العدد 5341 - الجمعة 21 أبريل 2017م الموافق 24 رجب 1438هـ

الذكرى الأولى لرحيل الروائي هاريسون... صانع الأكاذيب التي عاش منها

جيم هاريسون
جيم هاريسون

تمر الذكرى السنوية الأولى على رحيل الشاعر والروائي الملحمي الأميركي، جيم هاريسون (26 مارس/ آذار 2016)، عن عمر ناهز الـ 78 عاماً، إثر نوبة قلبية في بيته بولاية أريزونا. ذكرى أولى لرحيل صانع الأكاذيب التي عاش منها، بحسب تعبير والدته ذات شيخوخة.

هو صاحب رواية «أساطير الخريف» التي تحولت إلى فيلم العام 1994، حقق جائزة الأوسكار، بعد أن شارك في بطولته براد بيت وانتوني هوبكنز؛ حيث يتتبّع فيها تراثاً وجانباً من تاريخ الهنود الحُمر في مقاطعة مونتانا قبل نشوب الحرب العالمية الأولى. أما أحداثها فتدور في إحدى المزارع الريفية.

الفيلم مليء بالحكمة قبضاً على أساطير الخريف، تركيزاً عليها لدى الهندي في قبيلة الشيان، واسمه كو. وبحكم توغّله في تلمُّس جوانب من الضعف البشري والقوة فيها، ونقاء الرجل في اصطفافه مع القضايا العادلة، تناول هاريسون الهنود في صورة إنسانية، متجاوزاً الصورة القارّة والسائدة في جُلّ الأعمال الروائية والسينمائية الأميركية.

سيعتمد هذا الاستعراض على أكثر من مصدر، من بينها مقابلة أجريت معه في «غلين أربور سن»، وهي الأقدم من بين اللقاءات؛ إذ تمّت بتاريخ 15 أغسطس/ آب 1997، إلى جانب لقاء مع مجلة «أتلانتك» الأميركية، أجراه جو فاسلر بتاريخ 7 يناير/ كانون الثاني 2014،

إضافة إلى المادة التي أعدَّتها وترجمت جانباً منها أماني ربيع في «رؤية»، بتاريخ 18 أغسطس 2014، لنختم بجانب من المادة التي نشرتها مجلة «الدوحة» القطرية، في العدد 114، لشهر أبريل/ نيسان 2017، تضمّن الحوار الأخير الذي أجراه بيترنووغرودزكي، وقام بترجمته الحبيب الواعي، نأتي على كل منها بما يقدّم صورة لا تزعم أنها محيطة بشخصية هذا الشاعر والرائي والروائي الملحمي الاستثنائي، مع إضاءة على جوانب من سيرته وأعماله.

هاريسون بدأ الكتابة شاعراً. الرواية أتت فيما بعد، وتظل معظم الحوارات مع هاريسون نوعاً من استدعاء الصوت الأول: صوت الشاعر الذي يمكن تقصِّي حضوره حتى في الأعمال الروائية الملحمية التي أخذت مكانها ضمن أكثر الأعمال مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية. مجلة أتلانتك» الأميركية، ومن خلال حوار أجراه جو فاسلر بتاريخ 7 يناير 2014، طرقت البدايات، وخصوصاً على مستوى القراءات التي شكَّلت الوعي الأول في الذهاب إلى الشعر؛ حيث قال هاريسون: «قرأت ثيودور روثكه في وقت مُبكّر جداً لأنه كان مثلي، من ميشغن. عاش في الدفيئة الكبيرة التي كان يملكها والده. كان رجلاً عظيماً. ربما كان ينبغي عليه أن يستمر لفترة أطول في الحياة أكثر مما فعل. لكنه كان شاعراً رائعاً.

موضع اغتيال لوركا

في مجلة «رؤية»، وبتاريخ 18 أغسطس 2014، يبرز تقرير أماني ربيع، الذي حوى شذرات من لقاء نشرته «إسكواير»، تحدث فيه هاريسون عن الحكمة، التي قال عنها إنه لا يرى «أي دليل على أنها تزداد بالتقدّم في العمر. سيقول كبار السن إن هذا يحدث، ولكنهم لا يقولون إلا لغواً».

وعن الخيال أيضاً كان له كلام تحدد في أنه «لو أطلق العنان له، لما أصبح لخيالنا حدود».

العيش من الأكاذيب، موضوع آخر. الأكاذيب التي يتم استدراجها إلى الخيال الساحر، ذلك الذي يُوجِد مخلوقات وحيوات وأمكنة وأزمنة. كل ذلك برسم الكذب، وأحياناً التلفيق، لكنه كذب وتلفيق ليسا عسيرين من حيث الحضور في الحياة من حولنا. الفارق فقط هو أن كل أولئك يتم التحكُّم فيهم، في صورة أو أخرى كي تخرج تلك المخلوقات والحيوات والأمكنة والأزمنة في صورتها الصادمة والمقلقة أحياناً!

«قبل أسبوعين من وفاتها، قالت لي أمي، الموغلة في الشيخوخة والظرف، عشتُ حتى رأيتك تعيش أحسن العيش من أكاذيبك». وفرت مثل تلك الأكاذيب (الأعمال الروائية) لهاريسون حياة مرفَّهة، وبالمناسبة هو لم يأت من عائلة فقيرة، على العكس، فهو ينحدر من عائلة أرستقراطية، أتاحت له أن يوازن بين حاجاته الضرورية - دون إسراف - وبين الذهاب إلى الكتابة بداية الأمر، بكل ما حوته من خيبات وحضور بطيء، نتج عنه مكانة لائقة به في تاريخ الأدب الأميركي.

في اللقاء مع «إسكواير»، امتد ليشمل حديثاً عن أمكنة وشخصيات. أشار بقوله: «أذهب حتى غرناطة، لأرى موضع اغتيال لوركا على سفح الجبل على يد أتباع فرانكو. فرانكو كان وغداً شريراً، هذا مؤكد، لكن المؤكد أيضاً أنهم لم يمانعوا قط في قتل الشعراء في أميركا».

أحترم الدببة!

في لقاء «إسكواير» كان للبيئة وما يحيط بها من مخلوقات نصيب. الرجل صياد ماهر، لكنه يضع نصب عينيه تجنّب الثدييات. له مع بعضها علاقة صداقة واحترام. يسرد في اللقاء قصة حقيقية تكاد تقترب من الخيال مع واحد من أشرس الحيوانات، التي نادراً ما تكون أليفة مع البشر: الدببة. قال في اللقاء نفسه: «أحترم الدببة. كان هناك دبٌّ ذكر ضخم كنت أترك له السمك الزائد على بعد مئة ياردة من كوخي. كنت أترك السمك على جذع شجرة فيأكله الدب. وحينما أرجع إلى البيت من الحانة، كان يوقفني في بعض الأحيان فأفتح زجاج السيارة، ويضع هو ذقنه على حافة الشباك فأربت على رأسه، ولكن هذا غباء»!

قال عن روايته القصيرة «أساطير الخريف»، إنه كتبها في تسعة أيام. «لكن هذه هي الفترة الملائمة لذلك فعلاً. كانت كتابتها أشبه بالإملاء… ولكنني بعد ذلك استغرقت خمس سنوات في التفكير في ما كتبت»!

تعرَّض في حياته إلى أكثر من حادث وتجربة، من بينها أنه فقد أباه وأخته في حادث مُروّع. كما فقد عينه اليسرى في حادث أيضاً، وعن ذلك يقول، رابطاً الحادثة بالشعر: «ربما ما كنت لأصبح شاعراً لو لم أفقد عيني اليسرى في صباي. رمتني بنت الجيران بزجاجة مكسورة في وجهي أثناء شجار. رجعت بعدها إلى العالم الحقيقي».

يتذكّر الحادثة الأولى وكان في العشرين من عمره وقد قتل أبوه وأخته في حادث مروري. «قلت لنفسي، لو أن شيئاً كهذا يحدث للناس، فلعل بوسعك أنت أيضاً أن تفعل ما تريد، أن تصبح كاتباً. لا تتنازل مهما حدث، فلا معنى لذلك أصلاً».

ظل هاريسون مشغولاً بالتاريخ الهندي، وبالسكَّان الأصليين في بلاده. ظل حضورهم طاغياً في المباشر من الأعمال أو في لقاءاته الصحافية، ولم يتردد في القول: «ما أروع أن يعرف المرء التاريخ الهندي. اللعنة علينا كم كنا مغفلين طويلاً، طويلاً».

وعن تفاصيل يومه وعلاقته بالكتابة أشار إلى أنه يعمل كل صباح. طوال فترة الصباح، وأحياناً في الأصائل. «وأحياناً أصطاد في الأصائل ـ السمّان، واليمام ـ ولكن ذلك فقط بهدف البقاء على قيد الحياة، فالكتّاب يموتون بسبب نمط حياتهم، ويموتون أيضاً بسبب عدم الحركة.

تأثير التأملات الطويلة

من بين الأسئلة في مقابلة مع «غلين أربور سن»، بتاريخ 15 أغسطس 1997؛ أي قبل 19 عاماً من رحيله، تلك التي تتعلق بالتغيّرات الإيجابية والسلبية التي شاهدها في المنطقة (المنطقة التي يقيم فيها) على امتداد سنوات، وأجاب بالقول: «على الجانب الإيجابي، هنالك محلات البقالة والمطاعم التي أصبحت في حال أفضل، وبالنسبة إلى الأهالي المحليين هم في النهاية في الشكل الذي يقترب من صورة وثيقة مع ما يستحقونه. عندما انتقلنا للمرة الأولى إلى هنا قبل 30 عاماً كانوا يواجهون أوقاتاً صعبة، وكانوا يُعاملون على نحو سيء كما كان يُعامل السود في ولاية ميسيسيبي. على الجانب السلبي هناك الكثير من الناس بدأوا ينتقلون من المكان، ولكن بعد كل ذلك لا أستطيع حقاً إلقاء اللوم عليهم. لقد فات الأوان أيضاً بالنسبة لي كي أنتقل من هنا. عدد كبير جداً من المقيمين مؤخراً هم أغنياء وسياسياً هم على المسار الصحيح، وهم ممن يريدون تحقيق تغيير في كل شيء».

وفي سؤال آخر: كيف أثّرت هذه المنطقة على كتابتك؟ وأي من أعمالك تأثر على وجه التحديد بالبيئة المحلية؟

أجاب: «لست متأكدا من تأثير هذا المكان على كتاباتي لأنني لست ناقداً أدبياً. التأثيرات تأتي من خلال التأملات الطويلة، ونحن قبل ذلك نبدو عاجزين تماماً».

الكتابة طريقة لرؤية العالم

من جانبها خصصت مجلة «الدوحة» القطرية، في العدد 114، لشهر أبريل 2017، صفحات أربع نقلت فيها لقاء أجراه بيترنووغرودزكي مع هاريسون، ترجمه الحبيب الواعي. لم يكن الحوار استثنائياً بقدر ما كان إعادة صوغ لأسئلة سبق وأن واجهها هاريسون في عديد المجلات والمطبوعات من بينها: «جي كيو»، «أتلانتك»، «أنجلر»، «إسكواير»، «وول ستريت جورنال»، و»باريس ريفيو». لا يتبرَّم هاريسون من الأسئلة المتكررة لأنه يجد طريقة ما للتحايل عليها، والخروج بإجابة لا تشعره بالضجر قبل أن تشعر القارئ بذلك. سؤال من قبيل: هل أنت شاعر أيضاً؟ أجاب: «كان ذلك شغلي الشاغل، منذ أن قرأت كيتس، في الرابعة عشرة من عمري. قلت متلذّذاً: هذا ما أتوق إليه. كتابة الشعر دعوة، وليست وظيفة. إنها دعوة دينية كما تعلم. أنا هنا، رجل عجوز، لكني نشرت 40 كتاباً، وهو نوع من التقليد يعود إلى القرن التاسع عشر، لا أعرف ماذا أفعل، لذلك أكتب. إنها طريقتي في رؤية العالم».

وسؤال من قبيل: ماذا تكتب حالياً؟ لعل معرفة عنوان عمله الأخير من بين أهم ما جاء في الحوار؛ حيث أشار إلى أنه يكتب رواية تُسمَّى «الفتاة التي أحبّت الأشجار» (The Girl Who Loved the Trees)، «تتحدث عن فتاة ترعرعت في شبه الجزيرة العليا لـ (ميشغن) حيث تاريخ زراعة الأخشاب يشكّل قصة رعب. هذه الفتاة مهووسة بالأشجار، وهوسها يدعمه والدها الحزين مثل عائلة زوجتي. يمكنني أن أستكشف الكثير عن تاريخ قطع الأخشاب، و - أيضاً - حول الأشجار نفسها، شيء أجده رائعاً للغاية. إننا نشترك في الكثير من الحمض النووي مع الأشجار».

وعودة إلى الشعر، ذلك الذي عُرف به هاريسون: كيف هي ممارسة الشعر؟ يجيب: «أنا، فقط، أحاول أن أكون ثاقباً. على الشاعر أن يكون، دائماً، جاهزاً للخبز الذي يأتي طازجاً من الفرن. أليس هذا التصريح مثيراً للاهتمام؟ قال القديس أوغسطين شيئاً رائعاً: «ثواب الصبر هو الصبر»، وهو شيء صحيح. لقد اعتقدت - لا أعرف ما إذا كنت تتفق معي - أن ما يحتاجه الكتّاب، قبل كل شيء، هو التواضع، لأنه لا شيء يقومون به يستطيع أن يجعلهم أكثر نجاحاً. إنه هراء؛ التواضع يفلح».

شيء من الضوء

جيم هاريسون (1937-2016) شاعر وروائي أميركي من مواليد مدينة غرايلينغ بولاية ميشغن. نشر أول مجموعة شعرية بعنوان «أغنية بسيطة» العام 1965 نشر بعدها ما يزيد على الاثنتي عشرة مجموعة فضلاً عن شهرته كروائي، صدرت له العديد من الروايات القصيرة من بين أشهرها «أساطير الخريف»، «الانتقام» و «الرجل الذي تخلى عن اسمه». من عناوين مجموعاته الشعرية: «رسائل الى يسنين»؛ (1973)؛ «العالم الطبيعي» (1982)؛ «شكل الرحلة» 1998؛ «انقاذ ضوء النهار»؛ (2006) و «بحثا عن ارباب صغار» (2009).





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً