العدد 5318 - الأربعاء 29 مارس 2017م الموافق 01 رجب 1438هـ

ما بعد الحقيقة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ماذا نعني بالحقيقة؟ قد نُجمِلُ تفسيرها بكونها «خلاف المجاز» كما في الصحاح. أما الفلاسفة فقد قرَّروا أن الحقيقي «هو الشيء الواقعي الموجود فعلاً». لذلك فهي جوهر العلم، الذي لا يتسع ولا يتعاظم إلاّ بزيادة الحقائق فيه. لكن وأمام كل ذلك «الوضوح» للحقيقة، فإنها لا تُقبَل بالضرورة، بل قد تُحارَب إلى أن يتم تشريدها في البيداء ليحل محلها الجهل بصورة أكثر ترسخاً حتى.

فعلى رغم كَوْن الحقيقة محسومة «فقد يستاء منها الرعب، ويسخر منها الجهل، ويحرّفها الحقد» كما كان يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل. من هذا المنطلق نتساءل: كيف يمكن للناس أن يقتنعوا بالحقيقة ويؤمنوا بها؟ وبصورة أدق: كيف للحقيقة أن تسود مجتمعاً ما في ظل وجود قناعات راسخة مضادة؟ هذا سؤال مركزي يشغل بال الكثير من مهابط العلم.

لن أتحدث عن الحقائق التي هي مدار اهتمام «الشرقيين» من روحانيات وغيرها، لكنني سأتعمّد الإشارة إلى أشياء أخرى تتعلّق بالعلوم والأبحاث الجديدة الخاصة بالحياة وبيوميات البشر، والتي هي في حقيقتها تشترك مع غيرها من الحقائق من حيث نظرة الناس إليها، ومدى إيمانهم أو رفضهم لها، بما فيها تلك الحقائق الخاصة بالروحانيات في المجتمع.

قبل فترة استنطقت الباحثة الأميركية في مجال البيئة والتغذية فيرجينيا جوين، عدداً من الأكاديميين بشأن كيفية إيصال الحقائق إلى الناس بطريقة تجعلهم يتقبلونها. فـ44 في المئة فقط «من سكان تكساس يعتقدون أن الاحتباس الحراري ناجمٌ عن النشاط البشري» على سبيل المثال، أي أن هناك 56 في المئة لا يرون ذلك على رغم الحقائق التي تُثبِت تلاعب الإنسان ببيئته وتدميرها في سبيل الحصول على المال. وبالتالي ما هو السبيل لإزالة كل ذلك الفهم الخاطئ للأشياء.

أحد الأكاديميين واسمه خابيير باسورتو ويعمل أستاذاً مشاركاً متخصصاً في علوم الاستدامة، بمختبر علم الأحياء البحري بجامعة ديوك (كارولاينا الشمالية) قال كلاماً مهماً ينبغي التفكير فيه جيداً: «إذا تعاملت مع الناس من زاوية أن العلم هو الحقيقة، وأنتم ببساطة لا تدركون الحقائق، فلن تجد لدى الناس رغبةً في الإنصات إليك. بل سيجدون زاويتك هذه مسيئة لهم».

ثم يضيف: «أنت بحاجة إلى التحدُّث بطريقة تشجّعهم على الإصغاء. ولكي يتحقّق لك ذلك، من المهم أن تعرف أن للمعرفة والتعلم طرقاً كثيرة، وأن البشر ليسوا دائماً عقلانيين، بل يميلون إلى تصوير أنفسهم وكأنهم أكثر عقلانيةً مما هم عليه في الواقع». لذلك فهو يرى بأن «دمج العلوم الاجتماعية في العلوم الفيزيائية والبيولوجية» هي إحدى طرق مدّ «جسور الفهم بين العلماء وغيرهم».

هو يريد أن يقول بأن «تواصلك مع المجتمع المحلي يُتيح الفرصة للناس للإصغاء لشخصك، بدلاً من التركيز عليك بوصفك أكاديمياً. وبدلاً من أن ينظر الناس إليك باعتبارك العالِم، يرونك الجار وينصتون إلى وجهة نظرك، بدلاً من أن ينتابهم شعورٌ بأن العالِم يحاول أن يفرض حقيقته علينا» كما نقلت مجلة «نيتشر» حديثه بالنص.

هذه النصائح من أكاديميين متخصصين أمرٌ في غاية الأهمية. فهؤلاء حتماً لا ينظرون إلى الأشياء إلاّ من خلال نظرتهم الواقعية التي تقوم على أن «المجتمع موجود كفكرة عقلية»، أما في الواقع فهو ليس «سوى أفراد» كما يقول أوسكار وايلد. وما دام المجتمع في حقيقته عبارة عن أفراد وآحاد، فإنهم يُشكلون كتلة غير متجانسة تحكمها الفروق الفردية في أشياء كثيرة وفي النظرة إلى الأمور.

من الأدواء التي نخطيء فيها هو حين نعتقد «بالضرورة» أن المجتمع الذي ننتمي إليه ينبغي عليه العيش داخل فرو الأبوّة الذي تطرحه النخب. هذا أمر بعيد عن الصواب كثيراً وهو لا يعطي الكثير من النتائج الإيجابية. فالناس وبصورة عامة لا تصلح لها الأفكار التي تحلّ بالمظلات، فهي لا تتقبل مثل هذه المشاريع وتظل تشكك فيها حتى مع انتظامها في العمل بها. إذاً ما هو البديل؟

البديل السليم هو الاشتراك مع المجتمع في المستويات الأدني من المبادئ والإيمان بالحقائق، مع فهم الوسائل التي تجعل النخب قادرة لأن تَلِج إلى أفئدة الناس، ومن بينها (وكما أشار إلى ذلك خابيير باسورتو ضمناً) أن تكون خافضاً للجناح لتعيش كما هم تماماً، بحيث لا يرونك إلاّ منهم وليس شخصاً تروم السيطرة عليهم بـ»التمنطق» والإيحاء لهم وكأنك العالِم في قِبَال جوقة من الجهلة.

وإذا ما أردنا الحق فإن هذا الشعور موجود لدى الكثير من النخب في عالمنا العربي. فهؤلاء تعوَّدوا أن يعيشوا خارج المدار الاجتماعي الذي ينتمون إليه، قاصرين نشاطهم على مجالات أكاديمية ضيقة وبعض المجالس التي لا يزورونها إلاّ هم، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي فهم يعيشون بقدر من النِّديَّة (دون أن يشعروا) تجاه المجتمعات التي ينتمون إليها، لذلك تكون الضحية هي الحقيقة التي تصبح منبوذةً مادامت ستُقدَّم على يد هؤلاء كما يرى ذلك «أفراد» المجتمع.

نعم، نحن لا نقول إننا يجب أن نتحدّث بالطريقة التي تريدها المجتمعات حصراً، وبالتالي تكون النخب ذَيْلاً لمجتمعها، بل على العكس، من المهم أن تُقدّم النخب أفكارها وتصويباتها للقضايا الكبرى كي يترشّد الرأي العام، لكننا نقول إن الوسائل يجب أن تكون محسوبة، مع أهمية النظر إلى نظام المشتركات بين الطرفين والشعور بشيء من التواضع مع الناس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5318 - الأربعاء 29 مارس 2017م الموافق 01 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:04 ص

      موضوع ثري وبه حقائق دامغة ونراها على الارض ونعايشها في الواقع لكن العلماء الروحانيين نرى الاكثر من المجتمع ينصت لهم ويسمع منهم لماذا ؟؟؟

    • زائر 1 | 10:06 م

      زائر

      ذكرتني بالمثل الا يقول الحقيقة مرة ، شكرا ويعطيك الله العافية .

اقرأ ايضاً