المرء إلا بدرهميه»، «احذر عدوك مرّةً، واحذر صديقك ألف مرّة»، «الظنّ بالسوء من أحسن الفطن»، «إن عادت الحيّة عدنا لها... وكانت النّعل لها حاضرة» (والقائل لا يقصد الحيّة الفعلية ولكنّها كناية عن من يكره من الناس)، «تغذى به قبل أن يتعشى بك»، «الأعمى أكسر عصاته»، «المرأة كالنعال تلبسه وتنزعه»، «المرأة مثل الحية»... إلخ.

وفي ختام هذا الحديث فإن المقصود من إيراد تلك الأمثلة غير المستساغة ليس هو محوها من الكتب بجرة قلم، فهي ثابتة ومتوارثة في المرويات والنصوص، أشعاراً أو أخباراً؛ وإنما المطلوب التعبير عن استنكارها ونقدها حين قراءتها أو عند سماعها أو في حالة تدريسها، وكذلك عند من يستشهد بها تبريراً لموقف أو سلوك.

وما أجمل عبارات شاعر العصر أحمد شوقي حيث قال:

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"

العدد 5272 - السبت 11 فبراير 2017م الموافق 14 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً