العدد 5316 - الإثنين 27 مارس 2017م الموافق 28 جمادى الآخرة 1438هـ

أضغاث أحلام

قصة قصيرة - محمد اصفير (قاص مغربي) 

تحديث: 12 مايو 2017

امتزج الأمل بالألم، تجانسا في ذات الآن وذابا في جوّ من الترقب السّحيق، لم يعد يسمع بقاعة الولادة إلا صمت الوالد وصراخ الوالدة، كان حملها الثّـاني، وكانا على وجل من معاودة مشهد الوضع الأوّل الذي دوّن اسم الجنين، قبل صرخة الولادة، في عالم الفناء من ثلاثة سنين. لم تزل الأم تعالج الألم بصرخاتها الحادّة المتعاقبة، لم يزل الأب يطارد وحش الخوف بصمت رهيب ولم يزل الطبيب غارقاً في إسعافات أتقنها الى درجة التفنن لتكرارها بتعدد الحوامل الى ان أعلنت صرخةُ المولود ساعةَ الخلاص.

استطلعت الأمّ الحجرة وكأنّها لم ترها من قبل، مضت تتأمل المصباح الأبيض المتدلّي من منتصف السّقف وقد أحاطت بأصله زخارف أبدعتها أنامل صانع ماهر، أجالت البصر ولم ترجعه الا وقد نال من جلّ أركان الغرفة. بينما هي كذلك، وبساط الزمن ينسحب الهوينا، كفّت لجام العين وأرخت عنان التّـفكير تستشرف المستقبل وتغيير الحفاظات، نظرت إلى عيد ميلاده الأوّل وجالت حول الكيك البنّي وقد كُتب عليه بحبّات اللوز: عيد ميلاد سعيد.

أطرقت، فإذا الصّغير يصرخ:

  • أمّي، أميّ.

أراد الرّضاع وكانت قد فطمته من يومين بعدما أتى على حولين كاملين. ضلّت تُـلهيه الى أن حال اللّعب بينه وبين الثّدي وتسلّى بلعبته الجديدة الى أن هزم الليل النّـهار وآن وقت السّرير، رغبتْ في النّوم ورغب الصّغير عنه فآثرت ما ترُيد لما يشتهي ومضت تقرأ له بعض القصص.

أمضى سنتين بمعهد القلم الذهبي ليصير كاتبا، وعاد ذات يوم ومعه رسالة من المدير.

  • هذه رسالة اليك من السّيّد المدير.
  • ناولنيها.

وضعها بيديه المرتجفتين في باطن كفّ أمّه، أرسل نظراته نحو تقاسيم وجهها ومضى ينظر كبلقيس بم يرجع المرسلون، فتحت الرّسالة وشرعت في القراءة بصوت عال والصّغير ينصت وقد حلّ عليه صمت خيّم على أبيه ساعة الولادة.

  • من السّيد المدير الى السيّدة حنان، تحيّة طيبة وبعد، في واقع الأمر ولدك عبقري ونابغة وتفوق إمكانياته أساتذته، وانّي إذ أرى في نفسي خادما للأدب لأوصيك بتعليمه بمفردك فمكانه ليس هنا، مع كامل التقدير.

لم ينطق الصّغير ولم تتكلم الأم، غاصا في صمت أبدي، وكان ذلك آخر عهد له بالمعهد.

صار الكاتب العالمي، وترجمت كتبه الى لغات شتّى، ضاق عليه العش الصّغير فغادر الأم وخلّفها وحيدة بعدما هجرها الزّوج الى دار البقاء. ذابت الأيّام والشهور ولم تصل أيّ رسالة من الكاتب الكبير الى العجوز التي لم تنس ألم الولادة بعد، كانت تُـفني أيّامها القليلة المتبقّـية في انتظار ولدها الذي صار كبيراً الآن ولم يعد صغيراً إلا في عين امّه، ثمّ في كل ليلة ُتخرج قصصه القديمة وتشرع في قراءتها وقد بسطت ذراعها وكأنّـه يتوسّد عضدها.

لم يعد الكاتب الكبير الى حين توصل برسالة غير مختومة من أحد الجيران، كانت أمّه قد آثرت اللحاق بالزّوج، وقد أسلمت الرّوح من قرابة الأربعة أشهر.

عاد هذه المرّة وهو يسترجع شريط الذكرى، كان الغمّ الذي اعتراه لهجر تلك العجوز مخيفاً، مضى يقـبّل ملابسها ويضع رأسه تحت حذائها الممزّق ثمّ أخرج حقيبتها الخاصّة، تأمّل وتألّـم لساعات ليلاحظ أن رسالة مدير المعهد لم تزل بين حاجياتها الغالية. فتحها وشرع يقرأ.

سيدتي، ابنك لا مكان له بهذا المعهد وقد أكّد الطبيب النفسي أنّ ولدك يعاني من خلل عقلي، أعتقد أن مكانه بمستشفى المجانين وأنصحك بتتبع حالته مع طبيب خاص. لا تحضريه بعد اليوم إلى هنا.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:10 م

      فكرة القصة مأخوذة من قصة العالم أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي.

اقرأ ايضاً