العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ

سندان بريطانيا في الشمال ومطرقة أميركا في الجنوب

السودان لأبعد من مفاوضات «مشاكوس»

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

بدأت تتضح تدريجيا الأهداف السياسية والدستورية «الأوسع إطارا» في المباحثات «الثنائية» في مشاكوس بين حكومة الانقاذ وحركة قرنق.

فمن قبل ان تبدي القوى السياسية التي لم تدعَ للمشاركة في مباحثات مشاكوس «الثنائية» تبرمها مما قدرته تهميشا لها ، كانت بريطانيا بدأت تعد ملفات «الحل السياسي الشامل» في السودان كله، فقط في انتظار النتائج الأولية لما تسفر عنه المباحثات الثنائية في مشاكوس.

اقتضت الخطوة الأولى ان تلتقي «البندقيتان» الشمالية «حكومة الانقاذ» والجنوبية «حركة قرنق»، ثم يفتح المجال للحل الأوسع والأشمل.

بين ما هو حل «ثنائي» في مشاكوس، و«شامل» في الخرطوم، كامل الدوران، الأميركي في مشاكوس، والبريطاني في الخرطوم. فأميركا بقوانينها التي تصدر عادة عن الكونغرس - كما صدر أخيرا «إعلان السلام» في السودان بتاريخ 11 أكتوبر/ تشرين الثاني عن الكونغرس ثم اجازه الرئيس الأميركي، تملك «المطرقة» التي تهوي بها على رأسي الثنائية في مشاكوس، والمطرقة من الطبع الأميركي المتميز بأسلوبه الروائي» وسرعته «الخاطفة». وقد نجح هذ الأسلوب أو الطرح الأميركي في الجمع بين «النقيضين» - حكومة الانقاذ وحركة قرنق - حتى حين ناورا لإفشال المحادثات في جولتهما الأولى، نجح الأميركي «المطرقة» في دفعهما للتوقيع على البروتوكول بتاريخ 22 يوليو/ تموز 2002.

وحين ناور الطرفان على العودة مجددا لاستئناف الجولة الثانية من المفاوضات اثر حوادث «توبيت» في الجنوب «وهمشكوديب» في الشرق، رفعت أميركا مطرقتها مرة أخرى، فأسرع الفريقان إلى مشاكوس كرة أخرى.

غير ان المطرقة الأميركية تحتاج إلى «سندان» يكمل دورها، على ان يكون هذا السندان مختلفا في وظيفته وطبيعته عما تؤديه المطرقة. فمن شأن السندان «تجليس» المادة التي ينهال عليها الطرق، والتجليس فن من فنون التقعيد يلزمه فنان.

هذا «التجليس» هو مهمة بريطانيا، لأنها تجيد هذه المهمة بحكم علاقتها الوثيقة مع السودان وعلى مدى قرن كامل من الزمان، بدأت ظاهريا حين مشاركتها مصر في احتلال السودان العام 1868، وجلائهما معا عنه العام 1956، ولكنهما باقيتان فيه بأشكال أخرى إلى اليوم.

بريطانيا هذه - كسودانيين - نعرفها تماما، وهي تعرفنا تماما، فإذا كانت «الحلول» بيد أميركا فإن «الملفات» بيد بريطانيا.

حين أدت المطرقة الأميركية إلى عودة فريقي التفاوض مجددا إلى مشاكوس، فقد هرع المبعوث البريطاني «آلن قولتي» فور وصوله الخرطوم بتاريخ 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 إلى إجراء لقاءات متعددة ومتنوعة، جغرافيا وبشريا، وسياسيا، بحيث كاد ان يغطي أو يمسح مواقف كل القوى السياسية السودانية، ليس في الخرطوم فقط ولكن حتى في «اسمرا» - عاصمة اريتريا - التي وصلها في مقدمة جولته بتاريخ 23 أكتوبر.

في اسمرا، ولدى لقائه قادة في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض أكد «قولتي» على أمرين: (أولهما) ضرورة دعم مباحثات مشاكوس. و(ثانيهما) مساندة حلول تجد «الاجماع الوطني».

أما في الخرطوم، فقد قفز «قولتي» إلى منطقة «جبال النوبة» لتفقد سير الأوضاع الأمنية هناك بعد الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين حكومة الانقاذ وحركة قرنق في سويسرا بتاريخ 19 يناير/ كانون الثاني 2002. ثم قفز إلى منطقة أخرى هي «آبي» وهي منطقة يتأرجح وضعها في ملفات «قرنق» بين ترسيمها إداريا باتجاه الشمال أو باتجاه الجنوب، ووضعها مماثل لوضع «جبال النوبة». والمنطقتان «آبي» و«النوبة» مصدر خلاف بين طرفي التفاوض في مشاكوس، أتنتميان إلى الجنوب أم الشمال؟

بعد دراسته وضع المنطقتين، كثف «آلن قولتي» اللقاءات (أولا) مع الحكومة نفسها ثم (ثانيا) مع كتلة الأحزاب الافريقية التي تحظى بعضوية عدد من قيادات الجنوب ويترأسها «جوزيف أوكيلو». مع الحكومة ركز «قولتي» على ضرورة «التنازلات المتبادلة مع حركة قرنق، ولكنه مع «جوزيف اوكيلو» تطرق إلى موضوع الفترة الانتقالية التي تعقب اتفاق مشاكوس إذ ان المطروح هو اشراك الحركات والتيارات الجنوبية في الحكم أثناء الفترة الانتقالية وليس ترك الأمر لقرنق «وحده».

ثم وسع «قولتي» اللقاءات، فشملت رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، وقيادات من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهما أكبر حزبين سودانيين ينتشران على قاعدة طائفية واسعة، ومجرد الالتقاء بهما يعني شروع «قولتي» في ترتيب أوضاع «ما بعد» اتفاق مشاكوس، وبمعنى آخر تهيئة الأرضية في الشمال لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار.

فـ «آلن قولتي» قد جاء - إذن - وهذه المرة بالذات، وبعد عودة الفريقين الاضطرارية إلى مشاكوس، إلى الشمال والخرطوم ليهيئ لما بعد مشاكوس، إذن جاء يتصيد ويصيد «الصقور» من بين الحمائم وهديلها المتناغم مع «التعقل المفروض».

لهذا أبدت الصقور انزعاجها وقلقها، ففي لقائه يوم الخميس 31 أكتوبر 2002، وفيما يتواصل «آلن قولتي» مع جهوده، كاشف النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، جمعا من القيادات الصحافية والإعلامية بكثير من «الأسئلة التي ذكر انه يترك إجابتها للرأي العام السوداني».

هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها مسئول أسئلة على الرأي العام ويترك له أمر الإجابة عليها! غير ان الحقيقة الدافعة إلى هذا الموقف التساؤلي، و«الايكالي» لإجابة الغير من الرأي العام، انما تتبدى في طبيعة الأسئلة وتوقيتها وأكثر من ذلك في صوغها. فصوغ الأسئلة ينم عن ان الأمور تتجه إلى نقيض مخططات الصقور ومخالبها وباتجاه هديل الحمائم. فالأسئلة المطروحة والمتروكة إجابتها للرأي العام - لأول مرة - هي كالآتي نصا:

«هل المطلوب ان تعطي الحكومة مفتاح الجنوب لجون قرنق؟!» - «ما هو الوزن الكلي للجنوب في تقسيم السلطة... هل 40 في المئة... وماذا بشأن أقاليم السودان الأخرى؟!» - «بشأن قسمة الثروة هناك محاولة لأن تكون هناك وصاية وتحكم في الموارد!» - «إن من المشكلات التي تواجه المفاوضات تقديم مبادلة في قسمة السلطة ليس للدولة دور فيها... وإنما تريد ان تأخذ حسابات النفط، مثل النفط مقابل الغذاء في العراق» وانتهى النائب الأول لرئيس الجمهورية إلى «مطالبة السودانيين بخط وطني واضح للإجابة، باعتبار ان إقامة سلام عادل ودائم أمر يهم الجميع»، إذن أصبح «الأمر يهم الجميع».

ثم تطرق النائب الأول إلى ما يهمه هو في صميم سلطاته كنائب أول وفي مقام رئيس مجلس الوزراء وذلك حين يأتي البند الخاص باقتسام السلطة ليجعل من قرنق «شريكا» في الحكومة أو السلطة القومية المركزية العليا. هنا توضع الأسئلة على النحو الآتي ويتم الطلب من الرأي العام الإجابة عليها: «هل نقيم خلال الفترة الانتقالية رأس دولة «هشا» ليس له قرار من أجل «التصالحية»؟ وهل يتم «التراضي» السياسي على حساب «الفاعلية السياسية»؟.

إذن، يجب ألا تشهد الفترة الانتقالية - ست سنوات - «رأس دولة هش» - على حد تعبير المسئول السوداني - وكذلك: يجب ألا يكون «التراضي» على حساب «الفاعلية»، تماما كما لا تكون «الهشاشة» من أجل «التصالحية».

والإجابة متروكة - لأول مرة - للرأي العام السوداني.

قلق الصقور يعني ان الموسى قد وصلت الحلقوم، فالقول (لا) لأميركا في مشاكوس يعني «الكثير» والقول «نعم» يعني أكثر. وهذا حبل لفه الصقور حول أنفسهم منذ ان تمنعوا على الاستماع لكل قول ولكل رأي من هذا الرأي لعام الذي يطلبون إجابته بعد ان ضاق خناق الحبل. فحين كان الأمر والحل في أيديهم رفضوا ما كان يبديه الرأي العام، فلما خرج الأمر من يدهم ومن فروض وتبعات التصالح ومشاركة الغير في السلطة، استفتوا الرأي العام. والمفارقة الكبرى ان «آلن قولتي» يستفتي هو أيضا الرأي العام السوداني، وربما طارحا نفس الأسئلة والتساؤلات غير ان «آلن قولتي» لم يطرحها من خلال مكتب مستطيل أو مربع أو دائري، وإنما من خلال لقاءات مباشرة مع القيادات السياسية، شملت «جوزيف أوكيلو» و«الصادق المهدي» وزعامات التجمع في «اسمرا»، والقيادات في «جبال النوبة» و«آبي».

لهذا كان منطقيا وطبيعيا ان تفاجئ قيادات الرأي العام السوداني بالأسئلة المطروحة عليها وعلى هذا الرأي العام. والمفارقة أيضا انه ليست هناك «قنوات مؤسسية مشروعة» يتم تداول الرأي من خلالها، ليتصل المسئول بالسائل، ولينهي له القول بالإجابة: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل».

الهروب بالأسئلة إلى «أديس أبابا»

لأنه لا تواصل مؤسسي بين السائل والمسئول، وبعد لقاءات «آلن قولتي» المكثفة في شمال السودان، فقد وجدت «النرويج» بوصفها «شريكا» في «الايقاد» ان تنتقل بالسائلين «والمتسائلين والمسئولين إلى بقعة خارج السودان على غرار مشاكوس أخرى. وذلك للإجابة على الأسئلة.

تم اختيار «أديس أبابا» - عاصمة اثيوبيا - وتجري التحضريات لانعقاد هذا «اللقاء» أو «المنتدى» في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. بذلك تكون بريطانيا وبمعيتها «النرويج» قد حصلا على الإجابات المطلوبة من ممثلي الرأي العام السوداني ولكن في «أديس أبابا» لمجرد انه لا توجد قنوات مؤسسية لتواجه الإجابة على هذه الأسئلة في الخرطوم. فوجود قنوات مؤسسية للرأي العام يعني ان النظام قد أصبح «هشا». وان «الفاعلية السياسية» تتقلص!! هكذا يفهمون الأمر.

إذن، ستمر على السودان فترات السعي بين «مشاكوس» في كينيا، و«أديس أبابا» في اثيوبيا، ثم تطبق النتائج على الخرطوم وفي الخرطوم.

حذاقة بريطانيا دورها

هذه الجزيرة الصغيرة التي حكمت العالم «بحفنة» من الإداريين، جاء مبعوثها «آلن قولتي» إلى السودان متزامنا مع احتفاء المراجع الأكاديمية والفكرية في السودان بوصول اثني عشر مجلدا من الوثائق البريطانية المترجمة إلى العربية عن الفترة من 1940 حتى 1956. وهي بالضبط والتحديد «فترة صناعة حركات وتيارات السودان السياسية» التي يسعى بينها «آلن قولتي» الآن. فالرجل قد وصل متزامنا مع وثائقه واحتفاء المثقفين السودانيين بوصول «الاسرار» و«ما خفي» أو «أُخفي» عنهم إلى ان نالوا استقلالهم في مطلع يناير/ كانون الثاني 1956 بحيث تسكت الوثائق إلى حين

إذا كنا سنضطر إلى كتابة وثائق أخرى بعد اكتمال السعي بين «مشاكوس» و«أديس أبابا» فبريطانيا بوثائقها وخلفيات حكمها للسودان وعلاقة النخب السودانية حتى اليوم بلندن، لديها الإجابات التي ستعلنها على لساننا نحن من أديس أبابا، فلماذا ليس في «الخرطوم»؟! بل ولماذا ليس في معاقل المبادرة المصرية - الليبية المشتركة، في القاهرة أو طرابلس؟!

ربما لأن ثقافتنا السياسية جميعا شفهية، وان بريطانيا وحدها تملك الوثائق، وبالتالي ارشيف الخلفيات والمواقف، وإلى مشاركتها من صنع الحوادث سودانيا.

لهذا أوكلت أميركا لها الدور لترتيب البيت السوداني، ولتفرض «التعقل المفروض» على صقور الشمال، ليصبحوا جميعا كأخي، وصديقي غازي صلاح الدين الذي يدير المباحثات في «مشاكوس»، ولا أريد استعداء الآخرين بقولي ان الفضل إلى حد كبير فيما تصيبه هذه المباحثات من نجاح راجع إلى جهده، علما بأن غازي كان أحد صقور النظام ذات المخلب الحاد والجارح، إذ يكفي انه بتاريخ 7 ابريل/ نيسان 1997 - قبل خمس سنوات - حيث جئت الخرطوم أنشد المصالحة بين نظامي السودان واريتريا، وأنشد الوفاق الوطني بادر وسائل الإعلام - من موقعه آنذاك أمينا للأمانة العامة للحزب الحاكم - بقوله: «إن أية وساطة لا تستند إلى دعم اقليمي أو دولي غير مقبولة». وبقى على موقفه هذا حتى جاءه «جون دانفورث» مبعوثا رئاسيا أميركيا، وجاءه «آلن قولتي» مبعوثا حكوميا بريطانيا.

فاكتملت لديه «شروط» الوفاق والمصالحة، فيما اقلقت من بقي من الصقور

العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً