العدد 5305 - الخميس 16 مارس 2017م الموافق 17 جمادى الآخرة 1438هـ

إفقار الحياة بغياب السياسة

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

بعدما حدث لحراكات وثورات الربيع العربي من مؤامرات وانتكاسات وثورات مضادَّة ومحاولات انتهازية لركوب موجاتها ومن ثمَ حرفها عن شعاراتها الكبرى، يشعر الإنسان بأن هناك رغبات، ظاهرة وخفيَة، لإماتة السياسة في كل بلاد العرب.

ما عاد الهدف يقتصر على الفكر السياسي، وذلك من خلال الإصرار الدائم على موت الإيديولوجيات والأهداف الكبرى، واستبدالها بالدعوة إلى اختزال الفكر السياسي في شعارات صغيرة، تهدف إلى تحقيق أهداف صغيرة، من أجل تغيير واقع المجتمعات بجرعات وعناوين هي الأخرى صغيرة.

ما عاد تشويه وتقزيم الفكر السياسي مطلباً كافياً. فالمطلوب أيضاً هو نحر السياسة تنظيماً وممارسة وتحشيداً لطاقات المجتمع، أي نحرها كفعل في الواقع في موازاة نحرها كنظريات وتأملات وأحلام إنسانية مشروعة.

فإذا كانت قيثارة ثقافة العولمة تعزف لحن الفردانية المطلقة التي تقود الإنسان إلى عبادة ذاته الأنانية الجشعة المستهلكة لكل شيء بنهم واستحواذ، فإن بيانو العرب يتناغم مع تلك القيثارة ليعزف لحن ضمور الحسّ والالتزام والتعاضد الإنساني المجتمعي. عند ذاك، أية ثنائية موسيقية رائعة ستخلق ليسمعها الفرد العربي ليل نهار، مشدوهاً مخدّراً ونعساناً، من أجل أن يعيش حياة التفاهة والصمت الذليل والإرادة السياسية المتناهية في صغرها إلى حدود التّلاشي.

تلك هي الأهداف المريضة التي يراد تحقيقها وتجذيرها في حياة هذه الأمة وفي حياة إنسانها. لكنها أهداف غير قابلة للنجاح، إذ إنها ضد فطرة الإنسان وصحوات ضميره من جهة وأنها غير قابلة للتطبيق في الواقع العربي من جهة أخرى. دعنا نذكُر من يمارسون مثل هذا العبث بجوانب بالغة الأهمية بالنسبة لهذا الموضوع.

فأولاً، لا يمكن للمجتمعات أن تعيش في سلام ووئام إلا عن طريق السياسة التي تعرّف بأنها مزاولة توزيع القوة والثروة في المجتمع، وذلك من خلال اتخاذ القرارات التي تطبَق على جميع أفراد المجتمع.

لكن المختلف حوله هي وسائل تطبيق ذلك التعريف في الواقع: فرض رأي واحد، أم تفاوض بين الأطراف، أم إصدار قوانين، أم استعمال القوة والغلبة والحرب؟

نظام الحكم العاقل هو الذي يختار وسيلة التفاوض، ليعقبها إصدار القوانين المشروعة الحاكمة للنزاعات، لتصبح ممارسة السياسة برداً وسلاماً على الجميع.

منذ القدم، وعلى الأخص منذ الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو في اليونان والحكيم كونفوشيوس في الصين، مروراً بعشرات الفلاسفة والحكماء، والعالم يفتش عن تعاريف للسياسة وعن وسائل لممارسة السياسة، حتى وصلنا إلى ذلك التعريف وتلك الوسائل.

ملخص الأمر أن أي نظام سياسي لن يكون شرعياً ومقبولاً إلا إذا قام على توافق بين مجتمع وسلطة دولة. والمجتمع لا يمكن أن يساهم من خلال كل فرد، فهذا غير ممكن عملياً، ولكنه يساهم من خلال مؤسسات مثل التنظيمات السياسية المدنية، ومثل وسائل الإعلام الحرة المستقلة الموضوعية، ومثل المجالس النيابية المنتخبة التي تعبّر عن مشاعر ومطالب من انتخبوها.

وحدهم الفوضويون الذين يرفضون العمل السياسي المنظم، ويسعون لتدمير الأسس السياسية التي تقوم عليها الدولة. فهل تريد مؤسسات الحكم في بلاد العرب أن تنتمي إلى فكر الفوضويين، وأن تشذّ بذلك عن الطريق الذي تسلكه البشرية المتحضّرة بشأن السياسة، فكراً وممارسة؟

نحن على دراية بما يعتري حقل السياسة من نواقص. وهي نواقص قادت الكاتب البريطاني فيرا بريتين لأن يصف السياسة بأنها «تنفيذ معبر عن عدم نضج الإنسان»، وقادت الكاتب الفرنسي ألبرت كامو إلى القول باستهزاء أن «الذين يملكون عظمة في داخلهم لا يدخلون السياسة»، وأدت بمفكر متزن في الاقتصاد مثل جيلبريث الأميركي أن يصرخ يائساً «السياسة ليست فن الممكن، وإنما هي الاختيار بين ما هو مصيبة وما هو مر الطعم»، أو أن يقول المثقف المعروف رئيس دولة التشيك بمرارة من أن «السياسة يمكن أن تكون فن غير الممكن، أي فن تحسين أنفسنا وعالمنا». لكن ذلك الذم، وهو كثير، لم يدفع بالدول العاقلة إلى محاولة إماتة السياسة في مجتمعاتها. ذلك أنها أدركت أن بديل السياسة تكون الحروب والصّراعات العبثية الدامية.

ولذا، فثانياً، فإن ما نراه اليوم من دمار ومذابح في عدة أقطار ما هو إلا حصيلة محاولات إماتة السياسة أو إيصالها إلى حدود العدم وقلة الحيلة.

في وطن العرب، نحن الآن بين أمرين: فإما أن نسلك طريق إنضاج السياسة والسمو بممارستها، وذلك بتصويب أخطائها من خلال تحكيم القانون العادل المنصف، وإما أن نسلك طريق إماتتها عن طريق القوانين الجائرة واستعمال القوة المفرطة. عند ذاك لن نحصد إلا الندم وإلا البكاء على ملك لم نحافظ عليه كبشر عاقلين، فموت السياسة هو أقصر طريق لموت المجتمعات والدول، والتاريخ يشهد على ذلك.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5305 - الخميس 16 مارس 2017م الموافق 17 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 6:39 ص

      ملخص الأمر
      1- أن أي نظام سياسي لن يكون شرعياً ومقبولاً إلا إذا قام على توافق بين مجتمع وسلطة دولة.
      2- فهل تريد مؤسسات الحكم في بلاد العرب أن تنتمي إلى فكر الفوضويين، وأن تشذّ بذلك عن الطريق الذي تسلكه البشرية المتحضّرة بشأن السياسة، فكراً وممارسة؟

    • زائر 11 | 4:53 ص

      انا اعتقد بأن المجتمعات العربيه ليست بالنضج الكافي ، لممارسة السياسه ، فهم يخلطلون السياسيه بالدين ، فتضيع الأمور ولا تستطيع أن تعرف ما هو سياسي وما هو ديني إلى جانب اختلاطها بالطائفية والقبلية والعادات والتقاليد الباليه.

    • زائر 10 | 4:05 ص

      احسنت استادى \\\\\\ السلطات العالميه هم من وضعو منظمات الحقوق الانسان و هم من يبطش بالشعووب خصوصا اصحاب الراي والحق والسياسيين الذين يطالبون بالحق ويزداد الظلم على البشر لاجل مصالحهم لهادا لاتستقر البلدان على الخير لانه الي اديرونها ... المشتكى لله والله افرج عن الشعوب المطحونه

    • زائر 9 | 3:10 ص

      الشورى

      لقد سبقنا دين محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من ألف وأربعمائة سنة في كتاب الله العزيز حينما ذكر (وأمرهم شورى بينهم) في سورة الشورى

    • زائر 8 | 2:16 ص

      حالك يادكتورنا العزيز حال من يؤذن في خرابة كما نقول أهل البحرين!!!! ..

    • زائر 6 | 1:49 ص

      1/2 كلما اعتقدت بوجود امل للتخلص.. من عبودية التبعية والتحرر لمواكبة العالم المتقدم وبناء اوطان حقيقة... كلما ازددت يقينا بصعوبة ذلك...

    • زائر 4 | 1:12 ص

      للاسف وحدهم الفوضويون الذين يرفضون العمل السياسي المنظم، ويسعون لتدمير الأسس السياسية التي تقوم عليها الدولة. فهل تريد مؤسسات الحكم في بلاد العرب أن تنتمي إلى فكر الفوضويين، وأن تشذّ بذلك عن الطريق الذي تسلكه البشرية المتحضّرة بشأن السياسة، فكراً وممارسة؟ فهل نعي؟

    • زائر 2 | 12:28 ص

      (عند ذاك لن نحصد إلا الندم وإلا البكاء) هذه عبارة سوف تدرّس في المناهج العلمية للأجيال اللّاحقة لنا وسوف تكون من ضمن أبواب (أحد أسباب ضياع الأمّة)
      نعم إننا الآن نشهد حربا ضروس تقوم بها بعض الأنظمة ...مدفوعة من الأنظمة الغربية التي تحيك لأمتنا وتحاول ضربها في مقتل كي لا تقوم لها قائمة .
      المثقفون ابعدوا عن الساحة السياسية
      ومنعت الشعوب من ممارسة ابسط انواع المشاركة في حياتها فأصبح الاستبداد سيد الموقف

    • زائر 1 | 11:51 م

      كلام عقل متنور وبارك الله فيك

اقرأ ايضاً