العدد 5301 - الأحد 12 مارس 2017م الموافق 13 جمادى الآخرة 1438هـ

دموع البيت الأزرق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الولايات المتحدة الأميركية يُسمَّى مقر الرئيس بـ«البيت الأبيض»، أما في كوريا الجنوبية فمقر الرئيس يُسمَّى بـ»البيت الأزرق». الفارق أن الأول بُنِيَ في العام 1792، والثاني تعود جذوره إلى ما قبل 900 عام.

يقول الكوريون الجنوبيون إن التسمية جاءت من لون 150 ألف حجرٍ من القرميد الأزرق الذي جُصِّصَ به سقف البيت الرئاسي. وسبب اختيارهم لذلك اللون، هو كي يتناسب مع المنظر الخلفي حيث جبل يقف وراءه، فيعطي روعة للمكان ولمقر رئيس البلاد لا مثيل لها.

هذا القصر الأزرق سالت فيه دموع قبل أيام. فقد قرَّرت المحكمة الدستورية في كوريا الجنوبية‭ ‬عزل رئيسة البلاد باك جون هاي من منصبها بسبب فضيحة فساد. وهي أول رئيسة منتخَبَة تُعزَل من منصبها في تاريخ كوريا الجنوبية الحديث. فهذه الفضيحة لم تتورّط فيها باك لوحدها، بل شملت رئيس أكبر شركة في كوريا الجنوبية لصناعة الأجهزة (شركة سامسونغ) والذي اعتُقِل على إثرها تمهيداً لمحاكمته.‬

قاضية بالمحكمة تُدعى لي جونج مي قالت: «باك انتهكت الدستور والقانون طوال فترة حكمها. وعلى رغم اعتراضات البرلمان والصحافة فإنها أخفت الحقيقة وشنّت حملة على المنتقدين». كانت بداية الحكاية حين اتُهِمَت الرئيسة بـ»التواطؤ مع صديقتها تشوي ومساعد سابق لها، للضغط على مؤسسات أعمال كبرى للتبرع لمؤسستيْن أُنشِئتا لدعم مبادرات لسياستها».

ثم توالت عمليات كشف القضية لتلتهم أفراداً وكيانات متعددة، وهو ما شكَّل ضربة للرئيسة باك، لكنه أيضاً كان انتصاراً للديمقراطية ولجهود مكافحة الفساد، وعدم التساهل حتى مع شخص الرئيسة التي كان أبوها أيضاً زعيماً لكوريا الجنوبية خلال الحرب الباردة. والحقيقة أن هناك جانباً مُحزناً في الموضوع إذا ما مددنا البصر أكثر يتعلق بجارتها الشمالية التي استثمرت القضية بشكل «دعائي» حين شبّهت باك بـ»المجرمة». وهو أمر مثير للسخرية مع توالي الأخبار من بيونغ يانغ، آخرها مقتل الأخ غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي عبر تسميمه بمادة قاتلة في المطار بماليزيا.

بالتأكيد، الكوريون الشماليون يستخدمون مثل تلك الأوصاف لأنهم في حالة عِداء مع الجنوب، وبسبب نشر الجيش الأميركي نظام ثاد للدفاع الصاروخي على الأراضي الكورية الجنوبية رداً على تصعيد الشمال لتجاربه الصاروخية والنووية، لكن لا يعني أن عملية الاستثمار تقف عند هذه الأسباب، بل لتباين النظاميْن السياسييْن، إذ أن الأول ديمقراطي، بينما الثاني ديكتاتوري لا يعرف الرحمة. فهذا البلد (كوريا) وقبل انشطاره إلى جنوب وشمال، كان فقيراً بصورة لا يتخيّلها عقل، وكان عُرضةً للاضطهاد ومسح الهوية من القاع على أيدي اليابانيين.

وعندما تقاسمت القوى الكبرى (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية) كوريا لتجعلها جنوباً يوالي الغرب، وشمالاً يوالي الشرق، انفصلت خيارات وسياسة وثقافة البلدين بشكل صارم. فالكوريون الجنوبيون وبسبب غياب الثروات الطبيعية، اختاروا الاستثمار في التجربة الأميركية الصناعية، ليتحوّلوا لاحقاً إلى بلد صناعي مرموق يُنتِج كل شيء، وينافس الصين واليابان حتى.

أما الكوريون الشماليون فقد انغمسوا في عبادة الفرد، وقرّروا الاعتماد على ذاتهم من منطلق اختطاط لنظام ديكتاتوري لا يضاهيه أي نظام آخر في العالم. وبدل الاستثمار في الصناعة والانفتاح على الخارج أصبحوا مشغولين بإنتاج الخرافات بشأن زعيمهم كيم إل سونغ (1912م – 1994) وكيف أنه بدأ القراءة وهو في الشهر الثاني من عمره، وكيف استطاع أن يُؤلف 1500 كتاب!

بل زادوا على ذلك حين جعلوا التقويم السنوي لكوريا الشمالية يبدأ من يوم ميلاد كيم إل سونغ الذي وُلِدَ في العام 1912 (أي أن السنة عندهم الآن هي 105)، وجعلوا معيار الأميّة من عدمها هو عبر القدرة على كتابة اسم كيم إل سونغ لا غير، لتصبح نسبة الأمية لديهم 1 في المئة فقط، مثلما جاء في أحد البرامج التي تحدّث فيها واحدٌ من كبار الأساتذة المختصين في الشرق وهو عميد الأكاديمية الدبلوماسية الروسية بوزارة الخارجية الروسية يفغيني باجانوف.

يذكر باجانوف في كتاب له عن كوريا الشمالية ما يلي: «صدر في مجلة كوريا اليوم في يوليو/ تموز من العام 2005 تقرير يقول: جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة التاسع والثلاثون بعد أن التقى الزعيم كيم إل سونغ أثناء زيارته لكوريا الشمالية عبّر عن انطباعاته تجاه الزعيم الكوري بالقول: الرئيس كيم إل سونغ هو الأعظم بين البشر الذي لا يُقارَن به لا جورج واشنطن ولا توماس جيفرسون ولا ابراهام لنكولن لا فُرادى ولا مجتمعين، وأستطيع القول (نقلاً عن كارتر) بكل ثقة أن كيم إل سونغ هو إله الشمس وصانع الأقدار المتفوق من حيث النفوذ على الإله هيليوس، وهو أعظم من مسئولي الدول في العالم مجتمعين». وكان ذلك النص من ابتداع الهيئة الدعائية في كوريا الشمالية وألصقته بكارتر الذي لم يقل شيئاً من الكلام.

الحقيقة أن الوضع بائس فعلاً في ذلك البلد. ففي الوقت الذي تتطوّر فيه كوريا الجنوبية ويكبر اقتصادها ونظام الحكم فيها، نرى كوريا الشمالية مع الأسف في غاية البؤس على مستوى الحريات العامة، والضعف الاقتصادي. فاقتصادها لا يزيد عن 2.5 في المئة من اقتصاد كوريا الجنوبية، في الوقت الذي تتحدّث فيه الوسائل الإعلامية هناك عن المعجزات الاقتصادية التي تتحقق ولكن في الأحلام.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5301 - الأحد 12 مارس 2017م الموافق 13 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:44 ص

      ليسمح لي الكاتب، فإن أغلب المقارنات بين الكوريتين هي دعايات أمريكية أو ما تروج له الدعاية الغربية عن كوريا الشمالية.. لماذا لا تنظر إلی زاوية الحصار الاقتصادي والعسكري الأمريكي علی كوريا الشمالية؟ ألا يعد ذلك عاملا رئيسا لتخلف أي دولة كإيران وكوبا وكوريا الشمالية .. ٦مريكا تريد ٦ن تقول من خلال مثالها.. إن لم تكن معي فسوف تلقی نفس الجزاء

    • زائر 4 زائر 2 | 8:58 ص

      أن تكون الدولة محاصرة من قبل أمريكا ، لا يبرر للدولة أن تحاصر شعبها بنظام ديكتاتوري ، فأي تبرير هذا ؟
      الصحيح أن تقاوم الدولة الحصار بالتقدم الاقتصادي والسياسي معا ، وهكذا تقدم النموذج الناجح ، لا أن تتعلل بوجود العدو الخارجي لتمارس أسوأ أنواع الممارسات في الداخل كما تفعل بعض الأنظمة.
      وشكرا...

    • زائر 1 | 1:51 ص

      ...

      مقال جيد وتحليل دقيق ومفصل

اقرأ ايضاً