العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ

الشخصية الاسرائيلية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في قراءة المؤرخ والباحث الاجتماعي علي الوردي لـ «الشخصية العراقية» يتبين ان سبب اضطراب الدولة وعدم استقرارها يعود تاريخيا إلى جغرافية العراق وانكشاف أطرافه وحدوده على مساحات سكانية مجاورة كانت ترفد البلاد بهجرات بدوية (صحراوية وجبلية) تزعزع الاستقرار الحضري وتعيد تشكيل «شخصية» المجتمع في كل فترة زمنية.

إلا أن كلام الوردي عن العراق يمكن سحبه على الكثير من الحالات المشابهة في المنطقة. فهذه الهجرات (التنقل والترحال) مسألة عادية في بلدان متجاورة ومتجانسة دينيا. فالمنطقة قبل التقسيمات الاستعمارية الحديثة (عشرينات القرن الماضي) كانت مفتوحة على بعضها.

الشيء غير العادي في المنطقة هو «اسرائيل». فهي الجسم الغريب الذي تم زرعه من خارج قوانين الطبيعة والاجتماع وعلى رغم انف البلدان العربية والاسلامية. فـ «إسرائيل» في تكوينها وتاريخها تنتمي إلى ثقافة «مستوردة» بالكامل وتتركب من شخصية ثقافية لاصلة لها بالنسيج التاريخي المشترك الذي يوحد شعوب المنطقة.

قامت «إسرائيل» ايضا على فكرة الهجرة والترحال. إلا أن أساسها يختلف عن طبيعة الهجرات المتبادلة بين شعوب المنطقة سواء العربية او جوارها الطبيعي ومحيطها التاريخي. الهجرة الاسرائيلية هي اقرب إلى التهجير المصطنع ضمن خطة مبرمجة سياسيا وليس طلبا للرزق والمعاش. والهجرة الاسرائيلية قامت على مشروع منظم أساسه تهجير المقيم والاستيلاء على ارضه عنوة بدعم وتسليح وتمويل من الخارج (الا نتداب البريطاني بداية). إلا ان الهجرة (التهجير) لم تتم دفعه واحدة، بل جرت على دفعات زمنية وتواصلت بعد قيام «الدولة العبرية» في العام 1948. بدأت الموجات الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وتوزعت بعلم من السلطنة العثمانية على بعض قرى الجليل في فلسطين وقرب مدينة يافا الساحلية. لم تعترض الدولة على المسألة اذ اعتبرتها بمقاييس ذاك الزمان مجرد رعاية انسانية لفئات تعرضت لعمليات اضطهاد واقتلاع في بلدانها الاصلية (اوروبا الشرقية). اختلف الامر حين تفككت السلطنة وانهارت المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها. المنطقة لم تعد مستقلة وخضعت للانتداب مباشرة وبدأت تظهر تكوينات سياسية لدويلات عربية تشكلت خرائطها وفق إرادة جنرالات ووزراء خارجية فرنسا وبريطانيا. اندآك وبعد صدور وعد بلفور ظهرت المسألة على حقيقتها وبرز الوجه السياسي للهجرات وتراكمت الموجات إلى ان تم تغيير التركيب السكاني وتبدل أجزاء واسعة من الهوية الفلسطينية. إلا أن المسألة الأبرز هي أن موجات الهجرة لم تتوقف بقيام الدولة العبرية بل استمرت وفق هجرات منظمة وممولة وضمن مخطط «وعد إلهي - سياسي» يقوم على فكرتين: الاستيلاء والاستيطان.

استمرار الهجرات يشبه ترحال البداوة ولكنها بداوة معاصرة لا تتنقل من جوار إلى جوار وتتشتت بل تنتقل من بلدان مشتتة إلى بلد محدد ضمن سياق منظم ومؤدلج. فهذه الموجات هي اشبه بالبداوة السياسية تبحث عن مكان ليس للاستقرار والعيش بل للحرب والتوسع.

وبسبب من تقطع الفترات الزمنية بين الهجرات اليهودية تشكلت «شخصية اسرائيلية» مضطربة وغير مستقرة. فما ان يستقر القلق على حد مشترك حتى تأتي موجة جديدة تجدد الشعور بالغربة والاحساس بالخوف من المستقبل. وما ان يتم استيعاب الموجة الجديدة وتدرج في سياق مشروع الدولة حتى تأتي موجة اخرى تعيد انتاج القلق والاضطراب النفسي والبدء من جديد في البحث عن مكان لها في وسط محيط فلسطيني حذر غير مستعد لتقبل المزيد من الهجرات.

هذا التقطع في الهجرات المنظمة (السياسية) اسهم في تركيب «شخصية اسرائيلية» متنافرة في دولة تستخدم النص الايديولوجي لتأسيس مشروع توسعي منسجم مع نفسه وضد المنطقة ومحيطها. فالهجرات اصلا غير موحدة. إلا أن الجديد في مسألة «اسرائيل» ليس بعدها الايديولوجي في مشروعها السياسي بل هو انقسام الدولة نفسها على نوعين من الهجرات. فهناك موجات قديمة استقرت وتطلب الهدوء وتميل إلى المسالمة داعمة بعض الاتجاهات السياسية في حزب العمل وميرتس، وهناك موجات جديدة لم تستقر وتطلب المزيد من الحرب والاستيلاء لتأسيس مكانها الخاص في «دولة الميعاد» وهي تميل إلى دعم الليكود والاتجاهات العنصرية المتطرفة.

الجديد إذا هو الانقسام بين الموجتين (البدويتين) القديمة تذهب نحو الاستقرار، والجديدة (مليون مهاجر من دول المعسكر الاشتراكي) تدفع نحو الاضطراب من دون حسابات لفضاءات المنطقة ومصالحها ومصيرها. والانقسام ليس جديدا الا انه للمرة الاولى ينتقل من الافكار إلى الواقع ومن الاحزاب إلى الاجتماع. فالدولة لم تعد موحدة كما كانت أيام «النكبة» بل بدأ يشق تماسكها الايديولوجي توترات اساسها اختلاف مصالح موجات البداوة المعاصرة بين هجرة استقرت وأخرى تبحث عن الاستقرار. وهنا الخطورة في مشروع شارون وربعه... فهو يريد قيادة الموجة الجديدة نحو الحرب والاستيلاء

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً