العدد 5323 - الإثنين 03 أبريل 2017م الموافق 06 رجب 1438هـ

تقرير: فقدان الأمن وتحديات الحكم في جنوب ليبيا

لاتزال منطقة جنوب ليبيا تعاني من انعدم الاستقرار المُستوطن، وترزح تحت وطأة النزاعات الأهلية، ونقص الخدمات الأساسية، وتفشّي التهريب، وانقسام المؤسسات أو انهيارها. لطالما ظلّت هذه المنطقة على هامش الحياة السياسية في ليبيا والمشاغل الدولية، لكن لابد من أن يتغير ذلك. لقد أدّى فراغ الحكم في الجنوب، بصورة مطردة، إلى استقطاب أفرقاء سياسيين من شمال ليبيا ودول خارجية. يمارس المتطرفون الذين يبحثون عن ملاذ في الجنوب من جهة والمهاجرون الذين يتمّ تهريبهم عبر المنطقة من جهة أخرى، تأثيراً مباشراً على الأمن في ليبيا، وفي الدول المجاورة مثل تونس، وفي أوروبا، وفق تقرير ذكره " مركز كارنيغي للشرق الأوسط" اليوم الثلثاء (4 أبريل/ نيسان 2017).

مصادر انعدام الأمن في الجنوب

المحرك الأساسي لفقدان الأمن هو انهيار المؤسسات والمواثيق الاجتماعية الهشة أساساً إبان ثورة 2011، والأهم من ذلك، التوزيع غير المنصف للموارد الاقتصادية.

اندلاع الاقتتال بين قبائل العرب والتبو والطوارق في الجنوب يمكن أن يُعزى إلى حد كبير إلى التنافس على التدفقات الاقتصادية الثابتة المستمدة من مسالك التهريب والوصول إلى حقول النفط.

التدخّل من الأفرقاء السياسيين في الشمال هو أيضاً من العوامل المؤججة لفقدان الأمن: فقيام فصائل متناحرة منضوية في إطار ائتلافات فضفاضة بإعطاء أموال للشباب في الجنوب وتسليحهم، تسبَّب بإطالة أمد النزاعات المحلية واستفحالها.

يبقى التطرّف تحدياً في الجنوب، لكن لايجب تضخيمه. إذ لم تتمكّن مجموعات إرهابية على غرار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وما يُسمّى “داعش”، من انتزاع موطئ قدم راسخ لها في البلدات الجنوبية، لكنها استغلّت غياب الحكم في الجنوب للحصول على اللوجستيات وتنفيذ تدريبات.

توصيات موجّهة إلى السلطات الليبية والمجتمع الدولي

تطبيق مشاريع ذات أثر فوري لإظهار امتداد الحكومة الليبية وشرعيتها. من الموجبات الرئيسة في هذا المجال تأمين الخدمات الأساسية، مثل التيار الكهربائي، والرعاية الطبية، والاحتياطيات النقدية.

دعم مبادرات المجتمع الأهلي المتعلقة بالقطاع الأمني في الجنوب، ولاسيما المساعي العابرة للقبائل والجماعات المحلية. لقد كان لعدد كبير من هذه المبادرات أثر مفيد على الأمن، عن طريق الحوار بين الجماعات المحلية، أو دعم ضحايا الحرب، أو تعليم الأطفال، أو التدريب التقني.

إعادة العمل بالرواتب الحكومية في الجنوب، وإيجاد حل لمأزق تحديد الهوية الوطنية، وتفعيل موازنات البلديات في إطار مجهود أوسع نطاقاً لإصلاح جدول الرواتب في القطاع الأمني. ينبغي على الحكومة الليبية إعطاء الأولوية لتوزيع الرواتب على الجهات الأمنية عن طريق السلطات البلدية.

إطلاق سلسلة من الحوارات الوطنية مع الجهات الأمنية في مختلف أنحاء البلاد حول خريطة طريق لإعادة هيكلة القطاع الأمني. يجب إيلاء أهمية خاصة لتشكيل قوة محلية تساهم في تعزيز فعالية الجهات الأمنية في البلديات والمحافظات فيما تربطهم أيضاً بقيادة وطنية.

مقدّمة

لطالما اعتُبِر جنوب ليبيا منطقة يشوبها الغياب المُستوطن للأمن، والانقطاع والانفصال عن الشؤون السياسية في الشمال. غير أن الاضطرابات في هذه المنطقة الآن تتمدّد بصورة مُطردة في مختلف أنحاء البلاد، وصولاً إلى الدول المجاورة الواقعة شمال ليبيا، مثل تونس، وإلى شواطئ أوروبا الجنوبية. يتحوّل جنوب ليبيا إلى مسرح جديد للنزاع الوطني بين القوى المتحالفة مع خليفة حفتر، وبين المجموعات المسلّحة المدعومة من مدينة مصراتة الساحلية وفصائل في الغرب. فضلاً عن ذلك، تشكّل هذه المنطقة محطة أساسية لشبكات تهريب المهاجرين متعددي الأوطان شمالاً باتجاه أوروبا، لذلك أي محاولة تبذلها القوى الأوروبية لوقف أزمة المهاجرين عند الشواطئ الليبية، سيكون مصيرها الفشل إذا لم تُعالج شؤون الأمن والحكم في جنوب ليبيا. أخيراً، استغلّ المتطرفون المنتمون إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وما يُسمّى “داعش”، الفوضى المتعاظمة في ظل غياب القانون، من أجل تطوير لوجستياتهم وإنشاء ملاذات آمنة، علماً أن اختراقهم الفعلي للمجتمع الجنوبي أكثر محدودية مما يُعتقَد عادةً.

هويات مُتنازَعة: التبو والطوارق

يُعتبر الاستياء من عدم المساواة في الحصول على حقوق الجنسية من عوامل الضغط الأشد وطأة التي تساهم في غياب الأمن في الجنوب. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى التلاعب الوقح الذي مارسه معمر القذافي في مسألة الجنسية، بهدف ضمان ولاء أبناء القبائل في الجنوب. ويتأتّى السخط، على مستوى أوسع نطاقاً، من التهميش المنهجي لجماعتَين كبيرتين غير عربيتين في الجنوب، هما التبو والطوارق، اللتين قطع لهما الديكتاتور الليبي، مع التركيز في شكل خاص على الطوارق، وعداً بالحصول على حقوق الجنسية كاملةً، في مقابل الالتحاق بالأجهزة الأمنية التابعة له. غير أن هذه الوعود لمّا تتحقق قط، وقد كان الإرث الذي خلّفته، مقروناً بالتنافس الاقتصادي والانهيار المؤسسي، من المُسببات الأساسية للصراع في مرحلة ما بعد 2011.

التبو

التبو شعب أفريقي داكن البشرة يُقيم في جبال تيبستي شمال تشاد، وفي جنوب شرق ليبيا، وأجزاء من النيجر والسودان. كانوا، على امتداد تاريخهم، مجتمعاً من رعاة الجمال قوامه العشيرة، ويتكلّمون لغة من عائلة اللغات النيلية-الصحراوية. كان التبو في ليبيا دوماً شعباً منفصلاً عن المجموعات الأخرى، وعانوا في ظل النظام الملَكي الليبي، على الرغم من أن الملك إدريس– الذي أطاحه القذافي في العام 1969– كان يعتبرهم من حرّاسه الشخصيين. وُضِعت قوانين جديدة للجنسية في العهد الملَكي فرضت حيازة سجلات عائلية مدوّنة، غير أن ثقافة التبو شفوية، بما أنهم شعب شبه بدوي، وأمّي في معظمه.

في عهد القذافي، ازداد وضعهم سوءاً. فقد أقصاهم من مشروعه العروبي، واستخدمهم بيادق في خلافه مع تشاد على قطعة أرض غنية باليورانيوم تُعرَف بقطاع أوزو، وتضم جبال تبسيتي. وخلال الاحتلال الليبي لقطاع أوزو، منح القذافي الجنسية للآلاف من أبناء التبو، فيما جنّد آخرين في حربه مع تشاد. ثم بعد هزيمته، وقيام محكمة العدل الدولية بمنح قطاع أوزو إلى تشاد في العام 1994، تخلّى عن التبو، فسحب منهم الجنسية، وحرمهم من الحصول على الوظائف والسفر، ولم يستثمر في التعليم والرعاية الطبية في مناطقهم.

تحوّلت حياة التبو شيئاً فشيئاً إلى مايُشبه الجحيم، وتجلّى ذلك بوضوح فاقع في واحة الكفرة جنوب شرق البلاد، حيث عاش التبو لمئات السنين. فقد أصبحوا شعباً من دون جنسية يسكن في أكواخ مصنوعة من الكرتون مع سقوف من القصدير، من دون مياه جارية أو كهرباء. هذا في حين أن جيرانهم في الكفرة المُنتمين إلى قبيلة الزوية العربية كانوا يقيمون في فيلات ويقودون شاحنات من طراز "مرسيدس"، مستمتعين بالحظوة التي كانوا يتمتعون بها لدى القذافي. كانت قبيلة الزوية تسيطر أيضاً على حقول النفط ومسالك التهريب المحلية: فكان البنزين والسلع المدعومة من الحكومة مثل السميد والسكر وزيت الطهي تتجه جنوباً، في حين أن المهاجرين الأفارقة كانوا يتجهون شمالاً.

بالتالي، لم يكن مفاجئاً قطّ أن تكون التبو قد التحقت بانتفاضة 2011، وعاد قادتها المعارِضون إلى ليبيا من المنفى في النروج. أرسل القذافي مبعوثين لإغرائهم بالمال والسلاح، ومُجدّداً الوعود بمنحهم الجنسية، غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل. فقد انضم عناصر التبو الذين انشقّوا عن الجيش إلى نظرائهم من قبيلة الزوية، ووضعوا العداء المتبادل بينهم جانباً لبعض الوقت. زوّدتهم الحكومة السودانية المجاورة بالأسلحة، حتى إنها أرسلت جنوداً، انتقاماً من دعم الحاكم الليبي آنذاك لمجموعة الثوار في دارفور المعروفة بحركة العدل والمساواة. وبعد سقوط الكفرة، توجّه التبو شمالاً وغرباً، لحراسة الحدود الجنوبية. وعند انتهاء الحرب، كانوا يسيطرون على مساحة شاسعة من المعابر الحدودية، والحقول النفطية، والاحتياطيات المائية، ومستودعات الأسلحة. وانتعشت آمالهم لفترة وجيزة.

قال مقاتل من التبو تحوّل إلى ناشط، في مقابلة معه في شباط/فبراير 2016: "كان كل شيء أشبه بالنعيم في ذلك الوقت، لا تبو، لا زوية". انضم التبو إلى قبائل إثنية ولغوية أخرى في مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بالحقوق الثقافية والتمثيل السياسي، لكنه أردف قائلاً: "كنت أعلم أننا سنواجه مشاكل. كان الجميع يتحدثون عن سطوة التبو".

اعترفت الحكومة الانتقالية الجديدة بسيطرة التبو على الحدود التشادية والسودانية عن طريق قائد ميليشيا التبو والزعيم المعارض المخضرم، عيسى عبد المجيد منصور. جمع منصور وأفراد آخرون من التبو ثروة طائلة من عائدات التهريب، وأصبحوا أكثر جرأة في مطالبهم السياسية. لم تبدِ السلطات في ليبيا استعداداً لمعالجة هذه التظلمات. وبدت متعنّتة خصوصاً في موضوع الجنسية. قال ناشط من التبو: "لا تريد الحكومة فتح ذلك الباب".6 قبل انتخابات 2012، عمد مديرو الانتخابات من قبيلة الزوية الذين يعملون مع المجلس الوطني الانتقالي، إلى شطب عدد كبير من ناخبي التبو من السجلات بذريعة أن جنسيتهم مزوّرة. لا شك أنه كان لهذه الذريعة أساس من الصحة في بعض الحالات، لكنها أثارت غضب التبو. فقد اعتبروا أن السلطات الجديدة في البلاد أحيت سريعاً الأحكام النمطية التي كانت سائدة في عهد القذافي.

في الكفرة، احتدمت التوترات لأول مرة في شباط/فبراير 2012. كانت قبيلة الزوية قد خسرت حصتها من عمليات التهريب ومصادر أخرى للدخل، وأرادت استعادتها، فأنشأت نقطة تفتيش جنوب المدينة، على بعد بضعة أمتار فقط من نقطة تفتيش عائدة للتبو. بعدها، أقدم رجل من قبيلة التبو على قتل صاحب متجر من قبيلة الزوية، فقصفت ميليشيات الزوية أحياء التبو الفقيرة بقذائف الهاون والصواريخ. كان حي مُختلط مؤلّف من شقق بناها السويديون، ويُدعى السويدية، يفصل بين الجانبَين. وقد لقي مدنيون مصرعهم في التبادل العشوائي للنيران.

أرسلت حكومة طرابلس، في خطوة تحوّلت إلى نمط متكرّر، ميليشيات درع ليبيا التي تتخذ من بنغازي مقراً لها لوقف القتال، ففشلت في مهمتها، مع وقوفها إلى جانب قبيلة الزوية وقيامها بقصف أحياء التبو. استتب الهدوء عندما حلّت مكان درع ليبيا ميليشيا أخرى من بنغازي بأمره قائد آخر أكثر حيادية. اجتمعت وفود من مشايخ القبائل من مختلف أنحاء البلاد في المدينة وأبرمت اتفاق سلام في تموز/يوليو 2012 أفضى إلى إبقاء السيطرة في أيدي قبيلة الزوية. بيد أن معظم مؤسسات الكفرة، على غرار المدارس والمصارف، لايزال يحكمها الفصل بين أبناء القبيلتَين حتى يومنا هذا.8 وقد شهدت البلدة موجات متواصلة من العنف، وتوغّلات عبر الحدود من السودان، وصعود نجم الميليشيات السلفية الخاضعة إلى سيطرة الزوية.9

في غضون ذلك، شكّل صعود نفوذ التبو إبان ثورة 2011 تهديداً للعلاقات مع الطوارق في الغرب.

الطوارق

الطوارق مجتمع بدوي تاريخياً، يتألف من رعاة الماشية، ويمتد عبر الصحراء الكبرى والساحل في جنوب ليبيا وأجزاء من الجزائر وبوركينا فاسو ومالي والنيجر. يتحدّث الطوارق لهجة من لهجات اللغة الأمازيغية (أو البربرية) تُعرَف بالـ"تاماشيق". اعتباراً من سبعينيات القرن العشرين وتزامناً مع الطفرة النفطية، توجّه جيل أصغر سناً من الطوارق نحو اقتصاد التحويلات العابر للدول الذي يقوم على تحويلات العمال المهاجرين والتهريب.10 بالنسبة إلى عدد كبير من الطوارق من النيجر ومالي المنكوبتَين بالجفاف، بدت ليبيا الغنية بالنفط بمثابة نعيم، وقد شجّعهم القذافي على القدوم شمالاً للعمل. لكن لدى وصولهم، جنّد عدداً كبيراً منهم في قوة عسكرية صحراوية تُعرَف بـ"الفيلق الإسلامي"، وكان الهدف منها بسط نفوذه في أفريقيا والمشرق.

حارب الطوارق، إلى جانب البنغلاديشيين والإريتريين والموريتانيين والسودانيين، في تشاد ولبنان خلال ثمانينيات القرن العشرين، وقال أحد هؤلاء المحاربين القدامى للمؤلف: "كنا جنوداً بأجر بخس".11 انضم بعضهم إلى القتال أملاً بأن يعمل القذافي على تمكينهم لدى عودتهم إلى ديارهم في مالي والنيجر. ولا شك في أن الديكتاتور الليبي غذّى هذه الآمال لديهم، عبر استضافة متمردي الطوارق في ليبيا فيما يُسمّى اجتماعات المؤتمر، وإنشاء الجبهة الشعبية لتحرير الصحراء الكبرى العربية الوسطى في العام 1980، مع جناح سياسي ومعسكر للتدريب العسكري على مقربة من بني وليد.12 وجّه البث الإذاعي بلغة التاماشيق نحو الساحل، لكن عندما عاد محاربو الطوارق في الفيلق الإسلامي إلى مالي والنيجر لقيادة الثورات في مطلع التسعينيات، تخلّى عنهم القذافي.

ظلّ الطوارق خلال حكم القذافي شعباً على الهامش، وعانوا من سياساته العروبية، حتى وإن كان يعاملهم كعربٍ فخريين ويدّعي لنفسه نسلاً مشتركاً معهم. كانت بلداتهم ذات الأوضاع المزرية في الجنوب تعاني من التخلّف الشديد، على الرغم من اكتشاف النفط في الجوار. التحق شبانهم، الذين كانوا يفتقرون إلى التحصيل العلمي، بالقوى الأمنية النخبوية في نظام القذافي، على غرار اللواء 32 المُعزز بقيادة نجل القذافي خميس، وكتيبة مغاوير الطوارق التي كانت تتألف حصراً من الطوارق في أوباري، فيما انضم آخرون إلى اللجان الثورية.

عندما اندلعت ثورة 2011، انفصل بعض الطوارق عن النظام، على غرار السفير الليبي في مالي، موسى الكوني، الذي أصبح لاحقاً ممثل الطوارق في المجلس الوطني الانتقالي، ومن ثم عضو المجلس الرئاسي في الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس، قبل تقديم استقالته في كانون الثاني/يناير 2017.13 حافظ عدد كبير من الطوارق الآخرين، ولاسيما أولئك المنضوين في الألوية الأمنية، على ولائهم للنظام وحاربوا الثوّار. بعد الحرب، قام جنود طوارق من الساحل بنهب مستودعات الأسلحة الليبية وتوجّهوا إلى مالي حيث قادوا تمرداً، وساهموا في إنشاء شبه دولة لم تعمّر طويلاً في الشمال تحت اسم أزواد.

عانى ليبيون آخرون من الطوارق من وصمة الوقوف إلى جانب القذافي. لكنهم حافظوا على درجة من الوئام مع جيرانهم التبو. فقد تعاونت قبيلتا التبو والطوارق، اللتان كانتا أقليتَين في الدولة الليبية الجديدة، وعملتا معاً من أجل انتزاع حقوقهما. فكلتاهما حُرِمتا من الجنسية وعانتا من النقص في التنمية. وقد نظّم نشطاء من القبيلتين اعتصامات أمام وزارات حكومية في طرابلس، واحتجّوا أمام حقول نفطية للمطالبة بالتوظيف والحصول على بطاقات هوية. وفي إحدى المراحل، أصدر زعماء الطوارق والتبو بياناً مشتركاً هدّدوا فيه بإقامة حكم ذاتي في الجنوب.

كان الجزء الأكبر من التعاون بين القبيلتَين من ثمار معاهدة أُبرِمَت بين الطوارق والتبو في العام 1894 تحت اسم midi-midi (ومعناه التقريبي "الصداقة" بلغة التاماشيق). فالقبيلتان خاضتا حرباً في ما بينهما على امتداد سنوات، ولاسيما للسيطرة على مسالك القوافل والمراعي. أقام اتفاق "الصداقة" حدوداً بينهما في ليبيا وفي الصحراء جنوباً: فكان الجزء الغربي من الرواق الجبلي الذي يربط النيجر بليبيا، ويُعرَف بممر سلفادور، أرضاً تابعة للطوارق، في حين كان الجزء الشرقي تابعاً للتبو.

وعلى امتداد مئة عام، حافظ اتفاق "الصداقة" على السلام بين القبيلتَين، في مواجهة الجفاف والنزوح، ولاحقاً الديكتاتورية، لكنه تداعى في أعقاب اندلاع النزاع في جنوب ليبيا في العام 2012.

نقاط التفجّر في النزاعات الأهلية في الجنوب

على الرغم من انتشار النزاع والتوترات الاجتماعية على نطاق واسع جداً في الجنوب، لابدّ من التوقف عند مدينتَين على وجه التحديد – سبها وأوباري – نظراً إلى أنهما تستقطبان عادةً التدخل من أفرقاء اجتماعيين وسياسيين آخرين من مختلف أنحاء المنطقة. تتخبّط كلتا المدينتين في خليط متفجّر من الاضطرابات: فهما مختلطتان إثنياً وقبلياً؛ وتعانيان من مكامن الضعف المؤسسية، ولاسيما في القطاعَين الأمني والقضائي؛ وتقعان على مقربة من مصدرَين أساسيين للدخل الثابت يتمثّلان في مسالك التهريب وحقول النفط. وفضلاً عن ذلك، كانتا هدفاً للتدخل من قوى في الشمال والخارج.

سبها

ترتدي سبها أهمية خاصة بوصفها عاصمة محافظة الجنوب، ومحطة تاريخية على طول طرق الإمدادات بين الشمال والجنوب، كما أنها تحوّلت مؤخراً إلى محطة لتهريب المهاجرين. لطالما كانت هذه المدينة موضع نزاع. ففي القرن التاسع عشر، كانت سبها مقراً لسلطنة حكمتها قبيلة أولاد سليمان المحلية استمرت اثنَي عشر عاماً، قبل أن يحشد العثمانيون القبائل المنافسة لها ويقوموا بإطاحتها.15 انتهج الإيطاليون استراتيجية مماثلة تقوم على التقسيم والغزو. وبعد نيل ليبيا استقلالها، تسلّمت قبيلة أولاد سليمان سدّة الحكم من جديد، ومكثت في السلطة حتى انقلاب القذافي. وقد أنهى الديكتاتور حكمهم عبر وضع المؤسسات الأمنية ومصادر الدخل الأساسية، مثل تهريب السجائر، في عهدة قبيلته، القذاذفة. خسر أولاد سليمان مكانتهم، لكن عند انتهاء ثورة 2011، لاحت لهم فرصة في الأفق عبر الانقلاب على أسيادهم السابقين. كما رأت القبائل غير العربية أن الفرصة سانحة أمامها أيضاً. وفي الأعوام اللاحقة، انهارت المواثيق وهرميات النفوذ غير المعلَنة.

اندلع نزاع مفتوح في سبها في آذار/مارس 2012، وكانت شرارته سرقة سيارة كما أُفيد. فقد أقدم أحد أبناء التبو على قتل مسؤول بارز في شركة الكهرباء ينتمي إلى قبيلة أولاد سليمان وسرقة شاحنته رباعية الدفع. واتّجه الوضع نحو التصعيد عندما انتهى اجتماع للمصالحة عُقِد في قاعة الشعب التي تعود إلى حقبة القذافي، باندلاع معركة بالأسلحة. توجّهت ميليشيات من قبيلة أولاد سليمان وقبائل عربية أخرى إلى أحياء التبو في طيوري وإلى هاجارا القريبة. استمرت الصدامات خمسة أيام، وأسفرت عن مقتل 147 شخصاً، معظمهم من التبو، وتدمير أكثر من سبعين منزلاً.

كانت قوة الشرطة الضعيفة في سبها بلا حول ولا قوة في مواجهة الميليشيات المتناحرة. فعمدت الحكومة الانتقالية في طرابلس إلى نشر القوات الخاصة التي تتخذ من بنغازي مقراً لها، بقيادة العقيد ونيس بوخمادة، لمحاولة فرض النظام. كان إجراء مؤقتاً فشل في معالجة جذور الصراع. فقد كانت جريمة القتل وما أثارته من رغبة في الانتقام الشرارة التي أشعلت فتيل النزاع، لكنها أخفت وراءها ما هو أعمق من ذلك: وكان القتال منافسةً بين قبيلتَي أولاد سليمان والتبو، اللتين كانتا متحالفتين سابقاً خلال الثورة، على تجارة التهريب المُربحة في المنطقة وتأمين الرواتب لعناصر ميليشياتهم الشباب.

بعد وصول القتال إلى سبها، فرضت القوات الخاصة هدنة مؤقتة.17 لكن مع تدهور الوضع الأمني في بنغازي في مطلع العام 2013، سحب بوخمادة جنوده، ما خلق فراغاً مجدداً. فتقدّم أولاد سليمان لملئه محاولين فرض هيمنتهم على قوة الشرطة الوليدة في المدينة، والسيطرة على التجارة غير الشرعية عبر الحدود. بحلول مطلع العام 2014، نفذ التبو هجوماً مضاداً، فأقدموا على اغتيال أحد القادة الميليشياويين من قبيلة أولاد سليمان انتقاماً منه على خلفية دوره في الصدامات السابقة، فاندلعت جولة ثانية من القتال. رصّ القذاذفة صفوفهم مع التبو، فاستولوا على قاعدة تمنهنت الجوية العسكرية، في حين وضع أولاد سليمان يدهم على قلعة إلينا التي تعود إلى الحقبة الإيطالية وتربض على تلة مطلّة على سبها. انحدرت سبها مجدداً نحو دوّامة العنف، وتحوّلت أحياء بكاملها إلى مناطق خارجة عن سلطة القانون تحكمها ميليشيات وعصابات إجرامية. سجّلت أعداد جرائم القتل والخطف ارتفاعاً شديداً. وأغلقت المدارس أبوابها؛ ولازم الجميع منازلهم، ولقي شبّان مصرعهم في معارك مسلّحة للسيطرة على إحدى محطات الوقود.18

ردّت حكومة طرابلس مجدداً بنشر ائتلاف من الميليشيات، تمثَّل هذه المرة بالقوة الثالثة بقيادة مصراتة. كان تفويض القوة ينص بوضوح على إرساء السلام من جديد في المنطقة، فانتهى بها الأمر بالانحياز بين القبائل المتناحرة في المدينة، وواجهت احتجاجات متكررة طالبت برحيلها. واصطدمت أيضاً بمحدوديات واضحة كبّلت قدرتها على الحؤول دون تفجّر النزاع. وفي صيف 2016، نفّذت بعض قواتها إعادة انتشار في الشمال للمساعدة في الهجوم الذي قادته مصراتة ضد “داعش” في سرت. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2016، اندلع القتال من جديد في سبها بعدما قام قرد مملوك من صاحب متجر ينتمي إلى قبيلة القذاذفة، بسحب الحجاب عن رأس تلميذة من قبيلة أولاد سليمان كانت تمر في المكان، فأقدم أولاد سليمان على الثأر بقتل ثلاثة أشخاص من القذاذفة.19 في غضون أيام، سلكت الحادثة طريقها نحو التصعيد، واندلعت معركة ضارية استُخدِمت فيها الدبابات والأسلحة الطاقمية. والحال أن الجرائم العنيفة لاتزال مشكلة خطيرة حتى الآن؛ ففي العام 2016 وحده، لقي 286 شخصاً مصرعهم وخُطِف 153 آخرين في سبها.20

أوباري

تستمد بلدة أوباري في الجنوب الشرقي من البلاد أهميتها الاستراتيجية من موقعها على مقربة من الحدود بين الجزائر والنيجر ومن حقول نفطية كبرى، وتضم، على غرار سبها، خليطاً من القبائل والإثنيات. معظم السكان هم أفارقة عرب، ما يُسمّى بالأهالي، ويتحدّرون من العبيد في أفريقيا جنوب الصحراء. الطوارق هم ثاني أكبر مجموعة. والتبو أقلية. ويقول الطوارق إن أوباري تقع حكماً ضمن منطقتهم كما حدّدها اتفاق "الصداقة"، غير أن التبو يعتبرون أنهم أصحاب حق بالتواجد في البلدة، بالدرجة نفسها كالطوارق. وقد بدأوا بتأكيد هذا المطلب في الأشهر التي أعقبت ثورة 2011، وذلك عبر الشروع في شراء العقارات في أوباري مستخدمين الأموال التي تدفقت عليهم من عائدات التهريب التي وجدوا فيها مصدراً جديداً للكسب. كما تمكّنوا أيضاً من الوصول إلى حقل الشرارة النفطي القريب، عبر العمل حرّاساً تحت إمرة ميليشيات الزنتان التي كانت تسيطر عليه.21 وقد أثار ذلك حفيظة الطوارق الذين كانوا قد طُرِدوا من بلدة غدامس الحدودية خلال القتال بين المجموعات، وتملّكتهم الخشية من ضربة أخرى تُسدَّد لنفوذهم في المنطقة، وتتمثّل تحديداً في سيطرة التبو على أرض كانوا يعتبرون أنها تقع حكماً ضمن نطاق منطقتهم.

فاقمت الضغوط الإقليمية من الشعور بأن الطوارق يتراجعون أمام التبو. ففي العام 2014، أغلقت الجزائر حدودها مع ليبيا، وفرضت الدوريات الفرنسية في ممر سلفادور في النيجر قيوداً شديدة على حركة الطوارق التقليدية عبر الحدود. وقد اتّهم هؤلاء القوات الفرنسية المتمركزة في ماداما في النيجر – على بعد مئة كيلومتر (62 ميلاً) فقط من الحدود الليبية – بالتغاضي عن المهرّبين والمقاتلين من قبيلة التبو الذين يعبرون شمالاً. وقال أحد زعماء قبيلة الطوارق للكاتب: "ماداما هي مصدر فتنتنا".

ذات عصر أحد أيام سبتمبر 2014، حاولت قوة أمنية في أوباري توقيف بعض رجال التبو الذين كانوا يبيعون البنزين بطريقة غير شرعية في وسط البلدة، فاتخذت الأمور منحى تصعيدياً، مع قيام أحد الطوارق بإطلاق النار على شخص من التبو، ثم الرد بالمثل. وصلت لجنة من شيوخ القوم وتمكّنت من التوصل إلى هدنة. في تلك الليلة، حطّت في الشرق قافلة من نحو ستّين مقاتلاً من التبو آتية من بلدة مرزق التي تضم أكثرية من التبو، وقصفت المجمعات التابعة لميليشيا الطوارق في غرب أوباري بنيران المدفعية الثقيلة. وفي الأسبوع التالي، توغّلت ميليشيات التبو في أوباري، وعمدت إلى إحراق منازل الطوارق أثناء تقدّمها. وقد توجّهت ميليشيات الطوارق سريعاً إلى قمة جبل تيندي وباشرت إطلاق النار على أحياء التبو تحتها.

كانت للقتال تداعيات اقتصادية على ليبيا بأسرها. ففي نوفمبر 2014، ساعدت ميليشيات مصراتة الطوارق على انتزاع السيطرة على حقل الشرارة النفطي من التبو الذين كانوا قد تحالفوا مع خصومهم الزنتانيين. فردّت ميليشيات الزنتان في الشمال بإغلاق جزء من خط الأنابيب الذي يربط الشرارة بميناء الزاوية على البحر المتوسط.

تباطأت وتيرة القتال في أوباري وتحوّلت إلى تبادل مرهق ومتواصل لقذائف الهاون ورصاص القنص. نزحت مئات العائلات؛ ولقي مئات الأشخاص مصرعهم، وتسبّب قصف المدفعية بتدمير أحياء بكاملها، ومدارس، ووسط المدينة. حاولت حكومة طرابلس والحكومة المنافسة في طبرق، مراراً وتكراراً، وقف القتال، مستعينةً بالعديد من الوسطاء القبليين (على الرغم من أن الحكومتين كانتا طرفَين في النزاع) قبل أن تتدخّل حكومة قطر التي وجّهت، بمساعدة جزائرية، دعوات إلى مندوبي التبو والطوارق للتوجّه إلى الدوحة، حيث توصّلوا إلى اتفاق في نوفمبر 2015.

لايزال سلام هش صامداً في الوقت الراهن في البلدة، ومردّ ذلك إلى ضبط النفس المتبادل الذي تمارسه ألوية الطوارق والتبو هناك، والجهود التي تبذلها كتائب الحسناوي التي انتشرت في المدينة للاضطلاع بمهمة حفظ السلام في شباط/فبراير 2016. أقام جنود الحسناوي، ومعظمهم من وادي الشاطئ، نقاط تفتيش في مختلف أنحاء أوباري وعند المداخل الأساسية للبلدة، واحتل الحساونة المقر الرئيس للواء تيندي عند الخاصرة الجنوية للمدينة، وكذلك جبل تيندي القريب – والذي يشكّل موقعاً استراتيجياً وممتازاً لمراقبة المدينة.

كان الإبلال من الأزمة بطيئاً إنما مطّرداً. فمعظم المقاتلين الذين قدموا من خارج أوباري غادروا المنطقة، ما عدا بعض وحدات التبو من القطرون، التي لم تعد إلى مسقط رأسها. وعلى الرغم من أن المحاورين من التبو والطوارق أجمعوا على الإشادة بالحساونة لقيامهم بالفصل بين الفصائل المسلّحة، إلا أن مهمة حفظ السلام لم تنجح في معالجة التمزّق العميق الذي لحق بالنسيج الاجتماعي في البلدة. ولاتزال عودة العائلات النازحة مصدراً أساسياً للتشنّج. وكذا الأمر بالنسبة إلى التنافس المتجذّر على الموارد الاقتصادية الشحيحة – مبيعات النفط في السوق السوداء، والتهريب، والإشراف على الحقول النفطية في المنطقة – التي تسبّبت في المقام الأول باندلاع النزاع.

أعلن الموقِّعون على اتفاق السلام للعام 2015 أنه اتفاق "صداقة" جديد. لكن هناك أيضاً قوى رافضة وانتقامية في صفوف الطوارق تسعى إما إلى الحصول على وطن منفصل أو إلى فرض هيمنة أكبر على التجارة عبر الحدود في الغرب.

قال ناشط من الطوارق للكاتب في مطلع العام 2016: "عندما نعود إلى أوباري، إن شاء الله، سنعود إلى جبل تيندي".

العوامل الأساسية المسبّبة لفقدان الأمن في الجنوب

إلى جانب هاتين النقطتَين المتفجّرتين، تواجه منطقة الجنوب عدداً من المُسببات البنيوية للنزاع، ترتبط بقطاعه الأمني الضعيف والمتصدّع؛ وغياب اقتصاد محلي مجدٍ، على الرغم من وجود حقول نفطية، والضبط الفعّال للحدود؛ والتدخّل المضر من الأطراف في الشمال والخارج. أما التطرُّف فيُعتبر تهديداً هامشياً إلى حد ما في الجنوب في المرحلة الراهنة، لكنه قد يجد بيئة اجتماعية أكثر مؤاتاة واحتضاناً له في أوساط القبائل أو المجتمعات المحلية المظلومة، أو في خضم انهيار مطّرد للحوكمة يزداد سوءاً.

قطاع أمني مُتصدّع وقَبَلي الطابع

يمكن وصف القطاع الأمني في الجنوب، كما في المناطق الأخرى في ليبيا، بأنه عبارة عن تكافل هش بين فلول النظام القديم – ألوية القذافي الأمنية وقوات الشرطة ووحدات الاستخبارات – وبين مجموعات ثورية أحدث عهداً، تتألف من شبّان غير مدرَّبين، فضلاً عن أفرقاء أمنيين غير نظاميين مثل الوسطاء القَبَليين.

لسوء الحظ، اكتسب جميع هؤلاء الأفرقاء تقريباً طابعاً فئوياً أو إثنياً إلى حد كبير. وفي حالات كثيرة، ساهمت السلطات الانتقالية في البلاد في ترسيخ هذه الروابط، عن طريق إنشاء هيئات أمنية مُلحقة خاضعة إلى سلطة وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع. وفيما عدا استثناءات قليلة، أصبح هؤلاء أدوات للنزاع بدلاً من أن يساهموا في إرساء السلام: فقد تنافسوا على موارد الجنوب المحدودة، مثلاً عبر التناحر للسيطرة على مراكز المراقبة الحدودية (التي تتيح احتكار التهريب)، أو عبر الاستيلاء على المطارات والحقول النفطية (ما يتيح لهم أن يؤدّوا دور الحرّاس لهذه المطارات والحقول، وكذلك دور المحاوِرين لشركات النفط الأجنبية).

لكن، على الرغم من تأديتهم دوراً مفيداً في ضبط الأمن، يعاني القطاع الأمني من أوجه القصور في العديد البشري، والمعدات، والرواتب. على سبيل المثال، في بلدة غات التي يقطنها الطوارق، على مقربة من الحدود الجزائرية، انضم لواء هجين يُعرَف بلواء الشهداء الأسينيين – الذي تألّف في الأصل من ضباط مُنشقين وعناصر في الشرطة ومدنيين – إلى اللجان الأمنية العليا التي لم يعد لها وجود الآن، وأدّى، بحسب روايات عدّة، دوراً مفيداً في حراسة مراكز الاقتراع في الانتخابات البلدية والبرلمانية.26 بيد أن عناصر اللواء أشاروا إلى أن تحوّله إلى قوة شرطة أكثر نظامية، حال دونه القرار الصادر عن حكومة الإنقاذ الوطني في طرابلس في مطلع شباط/فبراير 2015، والذي قضى بربط الرواتب الحكومية ببطاقات الهوية الوطنية التي لم يكن عدد كبير من الطوارق يمتلكها.

كذلك، كان الدور الذي أدّاه الوسطاء الاجتماعيون غير النظاميين – الحكماء والمجالس القبلية – مفيداً في التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار والفصل بين الفصائل المسلحة، لكنه ليس ركيزة مؤسسية متينة يمكن الاستناد إليها لبناء منظومة سياسية سلمية في الجنوب.

حدود سهلة الاختراق وتهريب مستشرٍ

لطالما كان ضبط الحدود في الجنوب، حتى في عهد القذافي، متقطّعاً وغير منتظم، مع قيام الديكتاتور الراحل بتكليف القبائل الإشراف على مسالك التهريب المربحة من أجل ضمان ولائها. وفي غياب مداخيل محلية، أصبحت التجارة غير الشرعية ممارسة متجذّرة بعمق في المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الجنوب. غالباً ما تكون الجهات الأمنية في الجنوب متواطئة بعمق في هذه التجارة، وعندما تحاول مكافحتها، تصطدم بمكامن النقص التي تعاني منها في العتاد والعديد والأجور. ولقد ولّد هذا العجز في الإمكانات، فضلاً عن الوضع الاقتصادي المُزري في الجنوب، معضلات أخلاقية حتى لدى الجهات الحدودية ذات النوايا الحسنة: إذ يتم اعتراض الأسحلة والمخدرات والمقاتلين، في حين يُسمَح بمرور الوقود والمواد الغذائية المدعومة من الحكومة والسجائر والمهاجرين غير الشرعيين، مقابل تسديد رسم معيّن.

من عوامل الخلل الأساسية في ضبط الحدود الإمكانيات المتاحة للبلديات من أجل ممارسة الحكم المحلي. وتتجلّى أوجه القصور هذه في شكل خاص في بلدة غات في الجنوب. ففي هذه البلدة المقطوعة منذ وقت طويل عن العالم الخارجي بعد إغلاق الحدود الجزائرية واندلاع القتال في أوباري القريبة، تُشرف رئاسة البلدية على قطاع حدودي يمتد على طول ألفَي كيلومتر (1200 ميل) من الجزائر إلى النيجر. ويقول قائد ميليشيا حدودية محلية تُعرَف بالكتيبة 411، غاضباً إنه اضطُرَّ إلى القيام بدورية على امتداد 230 كلم من الحدود مع الجزائر مستعيناً بـ230 عنصراً فقط.28 منذ إغلاق الحدود الجزائرية، تحوّلت حركة التهريب بالكامل نحو الحدود النيجرية المؤدّية إلى القطرون، عبر طريق يُسيطر عليه التبو – ما شكّل خسارة كبيرة للطوارق. وقد اشتكى القائد من العقوبات القاسية التي تفرضها الجزائر على المهربّين من الطوارق الذين يحاولون كسب لقمة عيشهم. كان بحاجة إلى مزيد من المعدات، وإلى دروع واقية للأفراد، ونظارات للرؤية الليلية، وآليات سيّارة، وقد وجّه نداءات متكررة إلى البيضاء وطبرق لتزويده بها، إنما من دون جدوى. وكما هو حال أجهزة الأمن والشرطة في مناطق أخرى، تسبّب ربط الرواتب ببطاقات الهوية الوطنية بتعطيل شديد لإمكانات ضبط الحدود.

ناشد المسؤولون في غات مراراً حكومة طرابلس والأفرقاء الخارجيين، على غرار الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، تقديم مزيد من المساعدات المباشرة إلى البلديات الحدودية في ليبيا. قال عضو في المجلس البلدي: "طلبنا من الأوروبيين ممارسة ضغوط على الجزائر لفتح الحدود من أجل التخفيف من معاناتنا"، مُشتكياً من سلخ الطوارق في المنطقة عن أبناء قبيلتهم في الطرف الآخر من الحدود، ومن حرمانهم من الرعاية الطبية والسلع الأساسية.29 انحسرت وطأة المعاناة إلى حد ما في غات في فبراير 2016 عندما شقّت قوافل الوقود الأولى، يرافقها حرّاس من الحساونة، طريقها من أوباري باتجاه المدينة.30 لكن في مطلع العام 2017، كانت غات لاتزال تعاني من انقطاع المياه والتيار الكهربائي على نطاق واسع، والنقص في السيولة، والعزلة.

يتجلّى ضعف إجراءات ضبط الحدود بوضوح أكبر حتى في سبها التي تشكّل منذ وقت طويل محطة على طريق المهاجرين من الساحل الذين يتّجهون شمالاً. هنا يعمل المهاجرون عمّالاً مياومين في أحياء فقيرة على غرار حي القرضة، حيث يكتظ العشرات في غرفة واحدة، في محاولة منهم لادخار الدينارات الثلاثين التي يكتسبونها من عملهم اليومي من أجل تسديد تكاليف الرحلة المحفوفة بالمخاطر باتجاه الشمال؛ ويُرغَم آخرون عن طريق الإكراه على العمل بالسخرة أو الدعارة.31 وعندما ينطلق هؤلاء المهاجرون في الرحلة، داخل شاحنات بضائع مكتظة، يتعرّضون إلى العنف والإساءة، والاعتداء الجنسي، والتخلي عنهم. قال مهاجر من نيجيريا: "إذا أغمي عليك أو وقعت، يتركونك. يضربنا السائقون بعصيٍّ خشبية طويلة".

تكمن في تضاعيف المعركة العبثية ضد الاتجار غير الشرعي الحقيقة بأنه ما دام الاقتصاد المحلي يعاني من التأخر وضعف وتائر النمو، سيكون مصير أي تطبيق للقوانين وأي تحسينات تقنية وبيروقراطية الفشل في الغالب. فالتهريب والصراع على الموارد متجذّران، في العمق، تجذراً عميقاً في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.33 وتهريب المحروقات مغرٍ في شكل خاص – فليتر المحروقات الذي يكلّف عشرة سنتات في ليبيا يُباع بدولار واحد في تشاد.34 ومع اختفاء السياحة بعد الثورة– التي كانت لفترة طويلة مصدراً للإيرادات المحلية– أصبح التهريب أكثر استيطاناً وانتشاراً. وقد تسببت المحاولات الآيلة إلى وضع حد لمصدر الزرق هذا، باندلاع نزاع عنيف. فالمحاولة التي قامت بها إحدى اللجان الأمنية في أوباري لوقف مبيعات الوقود في السوق السوداء، كانت وراء نشوب القتال بين التبو والطوارق. تساءل أحد أعيان التبو في العام 2016، قائلاً: "نعم، التهريب ممارسة مخطئة. لكن لماذا الحملة عليه الآن، ولاسيما أنه لم يتم تطوير مصادر بديلة للدخل؟".

اتخذ الاتحاد الأوروبي مؤخراً خطوات لمعالجة الإمكانات المتاحة في جنوب ليبيا من أجل رفع التحدّي الذي تشكّله الهجرة، وتعهّد في هذا الإطار بتقديم أموال للبلديات لبناء مراكز لاحتجاز المهاجرين. لم يكن مفاجئاً أن يرفض العديد من رؤساء البلديات في الجنوب، الخطة لأن من شأنها أن تنقل قدراً كبيراً من العبء إليهم في شكل حلٍّ تقني، من دون معالجة العوامل المسبّبة لتدفقات المهاجرين والتهريب – والمتمثّلة في عدم وجود اقتصاد محلي.

الاستقطاب على المستوى الوطني والتدخّل من الأفرقاء في الشمال

إلى جانب مكامن الضعف المؤسسية، والتوترات الفئوية، وأوجه القصور الاقتصادية، عانى الجنوب أيضاً من اندلاع نزاع سياسي على مستوى البلاد، أو ما يُسمّى الصراع بين معسكرَي الفجر والكرامة. وقد أدّى ذلك إلى تسليع الأمن في الجنوب، أي مقايضة واستئجار ترتيباته بالمال، الأمر الذي تسبّب بزعزعة شديدة للاستقرار. يمثّل تسديد الرواتب للمقاتلين الشباب والتزويد بالأسلحة تلاعباً انتهازياً بالجماعات التي أفادت سابقاً من درجة معيّنة من التوازن الاجتماعي والعيش المشترك على امتداد عقود، وقرون في بعض الأحيان. ليس التدخّل من الأفرقاء في الشمال والخارج السبب الوحيد وراء تداعي الجنوب، إلا أنه عامل مساهِم.

حارب التبو، الذين أغراهم الوعد بالحصول على رواتب، إلى جانب حراسة المنشآت النفطية بإمرة ابراهيم الجضران، والقوات الخاصة (الصاعقة) في بنغازي، وألوية الزنتان المتعددة في الشمال الغربي. تشمل ألوية التبو الكبرى التي تقاتل في بنغازي الكتيبة 25، ودرع الصحراء، وشهداء أم الأرانب. كذلك حارب الطوارق، من جهتهم، لحساب ميليشيات الزنتان – ولاسيما تلك التي استوعبت عناصر من الألوية الأمنية التي كانت تابعة للقذافي، مثل اللواء 32 المُعزز. كذلك ولّد النزاع بين الكرامة والفجر تدفقاً للأسلحة: فقد أرسلت قوات الكرامة، كما أفيد، أسلحة إماراتية إلى وكلائها التبو على متن طائرة مصرية، وقامت فصائل الفجر بتسليح الطوارق في سبها وأوباري، وقبيلة الزوية في الكفرة شرقاً.

اندلعت الجولة الأحدث في النزاع الوطني في الجنوب مع انتقال المقاتلين التابعين لسرايا الدفاع عن بنغازي – وهو ائتلاف من الميليشيات المناهضة لحفتر التي يـتألف بعضها من ألوية قديمة في بنغازي تحصل على الدعم من وسطاء النفوذ في مصراتة، وشبكات الدعم في قطر، وبعض الفصائل في طرابلس – إلى قاعدة عسكرية في الجفرة كانت محتلّة من القوة الثالثة.37 تصاعد القتال بين السرايا وقوات الجيش الوطني الليبي المتحالفة مع حفتر مع شنّ هجمات جوية في أواخر 2016 ومطلع 2017، ما أسفر عن مقتل العديد من المسؤولين في مصراتة أو إصابتهم بجروح. وفي كانون الأول/ديسمبر 2016، قامت وحدة تابعة للجيش الوطني الليبي تضم أشخاصاً من المنطقة من قبائل القذاذفة والتبو والمقارحة، بطرد القوة الثالثة المصراتية من قاعدة في بلدة براك، شمال سبها. وفي آذار/مارس 2017، سيطرت سرايا الدفاع عن بنغازي على مينائَي السدرة وراس لانوف من أيدي الجيش الوطني الليبي، لكن سرعان ما استعاد هذا الأخير السيطرة عليها. تزامناً، شنّت الوحدات التابعة للجيش الوطني الليبي عملية "الرمال المتحركة"، في إطار حمة متضافرة لطرد القوة الثالثة من قاعدة تمنهنت الجوية ومن الجنوب في شكل عام. ويُظهر القتال المتأرجح الأهمية المستمرة للقواعد والمهابط الجوية في الجنوب – التي تقع عند خطوط إمدادات أساسية باتجاه مصراتة، والهلال النفطي، وبنغازي – كبؤر للنزاع الوطني المحتدم.

كانت النتائج أكثر تفاوتاً في المناطق حيث تدخّلت مجموعات شمالية تحت ستار بسط الاستقرار، على غرار نشر درع ليبيا في الكفرة، ومؤخراً، القوة الثالثة في الشرارة، أو قوة الردع الخاصة التي تتخذ من ماتيغا مقراً لها للاضطلاع بمهمة آمري السجن في سبها. وما عدا استثناءات قليلة، لم يكن هؤلاء الأفرقاء الشماليون وطنيين أو محايدين بكل ما للكلمة من معنى، بل غالباً ما كانوا متحيّزين جداً، وأظهروا معاملة تفضيلية لبعض الجماعات في الجنوب.

القوة الثالثة

أُنشئت القوة الثالثة في البداية في شكل ائتلاف من الجنود قوامه بصورة أساسية ألوية مصراتية أرسلها رئيس الأركان في حكومة الإنقاذ الوطني في مطلع العام 2015، وكان الهدف ظاهرياً بسط الاستقرار في سبها بعد اندلاع قتال بين الجماعات، ولاسيما بين أولاد سليمان من جهة وبين القذاذفة والمقارحة من جهة ثانية. كان الدافع الضمني هو منع القوات العدوة المناصرة لمعسكر الكرامة من الوصول إلى الجنوب، ولاسيما المواقع الاستراتيجية على غرار القواعد الجوية، وكذلك إحكام السيطرة عى الطرقات التجارية وخطوط التموين العسكرية من الساحل إلى ميناء مصراتة ومنطقة التجارة الحرة.

بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وانسحاب وحدات التبو وأولاد سليمان، تقدّمت القوة الثالثة نحو مواقع أساسية آمنة في المدينة، مثل القلعة التي تعود إلى الحقبة الإيطالية، ومقار الشرطة العسكرية، وقاعدة تمنهنت الجوية العسكرية القريبة. وقد وسّعت القوة انتشارها غرباً باتجاه أوباري، لكنها لم تدخل البلدة قط خشية استنزاف خطوط إمداداتها والغرق في مستنقع النزاع. في مرزق ومناطق أبعد في الجنوب، حيث تفرض ألوية التبو، مثل درع الصحراء بإمرة بركة وركدو، وشهداء أم الأرانب بإمرة رمضان لاكي، سيطرتها، ليس للقوة الثالثة عناصر منتشرة هناك، لكنها تحتفظ بـ"وجود استخباراتي"، بحسب أحد القادة العسكريين في مصراتة.39

تمثَّلت إحدى السمات الأساسية في إجراءات فرض الأمن التي طبقتها القوة الثالثة على المستوى المحلي، في تسليح المجموعات الجنوبية وتجهيزها بالعتاد. وقد دعمت القوة الثالثة، بصورة عامة، أولاد سليمان والطوارق في مواجهة التبو والقذاذفة والمقارحة (وجميعهم خصوم يتنافسون على التهريب عبر الحدود)، والذين تُصنِّف عدداً كبيراً منهم، في شكل عام، بأنهم من الموالاة أو أنصار الكرامة. كذلك تمتعت قبائل أصغر حجماً، على غرار الحساونة والمحاميد وأولاد بو سيف، بمعاملة تفضيلية من جانب القوة الثالثة. وبحسب قيادي في القوة الثالثة، يجري تجنيد عدد كبير من هذه المجموعات لتكون ملحَقة بهذه الفرقة، ويضيف: "اخترنا 150 شخصاً من كل قبيلة في سبها، وبلغ المجموع 1200".40 وتحصل هذه المجموعات الملحقة على أسلحة وأجهزة لاسلكية وبزات ورواتب، ويتم توجيهها لفرض الأمن في مناطق محددة في سبها.

كان أحد الحلفاء الأساسيين للقوة الثالثة في سبها اللواء السادس مشاة، الذي يتألف في شكل أساسي من قبيلة أولاد سليمان ويقوم بدوريات مشتركة مع القوة الثالثة. والحليف الأساسي الآخر هو كتيبة أحرار فزان المؤلفة من ثمانمئة عنصر معظمهم من قبيلة أولاد سليمان، لكنها تضم أيضاً عناصر من المحاميد وأولاد بو سيف والحساونة والطوارق. ويُزعم أن ميليشيات مصراتة قامت بتدريب كتيبة أحرار فزان في المدينة.

أصبحت محدودية هذه المقاربة القائمة على الاستعانة بالمجموعات الملحقة واضحة للعيان من خلال الإخلال بتوازن القوى في الجنوب، وتأثير أسلحة القوة الثالثة والدفعات التي كانت تسدّدها في الحد من محفزات المصالحة الاجتماعية. لاتستطيع القوة الثالثة الدخول إلى عدد كبير من الأحياء، إلا أنها ترسل مجموعات ملحقة محلية، ما جرّها إلى نزاع مفتوح. في صيف 2016، مثلاً، تصادمت القوة الثالثة والميليشيات المتحالفة معها– أحرار فزان، وبحر الدين، وأولاد سليمان– مع مسلّحي القاذفة. فحتى حلفاء القوة السابقين ينظرون إليها بعين الريبة. وقد تحدّث أحد قادة الطوارق في أوباري عن ولاء القوة الثالثة المشبوه، قائلاً بأنها "تأكل مع الذئاب، وتستغيث مع الرعاة".

قوة الردع الخاصة

تُعدّ قوة الردع الخاصة بإمرة عبد الرؤوف كارة إحدى الجهات الأمنية غير الجنوبية الأخرى في ليبيا، والتي كان تأثيرها متفاوتاً. تتخذ هذه القوة من مطار ماتيغا في طرابلس مقراً لها، وهي انبثقت من الميليشيات ذات الميول السلفية التي ظهرت بعد الثورة وطغت على قطاع الشرطة، وينتمي عناصرها في شكل أساسي إلى حي سوق الجمعة الواقع في الخاصرة الشرقية لمدينة طرابلس.43 في طرابس، ركّزت قوة الردع الخاصة بدايةً على مكافحة المخدرات لكنها تحوّلت مؤخراً نحو محاربة تنظيم “داعش”. وفي سبها، انتشرت هذه القوة نتيجة تحالفٍ بين قادة الميليشيات السلفية الجنوبية من قبيلة أولاد سليمان وبين القوة الثالثة.

كانت الوظيفة الأهم الملقاة على عاتق قوة الردع الثالثة إدارة السجون الرسمية وغير الرسمية في سبها. كان بعضها عبارة عن منشآت للحجز المؤقت، حيث كان يتم حجز ثلاثين إلى أربعين سجيناً قبل نقلهم إلى طرابلس. وكان من بين هؤلاء المساجين أشخاصٌ متّهمون بجرائم خطيرة وبمخالفات أخلاقية، مثل شرب الكحول. وكانت قوة الردع الثالثة تضخ جرعة قوية من العقيدة السلفية داخل السجون. إذ قال آمر سجن من قوة الردع الخاصة: "بعض الأشخاص الذين ألقي القبض عليهم لم يكونوا يعرفون القرآن"، مضيفاً: "لديهم الآن مكتبة إسلامية في السجن".44 تتفاوت الآراء حيال قوة الردع الخاصة في سبها: ففي حين يشيد البعض بالإمكانات التي تتمتع بها ومقاومتها للفساد، يبدي آخرون استياءهم من فرضها للعقيدة السلفية التي يعتبرها كثر عقيدة خارجية وغريبة عنهم.

شبح التطرف في الجنوب

لدى المجموعات الجهادية العابرة للدول حضورٌ في جنوب ليبيا، ومن ضمنها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والمرابطون، وأنصار الدين، ويستند مقاتلوهم ومنشآتهم إلى تاريخ طويل من الإلمام بالشؤون المحلية يعود إلى تسعينيات القرن العشرين والحرب الأهلية في الجزائر. بعد الثورة، أقامت هذه المجموعات روابط مع مجموعات مسلّحة محلية وجهاديين في الشمال، ولاسيما في الشمال الشرقي في مدن بنغازي ودرنة وأجدابيا. كان خط الإمدادات اللوجستية التابع لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، في جنوب ليبيا، يغذّي شبكات أنصار الشريعة، عبر نقل الجهاديين من الجزائر ومالي وسواهما من دول الساحل إلى معسكرات الشمال ومن هناك إلى سورية.45 في المقابل، يُزعم أن أنصار الشريعة نقلوا المتطوعين جنوباً إلى مالي.46 و تولّى أنصار الشريعة تدريب مقاتلين موالين للجهادي الجزائري المخضرم مختار بلمختار، قبل هجومهم على منشأة الغاز الطبيعي في تيقنتورين في عين أميناس في الجزائر.

وقد سهّلت كيانات محلية متواطئة في جنوب غرب ليبيا تحرّك هذه المجموعات العابرة للدول. ويُعدّ لواء حرس الحدود 315 أحد الكيانات التي غالباً ما يؤتى على ذكرها في هذا السياق، وهو عبارة عن ميليشيا تتخذ من أوباري مقراً لها ويقودها المربّي الإسلامي أحمد عمر الأنصاري، وتتمركز قواتها في الطرف الجنوبي للمدينة، على مقربة من مجمع كتيبة تيندي على طول طريق حدودي يعبر ممر سلفادور باتجاه النيجر.

لكن لطالما عمد خصوم الطوارق من أطراف سياسية وأهلية إلى تضخيم عمق ونطاق الاختراق من قبل المتطرفين، ولاسيما في أوباري ومناطق أكثر توغلاً في الغرب. مما لاشك فيه أن المحاورين في غات وأوباري والعوينات على دراية بوجود الجهاديين، نظراً إلى انتشار المعسكرات حول غات وفي وديان جبال أكاكوس.48 لكن وجودهم لوجستي في شكل أساسي، وناجم عن ضعف السيطرة الإدارية وسيطرة الشرطة في الجنوب، وليس وليد دعم اجتماعي واسع النطاق. على سبيل المثال، مرّ منفّذو هجوم عين أميناس في العام 2013 عبر مناطق واقعة شمال غات، بيد أن الألوية المحلية كانت تفتقر إلى القوات اللازمة لوقفهم. أما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي فقد ركّز تركيزاً شديداً على الساحل كميدان أساسي لتوسّعه، مستخدماً ليبيا لتأمين العمق اللوجستي، على الرغم من توجيه دعوة إلى مقاتليه في صيف 2016 للمساعدة في القتال ضد قوات الكرامة في بنغازي.49 عند وجود علاقات للجهاديين مع المجموعات المسلحة المحلية، فهي تكون قائمة على المنفعة والمصلحة المشتركة المتمثلة في إبقاء الحدود غير مضبوطة. بعيداً من هذا الحضور، لم تخترق العقيدة المتشددة مناطق الطوارق في الجنوب أو النسيج الاجتماعي الجنوبي إلا بنسبة ضئيلة، بغض النظر عن الادعاءات المبالَغ فيها التي تطلقها فصائل الكرامة والتبو.

تنطبق توصيفات مشابهة على “داعش” وما يُسمّى التقارير الاستخباراتية الصادرة عن مختلف المعسكرات السياسية الليبية حول انتشار “داعش” بعد سرت. ويجب التدقيق جيداً في هذه الروايات نظراً إلى أنه لدى هذه المجموعات مصلحة مؤكَّدة في تصوير خصومها بأنهم يؤوون إرهابيين. لم يُمدّد تنظيم “داعش” قط وجوده نحو جنوب ليبيا، ويواجه الآن، مع هزيمته في سرت، آفاقاً أشدّ قتامة. فمن شأن أي تحرّك باتجاه الجنوب أن يصطدم، ليس فقط بعدد كبير من المجموعات المسلّحة المرتبطة بالمجتمعات والقبائل المحلية، إنما أيضاً بالشبكات التابعة لتنظيم القاعدة التي انتعشت حظوظها مجدّداً مقارنةً مع “داعش”. في شمال شرق ليبيا، عاد عدد من المقاتلين للالتحاق مجدّداً بالمجموعات التابعة للقاعدة (مثل أنصار الشريعة)، بعد أن انشقّوا عنها للانتقال إلى صفوف “داعش”. يبقى أن نرى إذا كانت هذه الديناميكية ستتكرّر في الجنوب أيضاً وكيف سيتجلّى ذلك.

لكن، لا بد من الإشارة إلى وجود خلايا ومعسكرات تابعة لتنظيم “داعش” جنوب سرت، على غرار المعسكر الذي قصفته طائرة أميركية في أواخر كانون الثاني/يناير 2017، وكذلك في سبها، الواقعة على مسافة أبعد جنوباً. لقد أظهر تنظيم “داعش” قدرته على زرع الفوضى والخراب في المنطقة، وخير دليل على ذلك ما أوردته التقارير عن الهجوم الذي شنّه التنظيم على البنى التحتية الكهربائية بين الجفرة وسبها.50 علاوةً على ذلك، تحدّثت تقارير في صيف 2016 عن وجود للدولة الإسلامية في الزاوية الشرقية الجنوبية الخارجة عن السيطرة في ليبيا، على مقربة من واحتَي الكفرة وتازربو على طول الحدود السودانية، حيث توصّل التنظيم الإرهابي، كما أُفيد، إلى تدبير مع المهرّبين المحليين لحماية خطوط إمداداته نحو الشمال.

ماذا باستطاعة الحكومة الليبية والأفرقاء الخارجيين أن يفعلوا؟

مشاكل الجنوب متعددة الأوجه، وغالب الظن أن معالجتها سوف تستغرق سنيناً، لا بل أجيالاً عدة. الخطوة الأولى الأساسية هي الاعتراف بأن متاعب الجنوب متداخلة إلى حد كبير مع المتاعب التي تتخبط فيها باقي المناطق الليبية. إذ غالباً ما يشعر المحاوِرون الجنوبيون بأنهم منفصلون عن ممثّليهم وعن السياسة في شكل عام في الشمال. ثانياً، ينبغي على السلطات الليبية وداعميها الدوليين معالجة العجوزات المؤسسية الأعمق في الجنوب، بدلاً من التركيز على حلول قصيرة المدى، مثل الانتشار العسكري أو ترتيبات ضبط الحدود. أخيراً، سوف يشكّل بناء اقتصاد مستدام في الجنوب يضع حدّاً لإغراء التهريب، تحدّياً يمتدّ لأجيال وأجيال.

تطبيق عدد من المشاريع ذات الأثر الفوري لإظهار الامتداد والشرعية

يتعيّن على المانحين الدوليين مساعدة الحكومة الليبية على تنفيذ عدد من المبادرات سريعة المردود التي هي في أمس الحاجة إليها في الجنوب، لإثبات حضورها والتزامها، وإعادة بناء الثقة المتداعية. في عدد كبير من المناطق الجنوبية، تشمل الاحتياجات حالياً الخدمات الأساسية (مثلاً في أواخر العام 2016، شهدت أجزاء من الجنوب تقنيناً في التيار الكهربائي لمدة 15 يوماً متتالية). في خطوة أولى إيجابية، حدّد مرفق تحقيق الاستقرار التابع للحكومة الليبية، والذي يحصل على التمويل من اثنَي عشر مانحاً دولياً ويُطبّقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أوباري ضمن قائمة المواقع ذات الأولوية للإفادة من المساعدات المحلية للبنى التحتية والخدمات، وقام المرفق بتسليم جزء من هذه المساعدات في كانون الثاني/يناير 2015. في كانون الأول/ديسمبر 2016، خصّص مرفق تحقيق الاستقرار مليونَي دولار للخدمات الصحية والماء وجمع النفايات في سبها.

أبعد من هذه المبادرات سريعة المردود، يواجه الجنوب تحديات هائلة تتمثّل في تطوير مصادر بديلة ومشروعة للإيرادات يمكن أن تساهم في إبعاد الشباب عن إغراءات التهريب والمشاركة في المجموعات المسلحة. تُقدّم برامج تحقيق الاستقرار المجتمعي التي تعمل منظمة الهجرة الدولية على تطبيقها الآن في سبها والقطرون، أمثلةً يمكن استنساخها في أماكن أخرى.53 كذلك، لابدّ من القيام بالكثير بعد لرأب الروابط الاجتماعية المتصدّعة في الجنوب. في أوباري، تشمل المجالات الأكثر إلحاحاً التي حدّدها المحاوِرون، الترميم العام للمنازل والبنى التحتية بعد النزاع، والرعاية ما بعد الصدمات النفسية، والإمدادات الطبية والمنتجات الصيدلانية، وتعليم الأطفال، وعودة النازحين، والتدريب الإداري، والتدريب على تكنولوجيا المعلومات. يتذكّر كثرٌ في أوباري، بحنين، مركزاً للمعلوماتية أُنشئ برعاية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وكان يؤمّن التدريب للشباب قبل تدميره في القتال.

انسحاب الجهات الأمنية غير الجنوبية على مراحل. حقّقت الانتشارات المتتالية لمجموعات شمالية في الجنوب بعض الفائدة، لكنها تسبّبت أيضاً بزعزعة الاستقرار، نظراً إلى أن هذه المجموعات الشمالية أظهرت تفضيلاً لبعض الجماعات المحلية المحسوبة عليها، كما أنها غالباً ما تؤدّي دور الوكلاء في الصراع السياسي الوطني بين الفجر والكرامة. ينبغي على الجهات الأمنية في الجنوب والتشكيلات التي تتخذ من الشمال مقراً لها، مثل القوة الثالثة، الاتفاق على خريطة طريق انتقالية لتسليم وظائف ضبط الأمن إلى قوة مؤلّفة من عناصر محليين وخاضعة إلى سيطرة البلديات، على أن تكون مرتبطة بوزارة الداخلية في طرابلس.

دعم مبادرات المجتمع المدني المتعلقة بالقطاع الأمني في الجنوب، ولاسيما المساعي العابرة للقبائل والجماعات المحلية. في غياب مؤسسات حكومية راسخة، ملأت وفرة مجموعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الفراغ في الجنوب. كان لعدد كبير منها أثر مفيد على الأمن، سواءً من خلال الحوار بين الجماعات المحلية أو دعم ضحايا الحرب أو تعليم الأطفال أو التدريب التقني. من الأمثلة عن نشاط المنظمات غير الحكومية في القطاع الأمني جمعية أحرار ليبيا الخيرية التي نظّمت ورشة عمل في سبها لعناصر الحرس الحدودي حول كيفية التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين. تضمنت ورشة العمل تدريباً حول الدعم النفسي، والإسعافات الأولية، وحقوق الإنسان، وإدارة البيانات. من شأن تنفيذ هذه المبادرات بالاشتراك مع الحكومة الليبية أن يقطع شوطاً كبيراً نحو زيادة القدرات في الجنوب وتعزيز الثقة.

إعادة العمل بالرواتب الحكومية في الجنوب، وإيجاد حل لمأزق الهوية الوطنية، وتفعيل موازنات البلديات في إطار مجهود أوسع نطاقاً لإصلاح جدول الرواتب في القطاع الأمني. تبيّن أن قيام وزارتَي الدفاع والداخلية بتسديد الرواتب عبر إيداعها مباشرةً في الحسابات المصرفية الشخصية لقادة الميليشيات، يتسبّب بزعزعة شديدة للاستقرار ويعود بنتائج عكسية. في الوقت نفسه، اصطدمت الجهود الهادفة إلى ربط الرواتب ببطاقات الهوية الوطنية، بمعضلة في الجنوب، لأن عدداً كبيراً من المجموعات المحلية لايملك بطاقات هوية بسبب سياسات فرق تسد التي طبّقها القذافي بوقاحة. يتعيّن على الحكومة الليبية إعطاء الأولوية لتوزيع الرواتب على الجهات الأمنية المحلية عن طريق السلطات البلدية.

إطلاق سلسلة من الحوارات الوطنية مع الجهات الأمنية في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك الجنوب، حول خريطة طريق لإعادة هيكلة القطاع الأمني، تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أو طرف ثالث آخر. باءت المخططات المتعددة لتسريح الميليشيات ودمجها بالفشل في مختلف أنحاء البلاد (هيئة شؤون المحاربين، دروع ليبيا، وغيرهما). والسبب هو غياب الإجماع الوطني حول نوع الجيوش الذي تحتاج إليها ليبيا، وسيطرة العديد من الفصائل السياسية على هذه البرامج. من شأن حوار بين الجهات الأمنية أن يساعد على تطوير هذه الرؤية مع تحديد خطوات فعّالة وبناء الثقة بين مختلف الأفرقاء. يتعيّن على الجهات الأمنية الليبية ورعاتها الدوليين إيلاء أهمية خاصة لتشكيل بديل عن قوة مكوَّنة محلياً تساهم في تعزيز فعالية الجهات الأمنية القائمة التابعة للبلديات والمحافظات فيما تربطها بقيادة وطنية. يُحدَّد جدول زمني لتحوّل هذه القوة على مراحل إلى قوة احتياطية، بينما يجري العمل على تدريب مزيد من قوات الشرطة والقوات العسكرية النظامية.

لقد طوّر الأفرقاء الليبيون، بدعم من المنظمات الدولية على غرار الأمم المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عدداً من المخططات لتشكيل هذا النوع من القوة.55 لكن العنصر المفقود هو الإجماع السياسي والإرادة لتطبيقها. قد يتبيّن أن تشكيل قوة على مستوى المحافظة في الجنوب هو الحل الأنجع لجعل الأمن في يد الجماعات المحلية. وقد يؤمّن ذلك أيضاً الإمكانات الأمنية الضرورية من أجل مواجهة التحديات الفريدة من نوعها في جنوب البلاد.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً