العدد 5338 - الثلثاء 18 أبريل 2017م الموافق 21 رجب 1438هـ

التشكيلي الجنايني: العرب أمّيُّون بصرياً... ومثلث الإبداع موهبةٌ ومهارةٌ وثقافة

الألوان موسيقى بصرية... ومزادات ترفع أسهم فنانين مزيفين...

الوسط - منصور الجمري، علي الموسوي 

تحديث: 12 مايو 2017

على رغم أن شرايين يديه تنساب بين الألوان، وتُحيك لوحات ذات ألوان موسيقية، إلا أنه مسكون في وجع غياب ثقافة سماع الألوان، وقراءة الموسيقى. وجع يلاحقه كلما تقدمت سنيّ عمره. قلبه المولع بالفن والثقافة والإبداع، مازال يحلم بثقافة عربية صرفة في الفن التشكيلي، لا تتكئ على تقليد الغرب.

ذلك هو الفنان التشكيلي المصري أحمد الجنايني، الذي زار «الوسط»، وحاورته عن التحديات التي تواجه العالم العربي في مجال الفن، ومقومات المبدع الناجح. وهو المتمسك بمبدأ «الألوان موسيقى بصرية، تسمع الموسيقى بعينيك في التشكيل، وفي الموسيقى ترى الموسيقى بأذنيك».

ينطلق الجنايني في حديثه من عدم وضوح مفهوم الثقافة لدى الكثيرين من المسئولين في الوطن العربي، ودور المثقف في قيادة الرأي العام، ليصل بذلك إلى التأكيد أن المبدع لكي يكون مبدعاً لابد من توافر 3 شروط لديه. أن تكون لديه الموهبة، وهذه تولد معه ولا يستطيع أن يمنحها إياه أحد، وهي لوحدها لا تصنع فناناً. وأن يتعلم ويمارس العمل الفني بالمهارة، وهذه تُعلم في كليات الفنون أو في مراسم الفنانين المتخصصين، أو ذاتياً، ولكنها لا تعطيهم لقب فنان أو مثقف، أما الشرط الثالث فهو الثقافة.

ويصف هذه العناصر الثلاثة: الموهبة، المهارة، الثقافة، بأنها مثلث الإبداع. كما أنه ينادي بأن يتم التعامل مع الثقافة البصرية باعتبارها عاملاً مهماً في دعم الاقتصاد. فيقول: «أنا من المؤيدين لأن يحاول كل المجتمع العربي بناء جسرٍ للتواصل مع الثقافة البصرية، ومن يمتلك الموهبة سيبدأ الرحلة، وعبر الثقافة سيكمل مثلث الإبداع، وهو الثقافة والمهارة والإبداع».

الثقافة... معرفة

يعتقد الجنايني أن «الثقافة هي جزء معرفي مهم يرتبط بالإبداع وليس من الشرط أن تمارس الإبداع. والمثقف لابد أن تكون لديه حصيلة معرفية عن الإبداع، وليس بالضرورة أن يكون مبدعاً».

ويضيف على قوله: «الثقافة حصيلة معرفية مهمة تتعلق ليس فقط بالمسائل الإبداعية، ولكنها مرتبطة بالعلوم الإنسانية، والغاية من هذه الحياة، لأن كل ذلك ينعكس على المجتمعات والإنسان. الثقافة تخدم الإنسان، ولذلك لابد أن يكون المثقف واعياً للعلوم الإنسانية والاجتماعية. الثقافة تأتي إما عن طريق القراءة أو المعرفة بتجارب الآخرين، أو الممارسة الحياتية، والمثقف عليه المزج بين هذه الصنوف».

ويجد ما نسبته 90 في المئة وأكثر، أن المجتمع العربي أمي بصرياً، فهم لا يفعلون عيونهم بالشكل الصحيح. تستخدم العين للانتباه، وحتى لا يُصطدم بحائط أو عمود إنارة أو لا يقع في حفرة، ولكن لا يُستمتع بالعين في الإبداع البصري.

ويعتبر أن «علاقتنا بالإبداع البصري تنقطع منذ المراحل الأولى في التعليم، وكل يوم جديد يتم تقليص دور الإبداع البصري، وستكتشف أن الأطفال حتى سن السادسة في مصر، ولي تجارب كبيرة وطويلة وبعضها موثق، أن كماً هائلاً من الإبداع عندهم، ولكن عندما يدخلون إلى المدرسة تنطفئ حالة الإبداع، لأن من يقدمون التربية الفنية ليست لهم علاقة بهذا الفن».

ويذكر أنه «شخصياً حينما أعلم الطلبة في مرسمي، أؤكد أن مهمتي معهم منح كم كبير من الثقافة البصرية، بحيث أن تمارس الحياة بعينيك بشكل مختلف، والمرحلة الثانية أعلمهم كيفية الرسم، وليس من الضروري أن يكون موهوباً، فالجميع بإمكانهم طرق باب الإبداع من خلال الثقافة البصرية، ولكن ليس الكل يمكنه أن كون موهوباً».

ويشير إلى أن «المثقف إذا عاش 60 عاماً مثلاً، واعتمد على حصيلته فقط، لا أعتقد أنه سيجد ثمة أشياء مهمة في حياته الشخصية. الثقافة أن يعيش تجارب الآخرين من خلال ما كتبه الآخرون».

ويؤكد أن هناك حالة من الارتباط والعلاقة بين الفنون جميعها، ولا ينفك فن عن آخر، وهو ما يؤدي إلى إدراك الثقافة الإبداعية.

الفنان الجنايني يرى وجود علاقة بين التشكيل والموسيقى، والمسرح بالتشكيل، والرواية والقصة، والسينما، فجميع هذه الصنوف تشتبك معاً، ولا يوجد على الإطلاق مبدع حقيقي يستطيع أن ينتج عملاً إبداعياً من صنف إبداعي واحد، بمعنى أنني كتشكيلي لا يمكن أن أصنع لوحة فنية من خلال ثقافتي الفنية فقط.

المدرسة الدادية... النشأة والموت

يسترسل الفنان الجنايني في حديثه عن مختلف المدارس الفنية والتشكيلية، ومنها المدرسة الدادية، التي انطلقت في سويسرا إبان الحرب العالمية الأولى، عندما وجد مجموعة من الفنانين أن لا قيمة للفن في مقابل قتل الأبرياء.

ويعرّف المدرسة بأنها «هي نوع من افتقاد الثقة والإيمان بأهمية الفنون والثقافة، وهذه المدرسة حوّلت فنانين إلى متشائمين، إلى درجة أنهم كانوا يدخلون إلى المعرض الذي يقيمونه من دورات المياه، كنوع من الاستهزاء والاستخفاف بهذه الفنون».

ومن أبرز قياديي هذا المنهج، الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب، الذي أثار تحفظاً كبيراً على أعماله، وخصوصاً عندما شارك في أحد المعارض بعمل فني لم يكتب اسمه عليه، بل كتب اسماً مستعاراً. وكان العمل يتمثل في «مبولة» من أحد محلات بيع الأدوات الصحية، وعرضها في المعرض، وهو ما لقي تهكماً من لجنة تحكيم الأعمال، واعتبروه استهزاءً بالفن.

يفيد الجنايني بأن المدرسة الدادية لم تستمر لأكثر من عامين، وقام فنانوها بعمل معرضين فقط، وعندما هدأ الغضب الذي سكن قلوبهم، تحولوا من المدرسة الدادية إلى المدرسة السيريالية.

البحث عن هوية عربية فنية

يتحدث الجنايني بنبرة الموجوع على فقدان بوصلة الهوية العربية في الفن، فيقول: «غياب الثقافة الإبداعية الحقيقية عن الكثيرين من التشكيلين العرب، جعل أنصاف المبدعين يهرولون نحو الغرب، وأصبحوا يقلدون فنانيهم تقليداً أعمى، ونسوا أن جميع المدارس التشكيلية وراء نشأتها سبب علمي.

ويضيف «نحن في الدول العربية نحتاج للدفاع عن الهوية العربية. ونحن عندنا من الآليات والموضوعات والحالات التي تملأ آلافاً من اللوحات وأطناناً من أوراق الشعر والقصة والرواية، تعبر عن الإنسان العربي وحالاته».

واستشهد أيضاً برسالة الدكتوراه لإحدى الباحثات المصريات في جامعة عين شمس، وحملت عنوان «حكايات الحيوان في الأدب في الجاهلي»، ليؤكد أنه فوجئ بكم المراجع العربية المليئة بالأساطير المهمة جداً، وهو ما يدل على وجود الكثير من الأساطير في التراث العربي، والتي تغني عن الأساطير الأخرى.

وينوّه إلى أن «ذلك لا يعني الانقطاع عن الثقافة الغربية، ولكن ينبغي أن نهتم بثقافتنا العربية مع ما نتلقاه من الغرب».

الإبداع في منتصف اللوحة

يرى الجنايني أن الفنان المبدع لا يمكن إدراكه حجم وتفاصيل إبداع لوحته إلا بعد انطلاقته في حياكتها، فهو يعرف نقطة البدء في الإبداع، ولكن لا يعرف أين سينتهي، وبالتالي فهو يكتشف ذاته في منتصف عمله.

ويشبّه المبدع بأنه «شخص يمتلك مفتاحاً لمنزل، هو لا يعرف ما بداخل هذا المنزل، ولكن يعرف مكانه المحدد، فهو (الشخص) سينتقل من موقعه إلى هذا المنزل بوعي، ولكن حين يضع المفتاح في باب المنزل، سيبدأ رحلة الاكتشاف، وسيتعرف على تقسيم المنزل».

الفن... سلعة في مزادات وهمية

يجيب الفنان الجنايني على تساؤل يتعلق بمحاولات تسليع الفن، وتحويله إلى سلعة استهلاكية، فيقول: «هذا هو الخلل الكبير، وهناك لوبي في تسويق الأعمال الفنية وإبرازها، فإذا أُريد رفع أسهم فنان متواضع، يقوم هذا اللوبي بعمل معرض لهذا الفنان، في قاعة هم يمتلكونها، ويقومون بوضع سعر على لوحة معينة، لنقل مثلاً مليون دولار، ثم يوضع ملصق يشير إلى أن هذه اللوحة بيعت، وبالتالي يُعطى مفهوم بأن هذا هو سعر أعمال هذا الفنان».

ويجد أن «علينا أن نبني حائط صد لحماية الفن والثقافة، ويجب أن يكون لدى المجتمع العربي الثقافة البصرية التي تجعله يميز بين الخبيث والطيب، وبين الفن واللافن، وبين العمل الإبداعي الحقيقي وبين العمل المزيف، فحين يكون هناك مبدع حقيقي في الوطن العربي سيجد من يشتري أعماله، ويتعرف إلى الفن الحقيقي».

أما عن تجربة استيراد متاحف في الدولة الخليجية، فيشير إلى أن نسبة كبيرة من المتاحف تمتلكها الدول وليس أفراداً. وفي مصر يوجد 28 متحفاً فنياً، المفتوح منها أما الجمهور 6 متاحف فقط، والبقية مغلقة. فالأمر ليس بعدد المتاحف بقدر الدور الذي تؤديه للمجتمع.

مزادات اللوحات... كاذبة

بصراحة كبيرة، يضع الفنان المصري أحمد الجنايني يده على مشكلة باتت منتشرة في أماكن عدة، وهي مزادات بيع اللوحات، وما إذا كان ذلك مرتبطاً بتنمية حركة الفن التشكيلي.

يتحدث بصراحة «هذا الموضوع في منتهى الخطورة، وأنا شاهد عيان على أمور كثيرة فيه. هذه المزادات يتم فيها التعامل مع شخوص بذاتها لرفع قيمة هذه الشخوص، وفي الوقت نفسه، يتم - وللأسف الشديد - الدفع بأعمال تشكيلية ليست أصلية إلى هذه المزادات، استغلالاً لما يسمى باسم الفنان، وخصوصاً إذا كان هذا الفنان من الفنانين الأوائل المؤسسين للحركة الفنية في مصر».

وأعاد ذاكرته إلى أحد المعارض التي أقيمت في مصر، للفنانين السرياليين، وكان معرضاً مشتركاً بين مصر ممثلة في قطاع الفنون التشكيلية، ومؤسسة من الشارقة، ودفع بكم هائل من اللوحات على أساس أنها تؤرخ للسريالية المصرية، حتى الستينيات، واكتشفت حين ذهبت للمعرض، أنه يضم أعمالاً لا علاقة لها بالسريالية، ولكن عُلقت لوضع فنان ما في مستوى معين.

والنقطة الثانية أننا اكتشفنا أعمالاً لا علاقة لها بالاسم الذي عليها، يعني أن هذه أعمال ليست أصلية، حتى أن أحد الأعمال يكاد اللون على اللوحة يكون رطباً لم يجف، أما الأمر الثالث أن هذا المعرض كان نتاج مجموعة من اللوحات في متحف حديث في القاهرة، ومجموعة من مقتنيات شخوص عاديين، ومجموعة أخرى جاءت من الشارقة، وهذا التنوع وضع في قصر الفنون في دار الأوبرا لعمل هذا المعرض، على أن ينقل المعرض إلى باريس ومن ثم إلى الشارقة.

ويضيف «وسط هذه الأعمال كانت هناك أعمال لا يمكن أن تصدق أن من رسم هذه الأعمال له علاقة بالفن، حتى أنني كتبت أن هذه الأعمال لطالب فاشل في الثانوية، في حين أنها وضعت باعتبارها لفنان من السرياليين».

ويتساءل: «ما هو المقصود من خلط أعمال من متحف حديث بأعمال جُمعت هنا وهناك، وتُطرح على أنها معرضاً للسريالية؟ هذا يعني أنهم يريدون وضع التوثيق لهذه الأعمال التي دون المستوى، لتصبح موثقة ويتم التعامل معها على أنها من أعمال الفنانين السرياليين، وبالتالي يرتفع سعرها».

ويخلص الفنان الجنايني إلى أن «هذه المسألة خطيرة، وإذا كانت المزادات تفيد شخوصاً معينة في مقابل اتفاقيات لا يعلمها أحد، فتأكد أنها لن تكون بريئة ونقية. هناك تزييف للواقع التشكيلي والإبداعي، وأعتقد أن هذه مشكلة كبيرة، ولا أتصور أنه يمكن إيجاد مخرج لها إلا عبر تكاتف كبير من الفنانين والمسئولين عن الثقافة والمتاحف المصرية أو متاحف الفنون في المنطقة العربية، لأنها متاحف مهمة في المنطقة العربية علينا أن نهتم بها».

ويختم حديثه بالقول: «المسألة خطيرة وتحتاج حراكاً ووعياً وثقافة وأمانة، وأشياء كثيرة نتملك بعضها ونحلم بامتلاك ما ليس لدينا لمعالجة هذه المسألة».

الجنايني منغمس في موسيقى ألوانه
الجنايني منغمس في موسيقى ألوانه
لوحة أهداها الجنايني إلى متحف الفن بهانوي في فيتنام
لوحة أهداها الجنايني إلى متحف الفن بهانوي في فيتنام
أحمد الجنايني
أحمد الجنايني




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً